ياسر عبد الحافظ
فى رمضان الماضى راجت جملة من مسلسل تليفزيونى تسخرمن عقد التسعينيات باعتباره ذكرى. تحولت الجملة إلى «ترند» مثير لأسى التسعينيين الذين بدوا كما لو أن انقضاء الزمن فاجأهم، لكن النقاش الذى انفتح يقول أن ذلك العقد الذى شكل بداية مرحلة من التغير تواصلت على مراحل متعددة إلى أن اكتملت فى 2011، لم يمر بعد، وأن مفاهيمه الأساسية لها وجودها وتأثيرها رغم الإدعاء بزواله هو نفسه.
هذا العدد الذى أعده، وأشرف عليه بالكامل، زميلى حسن عبد الموجود، مثل لى فرصة للعودة إلى ذلك الزمن، التسعيني، ولو لمدة أسبوع، أخرجت فيه من المكتبة كتبًا، دواوين شعر وروايات، صادرة عن دور نشر هى من علامات ذلك الزمن: ميريت وشرقيات وهيئة قصور الثقافة.
لم أكن أقرأ بقدر ما أتلمس الورق القديم وأتأمل الأغلفة، وأقرأ الإهداءات ساعيًا لتذكر الجلسات التى تشاركتها مع أصحابها، النقاشات والجدالات الطويلة التى لا تنتهى مسحورين بما نثيره من صخب، بلا اهتمام كثير بما قد يترتب على أفعالنا من نتائج، فالثابت الوحيد وقتها كان الصلة المقطوعة بالمفاهيم السابقة والاكتفاء بمجاراة الواقع فى لحظة تشكله، بما يعنيه هذا من مخاطرة بفقدان الفن إن جرفه الواقع وهو ما حدث فى حالات عدة فقد فيها أصحابها قدرتهم على التنسيق بين شروط الفن الممارسين له والواقع المنخرطين فيه، وعلى الأغلب فضلوا هجر المشروع الفنى ومتابعة الفرجة على ما يجري.
غياب المفاهيم هو أيضًا، من وجهة نظري، ما قاد، إلى اللحظة ذاتها التى واجهها الجميع فى ٢٠١١ يناير، تلك التى جاءت لتطرح أسئلة صعبة ومعقدة على التيارات والنخب الثقافية والمبدعين من أجيال مختلفة، لكن ٢٥ يناير كانت بالأساس اختبارًا حقيقيًا لجيل التسعينيات وقدرته التى طالما تباهى بها على قراءة الأحداث وإن لم يتفاعل معها، ونظريًا فقد كان من المفترض أن تمثل 25 يناير لحظة انتصار وتتويج لذلك الجيل، باعتباره نتاجًا طبيعيًا لها، وربما هذا ما بدا وقتها لكن، ومع مرور الزمن وابتعادنا عن تلك اللحظة، ازداد وضوح أن ٢٠١١ أتت لتضع نقطة نهاية على الجملة التسعينية، وأن ما جاءت به لا ينسجم مع معاييره وما تشكل عليه، بل هى مفاهيم جديدة أكثر قسوة من كل ما سبق يتبدل وفقها العالم كله ويعاد تنظيمه بتسارع لا يحتمل إيقاعه اللامبالاة التسعينية ونزوعها فى التمهل للاستمتاع بالفرجة!
لاعلاقة عضوية بين هذه الافتتاحية وبين هذا العدد، كما قلت ليست هذه أكثر من فرصة للعودة وتلمس ذلك الزمن، لسماع أغنياته وقراءة إبداعه، للتمشى بين دروب الحنين التى أنتجها مطاردًا بها معنى نسى أصحابه أن يضعوا له نظرية، وهو ما يجعلنا الآن نتذكر «الحنين» ولا نفهم أسبابه!
لا أسعى هنا للحديث عن الشعر فله أهله، من يمكنهم الكلام عن المنجز التسعينى الشعري، وهى مهمة شاقة، لقراءته فى ذاته أو فى اختلاف لحظته عما سبقها، وما أسس له، أو ما أغفله، وبديهى أنها ليست أحكامًا نهائية أكثر من كونها فرصة للعودة إلى قراءة هذا المنجز والنقاش حوله، والأهم فى كونها فرصة للعودة إلى الشعر، هذا الذى بغيابه، أو تغييبه، لا أدرى حقيقة أى الفعلين يصح استخدامه فى سياقنا، لكن المؤكد أنه فى الحالتين فإن ابتعادنا عنه أفقر حياتنا مما يقترحه هذا النوع الفنى من خيال يقدم به صورًا مغايرة للواقع تمكننا من التعامل معه بعد أن تم تخليصه من لغو مقاربًا بهذا ما ينبغى أن تكون عليه الحياة فى تصوراتها المثالية.
فى ذلك الوقت، التسعيني، تشكلت الظروف والعوامل المناسبة لإنتاج جيل مختلف، هنا لا أتحدث فقط عن الجيل الأدبى والفنى والثقافي، بل عن مزاج عام خرج ضاغطًا وساعيًا إلى التخلص من الإرث القديم بأكمله المتراكم منذ الخمسينيات، المقولات والشعارات الموجودة على الورق ولا مردود لها على الأرض، الانفصال الهائل بين الخطاب والمعنى، وعلى هذا يمكن فهم الانحياز التسعينى إلى الشارع وتفاصيل الحياة اليومية بوصفه الحاضر المتجدد الذى لا تشبه لحظة فيه الأخرى، ببلاغته البسيطة المستندة على تاريخ طويل وثرى من الخبرات، ووفق هذا أيضًا يمكن استيعاب العلاقة التى قامت بين المثقف التسعينى ومجتمعه والتى هى على خلاف ما قام فى الستينيات، فليس لدينا هنا طرفان أحدهما «عارف» والآخر يحتاج إلى التثقيف، كما أنه، وهذا هو الأهم، لا توجد نظرية ما جاهزة يتم نقلها، بل عملية تبادلية يتأثر فيها كلاهما بالحياة التى يصنعانها سويًا، وعلى هذا تم الترحيب، على مضض، بالحل التسعيني، لأنه لا يسعى للقطيعة أو الرفض، وهذا ما قدمه فى صورة المنقذ من المأزق المعقد الذى طال بلا حل، الذى يسمح ببقاء القديم ويضخ إليه دماء جديدة تسمح له بلحظات من السكينة لمراجعة المشروع بأكمله فى إطار تغيرات الواقع. لم تكن التسعينيات نقطة انفصال مثلما جاءت السبعينيات معلنة العداء وإن كان على أسس جمالية، بل أتت التسعينيات بمثابة الجسر ما بين الماضى ولحظة الحاضر، وهى ممارسة ليست معهودة فى حضارة يأتى الأحدث فيها ليزيل آثار من سبقوه.
المثير للسخرية أن القانون الذى ارتضت به التسعينيات انقلب عليها بعنف، الاستسلام لإيقاع الواقع وتياراته مخاطرة أصبحنا ندرك الآن عواقبها، فبعد الاستقرار النسبى على قواعد اللعبة لم يتوقع أحد أن لحظة أخرى قادمة لتعصف بما تبقى من إرث الستينيات، والسبعينيات، وبالزهو التسعينى المبالغ فيه الذى لم يتمكن من قراءة معطيات واقعه بشكل جيد فلم يستوعب أن الألفية الجديدة ليست علامة زمنية فقط بل عصر مغاير لا يتصل بالماضى أو بالحاضر بل يسير بوعى فوضوى يطيح بأى مشاريع تسعى للاندماج معه أو للتأسيس عليه.
انتهت التسعينيات! لا مانع بالطبع من قبول الحكم بذلك، لا يمكن استشراف بدايات ما إلا بإعلان نهاية. لكن السؤال عن التسعينيات لابد أن يبقى قائمًا لتخيل،والسماح بوجود أشكال أخرى قادرة على التأسس على مقترحاته، فمع أن السقوط، المفترض، لذلك العهد جاء من رفض الإطار النظرى الجامد، إلا أن هذا ما مكنه من تقديم حلول فنية أسهمت فى الموازنة بين أكثر من مدرسة فنية بحيث يمكن استعارة أشكال ستينية وسبعينية فى إطار نص مفتوح لا تقيده الأيديولوجيا، نص يسعى للتعبير عن واقعه وذاته فى الوقت نفسه متحررًا مستفيدًا فى ذلك من الضمانات التى وفرها لنفسه عندما تخفف من المرجعيات.
بهذا الشكل من التفكير.. كيف يمكننا وصف اللحظة الحاضرة؟ إن كنا قبلنا تفتت المشروع العام إلى مشاريع فردية، وفى ظل غياب مؤسسة الثقافة، سلبًا وإيجابًا، وبعد أن امتلك الجمهور، عبر التكنولوجيا، حق المشاركة فى إنتاج الفن وتوجيهه، ومع غياب أى صوت فاعل ألا يمكن القول إن المنطق التسعينى ما زال المهيمن على الرؤية العامة وإن تخفى فى أشكال أخرى كما كان حاله دومًا!
………………..
*افتتاحية أخبار الأدب ـ عدد 16 يونيو 2024