في زمانٍ بعيدٍ لم يكن فيه العالمُ قريةً صغيرة، كانت هي الصغيرةٌ في قريةٍ بعيدةٍ لأسرةٍ ضاق بها الحال فاستندت إلى طفلتها صاحبة الصوت الساحر والنادر تطلب من خلاله الرزق. لا أعلم حجم المحرمات التي كانت تحاصر المرأة آنذاك ليكسوَ الشيخ الفلاح (إبراهيم البلتاجي) ابنته ذات العشرة أعوام زِيَّ غلام، تُخفِي شعرَها تحت كوفيةٍ وعقالٍ لإقناع الجمهور أن المغني صبيٌّ صغيرٌ وليس فتاة؛ لتغني في بيت شيخ قرية ” طماي الزهايرة” مركز السنبلاوين، ثم القرى المجاورة أمام جمهور ذكوري كبير بصحبة والدها وأخيها الأكبر، إنها “صاحبة العصمة، ست الكل، سيدة الغناء العربي، كوكب الشرق، أم كلثوم “.
يتمركز كل شيء في مصر-حتى يومنا هذا- في قلب العاصمة “القاهرة” وعلى المقيمين خارجها قطع مشوارٍ صخريٍّ بكفاحٍ مضاعفٍ للوصولِ إلى مركز الأحلام وإلا ربما ظل هاويًا مغموراً لا يعرفه سوى جيرانُه وأصدقاؤه.
ضربت أم كلثوم مثالاً للمرأة الناجحة، الفلاحةُ الذكية المثابرة، الطموحة التي جاوزت باجتهادها أقصى حدودَ الأمنيات، فلاحةٌ وحَدتْ بصوتِها العالمَ العربيّ بأسره، وصفّقَ لها الشرقُ والغربُ وانحنى لجلالِ صوتها الحكام. إنها أيقونةُ مصرَ التي تخرج دوماً من المذياع في مقاهي المغتربين في أوروبا وأمريكا وجنوب إفريقيا وبلاد الوطن العربي حتى الآن.
بدأ صيت أم كلثوم يذيع منذ صغرها عندما اصطحبها والدها – مؤذن القرية – وهي في العاشرةِ من عمرها لتغني معه التواشيح الدينية كمصدر دخلٍ إضافيّ للأسرةِ الفقيرة، حالفها الحظ بسماع الشيخين ” زكريا أحمد وأبو العلا محمد ” لصوتها وأقنعا أبيها بالانتقال إلى القاهرة، وهنا انتقل الحلم إلى المركزية ليتسع مدى أم كلثوم وتصبحَ مؤسسةً غنائيةً متكاملةً تزخرُ بالعديد من المبدعين المنفردين مثال: (بيرم التونسي ،أحمد رامي ، رياض السنباطي ، محمد القصبجي ، محمد عبد الوهاب والشاب المبدع بليغ حمدي).
مواطن قوة شخصيتها
تميزت أم كلثوم بقوة شخصيتها وذكاءها وقدرتها على اتخاذ القرار، قرارُ الكلمةِ واللحنِ والتوقيت، دون استنادٍ إلى أحد أو توكيل أمورها لرجلٍ تعتمد عليه، وحدها كانت تصنع القرار وتختار من يخدمون نجاحها ويدفعون بها إلى القمة، تلك الفلاحة صاحبة الذوق المتطورِ في الكلمةِ والموسيقى والإحساس، لتتفوقَ على ملكة الغناء في العاصمة وقتها ” منيرة المهدية “، ولم تكن أم كلثوم شديدةَ الجمالِ بما يفرض سطوتهُ على الرائي فيسهّل لها طريقَ القبولِ والانتشار، وإنما صوتُها وموهبتُها وحدهما من حققا لها هذا الانتصار الدائم. كما كان لأم كلثوم ذكاءٌ في اختيارِ ملابسها التي تنالُ إعجابَ الجمهورِ الشرقيّ المحافظ، فبرغم تطور الأزياء إلا أنها ظلت تلبَسُ فساتين الكُمّ الطويل.
تمردت على أعرافِ القرية، بل على أعراف المجتمع الشرقيّ في زواج البنات لتظل الآنسة أم كلثوم التي تزوجت الفن في صباها ولكنها امتلكت قوةً لتتزوج من طبيبها الدكتور ” حسن الحفناوي ” وهي بنظارةٍ سوداءَ تواري بها جحوظَ عينيها لمرضٍ في الغدة الدرقية.
أشدُّ ما يعجبني في أم كلثوم أنها المرأةُ التي أجبرت الرجلَ على احترامها والتصفيقِ لها، في ظل مجتمعٍ شرقيٍّ اشتُهِرَ بتقليلهِ شأن المرأةِ لنجدَ رجلاً في قمةِ أُبهتِه يخرجُ عن وقارهِ ويقول “عشرة على عشرة على عشرة ياست”، والصفوفُ الأماميةُ تحت مسرحها عامرةٌ بالرجالِ ذوي المناصب العليا الذين تتورم أيديهم من التصفيق والتهليل لأنهم في حضرة الست، العجيب أن هناك من الشيوخِ الذين يحرّمونَ الموسيقى، يستثنون صوت “الست ” !.
المرأةُ التي سارَ في جنازتها (4 مليون شخص) لتكونَ من أعظم ثمانِ جنازاتٍ في العالم والمصنفةُ من أشهرِ خمسين سيدةٍ على مستوى العالم، لكلٍ منهنَّ عبقريتُها وتاريخُها، فهي تمتلكُ نٌدرةً مطلقةً في الإحساسِ وعواطفَ زخمةً وصدقاً لن يتكررَ لتكون أولَ فنانةٍ تتربعُ على قمة الفنِ لمدةِ نصف قرن؛ فآهة أم كلثوم في موضعها النغمي تُقطِّع القلوبَ وتُسيِل الدموعَ وتشحذُ الهممَ في أغانيها الوطنيةِ كنوعٍ من طاقاتِ الطبيعةِ المتجددة.
تاريخُ أم كلثوم هو العملُ الدراميُ الإنسانيُ الذي بالرغم من إسدالِ ستائرهِ بموتِها في 3 فبراير 1975 إلا أنَ الجماهيرَ لازالت تصفقُ حتى الآن.