فلسفة التحايل فى “باب رزق ” 

محمد السيد إسماعيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد السيد إسماعيل

التنوع هو السمة الواضحة فى اعمال الكاتب المبدع عمار على حسن الروائية فهو لايتوقف عند نمط ابداعى واحد فقد جرب توظيف كرامات الاولياء والمتصوفة صانعا بذلك مايمكن تسميته بالعجائبية العربية كما جرب مايعرف بالرواية السياسية خاصة ماكتبه بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ومع ذلك يظل هناك ملمح اساسى فى هذه الاعمال وغيرها وهو تصوير حياة الفقراء والمهمشين سواء فى القرى او المدن المصرية وقد يطغى هذا الملمح مشكلا عالم الرواية وقد ظهر هذا جليا فى اعماله الاولى وهاهو يعاود الظهور – بقوة – فى روايته الاخيرة “باب رزق ” وتنكير العنوان يوحى بداية بتعدد اشكال السعى على الرزق والتى يقوم معظمها على التحايل الذى لاتملك هذه الطبقات المعدمة سواه وبطل الرواية شاب صعيدى فقير ارتحل من جنوب مصر الى القاهرة لاكمال دراسته مابعد الجامعية فى محاولة للارتقاء بمستواه الاجتماعى باعتبار التعليم هو العامل الوحيد المتاح للحراك الاجتماعى وصعود ابناء الطبقات المعدمة والمهمشة الى طبقات ارقى فى السلم الاجتماعى وبسبب الفقر الذى جاء به هذا الشاب – رفعت عبدالحكيم – من الجنوب اضطر للسكن فى منطقة شديدة الفقر تسمى تل العقارب الامر الذى جعله يخالط بشرا على خلاف شخصيته المثقفة الحالمة بالتغيير ولايجد دنياه البديلة الا فى الكتب وعشق “سميرة ” ابنة صاحب البيت الذى استأجر احد غرفه .سميرة هى الاستثناء الجميل فى هذا الواقع القاسى القبيح ولعل بيعها الورد للعشاق يعد ايحاء بهذا الاستثناء الذى يتمثل للسارد طيفا جميلا عابرا على نحو مايظهر فى قوله ” رأيتها ومددت يدى لأقطفها فى لهفة وافتتان نافخا فى لحظاتى البسيطة معها لتصير وكأنها عمر بأكمله او هكذا تمنيت ان تكون …نعم روح سميرة هى التى كنت احاول ان ارى ” ( “باب رزق ” عمارعلى حسن ص 36دارنهضة مصر 2015) هذا التعلق الذى بدأ روحيا سوف يتحول الى علاقة حسية بفعل المكان العشوائى المفتوح الذى تتكشف خصوصيات بيوته .الامر الذى كان يشعل رغبة السارد فى الاشباع الايروتيكى وهو مايضعنا امام نمط البطل الاشكالى الذى يرغب فى تجاوز هذا الواقع البائس لكنه يظل واقعا فى اسره وتحت وطأته سواء عن رغبة فى البداية – بسبب وجود هذه الفتاة – او رغما عنه فى نهاية الامر حين تدبر الاسرة كلها – بالخديعة – امر زواجه منها بعد اعتداء “سعد سلطة ” – بلطجى المنطقة – لها وتتعمق اشكالية هذا البطل فى عشقه للفلسفة التى يراها ابناء بلدته شيئا عديم القيمة والجدوى ويراها “عبدالشكور” – والدسميرة – نوعا من الفذلكة ولاشك ان هذا ولاشك ان هذا راجع الى النظرة التقليدية لرجل الفكر العائش فى تجريداته وبرجه العاجى وهى النظرة التى غيرها احد اساتذة الفلسفة حين شرح للسارد وزملائه ” فلسفة التحايل ” على الرزق التى تميز المصريين وباسقاط هذه الفلسفة على اسرة عبدالشكور سوف نجدها شديدة التطابق فابو عوف – احد ابناء عبدالشكور – يصف تحايله على الاثرياء بقوله ” أثبتهم لكن بطريقة محترمة ” حين ينافقهم ويداعب كبرياءهم الزائف حتى يأخذ ” جزءا قليلا ممافى جيب من يقصده وهو راض ” (ص21) هو اذن يقصد اصحاب الجيوب المنفوخة وهو ما يعكس الحس الطبقى الذى يتم التعامل معه بالتحايل لاالصراع فالصراع كما تعكسه الرواية يتم داخل هذا المجتمع الفقير المهمش الذى يتسلط عليه “سعد سلطة ” – ولنلاحظ دلالة الاسم – وعصابته التى تأتمر بأمره وتثير الرعب فى الجميع بتواطؤ من الحكومة التى تأخذ من سعد”ثمن سكوتها عن كل مايفعله ” ويلخص السارد هذه المفارقة بسخرية مريرة حين يقول ” رجال شرطة يبلطجون وبلطجية يحكمون ..سيان ” فنحن امام طبقة تتآكل من داخلها ويحكمها قانون القوة فيما بينها وقانون التحايل فى علاقتها مع الطبقات الاخرى التى مثلتها “اسماء” زميلة “رفعت ” فى الجامعة وابنة احد الاثرياء وهى جميلة الجسد والعقل كما يصفها السارد والذى راها جديرة بأن تكون حبيبة فيلسوف ورغم بارقة الامل التى اعطتها اسماء له بان يجد عملا عند ابيها بعد ان سدت امامه ابواب العمل فى الصحافة فان هذا الامل سرعان ماتبدد بسبب انكشاف امر تسوله امام زميلة جامعية وهو مايعنى استمرار وقوعه فى اسر هذه الحياة التى اختارها “عبدالشكور” له حين عمل مداحا للرسول سعيا وراء رزقه الامرالذى انتهى به الى التسول الصريح .منطق عبدالشكور هو الذى يتغلب فى النهاية رغم محاولات السارد العديدة فى الهروب منه ويمثل الزواج الذى تم بالخديعة رباطا دفعه مضطرا الى ضرورة الاستجابة حين امتدت يد عبدالشكور بمبخرة مكتوب عليها ” ومن شر حاسد اذا حسد ” قائلا له –فى نهاية الرواية – “اسع على رزقك ” ومما سبق يتضح توزع شخصية البطل بين طبقتين استطاعت الادنى ان تقيد تطلعاته وتأسره داخلها وتمثل سميرة واسماء رمزين لهاتين الطبقتين وتوحى النهاية بانسداد افق الحراك الاجتماعى الذى كان التعليم وسيلته الاساسية وظلت حياة رفعت اشبه بحياة ” طائر جائع حبيس يرى الحب امامه اكواما لكنه عاجز عن الذهاب اليه ” ويأتى التضمين مؤكدا لهذه الفروقات الاجتماعية الحادة مابين اناس يعيشون تحت خط الجوع واناس يهرولون الى سياراتهم الفارهة هذه الحالة يؤكدها تضمين قول المتنبى “نامت نواطير مصر عن ثعالبها /فقد بشمن وماتفنى العناقيد” وهى الية مستكرة على مدار الرواية كما يتضح من تضمين بعض المدائح النبوية والايات القرانية وتاريخ بعض الاماكن .هذا التضمينات تعكس جانبا من شخصية السارد لكنه يظل – شأنه شأن الجماعة التى يعيش بينها – يتحايل على اشباع احتياجاته الاساسية ورغباته المكبوتة ولو عن طريق استراق السمع او التلصص ولا تختلف حياة البطل فى قريته الجنوبية عنها فى مكان اقامته فى القاهرة ونفهم ذلك من خلال تقنية الاسترجاع ” انا فى قريتى الراقدة بين الجبل والماء تتحسس صدرها الضئيل تحت الشمس البهية لى اصدقاء قليلون واعداء كثيرون جدا بحكم ماأتيه به عليهم ” ومايتيه به عليهم هو حب الفلسفة والمعرفة التى كان من المفترض ان تكون الوسيلة الوحيدة للارتقاء الاجتماعى لكنها اصبحت فى مثل هذه الاماكن سببا فى اغتراب اصحابها ومعاناتهم الى الدرجة التى يمكن ان نقول فيها اننا ازاء شخصية مهزومة لم تستطع ان تهرب من قدر المكان أو ترتقى فوقه.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم