سمير الأمير
من قبيل التكرار أن نقرر أن النصوص التى لا تغادر معناها المباشر ليست أدبا، ومن ثم فإن الحكايات المجردة التى لا يمكنها أن تجاوز نفسها إلى دلالات وتفسيرات متعددة تسمح بتأويلات تتعدد بتعدد قرائها ليست “روايات” وإنما تظل مجرد حكايات ويظل لها فوائد أيضا تربوية وأخلاقية وغير ذلك ولكنها قطعا لا تدخل فى عداد الروايات العابرة للزمان.
ولعل “رواية” “فصول من سيرة التراب والنمل” للكاتب حسين عبد العليم والصادرة عن “دار ميرت” حديثا فى طبعتها الثانية تصلح نموذجا واضحا ومهما على كيفية تحول حكاية عادية لأسرة عادية لطبيب مصرى لحكاية وطن بأكمله وهو الأسلوب الغالب فى كتابات حسين عبد العليم والمتأسس على تلقائية الحكى التى تنحو نحو “الشفاهية” وإن تعنونت بتواريخ موحية ودالة، سواء فى هذه الرواية أو “سعدية وعبد الحكم و آخرون” أو فى بازل وإن كان يجب القول أن هذه التلقائية قد بدت مقصودة فى “سعدية والحكم وآخرون” إذ لولا الصفحات التى رصدت تاريخ “البغاء” لأصبحت “الحبكة” صالحة فقط لقصة إدريسية قصيرة”، كما يمكن القول أيضا بأن هذا التداعى التلقائى قد جعل “بازل” مفرطة فى الشفاهية والتلقائية لدرجة ربما تفقدها الدلالة العامة التى استطاع حسين عبد العليم أن يعبر عنها بمهارة فى ” فصول من التراب والنمل” والتى تتأكد فى طريقة تناوله لهذا التاريخ العائلى المرتبط بتاريخ مصر عبر إشارتين دالتين منذ البداية وتحديدا فى الصفحة الثانية من الرواية، الإشارة الأولى من سورة ياسين فى القرآن الكريم “يا حسرة على العباد”، والثانية تتلوها مباشرة وجاءت من “سفر التكوين” ” وحزن الرب أنه خلق الإنسان فى الأرض وتأسف فى قلبه”
تتخذ الفصول فى “سيرة التراب والنمل” عناوينها من أسماء السنوات فتبدأ بالعام 1998 وهو فصل يتكون من صفحة واحدة ليست سوى نعى فؤاد لوالده الدكتور عزيز بشرى فانوس، ويظن القارىء أن الحدث الافتتاحي سيكون البداية التاريخية التى منها تنطلق الأحداث صعودا نحو غايتها، لكن الكاتب يفاجئنا بعنوان الفصل الثانى ” 1982″ أى بتأريخ يقع قبل الفصل الأول وقبل وفاة الدكتور عزيز بست سنوات لكى نعيش مع أزمة الدكتور وعائلته بعد وفاة الزوجة التى انتقلت إلى الأمجاد السماوية أيضا فى العام 1977 وهو عنوان الفصل الثالث من الرواية، و لعلنا نلاحظ هنا أن العرض التاريخى يتحرك فى عكس الاتجاه وهى تقنية تعيد بناء المشاهد الأخيرة فى أذهاننا للمرة الثانية بمعنى أن الكاتب يروى حدثا تراه أنت عاديا جدا وربما مألوفا ومكرورا ولكنه يفاجئك بالرجوع لتواريخ قبله، تعيد بناءه مرة أخرى فى مخيلتك ولكن مصحوبا بدلالته فى سياقه التاريخى ومفجرا دلالات أخرى تخصك وتخص رؤيتك أنت للأحداث، سنكتشف فيما بعد أثناء القراءة أن التحرك للأمام والخلف، يرتبط ببحث الكاتب عن أسباب تداعى وانهيار الحياة كما عرفتها هذه الأسرة، وفيما بعد بتفسير أشمل تداعى وانهيار الحياة العامة التى تشمل الوطن بأكمله، وسيدهشنا أن العناوين التى اتخذها من أسماء السنوات لم تكن سوى مواضع كوات فى جدار معتم،من خلالها فقط يمكننا رؤية هذا الماضى وكيف حدث ما حدث، كيف تتراكم الأتربة لتلوث الأشياء وتفسد رونق حياة الدكتور عزيز وأبنائه وحياتنا وكيف يزحف النمل على كل شيىء بشكل مرعب وكثيف يجعل من مقاومته عبثا، ولعل مشهد جثة الأب والنمل يدخل فتحات أنفه وفمه بينما هو مسجى فى الغرفة، هو مشهد شديد الدلالة على فاجعة الموت التى أصابت الحياة هنا فى المكان والزمان بمعناهما العام وليس فيما يخص أسرة الدكتور عزيز فقط، إن عادة التشبث بالتاريخ التى يرصدها الكاتب عند الأم والأبناء هى عادة مصرية بامتياز، أو لنقل أنها كانت عادة باقية من تراثنا العظيم حتى هبت رياح الصحراء وكادت تغرق ملامحنا فى بحر الرمال، ولذا لن نستغرب أن يكتب “فاروق عزيز” فى رسالته لتهنئة وصفى كمال ونادية فخرى بمناسبة زواجهما أنه ” ليس ثمة انتماء للوطن، الهم الوحيد والحقيقي أن يؤمن كل فرد نفسه ماديا، أصبحت الأسرة بعد المال هى الحصن الرئيس للفرد الذى لم يعد ينتمى إلا لأسرته”
وكان على الدكتور عزيز أن يتضاءل أيضا وينحنى فى الأثناء، إذ يبدو أن استقامة الظهر ومقاومته للانحناء مرهونة بالسياق العام الذى يرفض الهزيمة والانحناء وليس مرهونا بقدرة شخص واحد أو عائلة واحدة على المقاومة، وبهذا أصبح الدكتور عزيز مشغولا بمقاومة أتربة ونمل لا طائل منها باعتبار أن كل جهوده فشلت فى منع تسربهما إلى منزله وكأنهما أصبحا صخرة سيزيف التى يدفعها أعلى الجبل ثم يقاوم انحدارها فوقه ويعاود الصعود لترغمه على الهبوط وهى تطارده إلى السفح مرة أخرى، ولم لا فالمرضى من زبائنه أصابهم الجهل أيضا فقد دخل عليه أحد القرويين عيادته ومع ابنه المريض وطلب منه أن يكتب للولد ” مضاد حيوى”، فانفعل وقذف له النقود فى وجهه، بينما القروى يصرخ ” ما هى كده.. أُمال يعنى إيه؟”، وهو أمر يذكرنى بما حدث لطبيب مصرى فى دولة نفطية، إذ أمره المريض البدوى أن يكتب له ” فايتمينات ومضاد حيوى” وحين اعترض الطبيب، صرخ البدوى فى وجهه قائلا” وراك تجيب دوانا من دار أبوك من مصر؟.. والله الملك ما عليه زود يرسل مضادات ومقويات وانت يامصرى تمنعها.. إيش لون تمنعها؟” وهى أشارة واعية إلى تصحر العقول والأخلاق نتيجة مؤكدة للشقوق التى أصابت أرواحنا كمصريين بفعل الرمال التى تسربت إلى الوادى الذى كان خصبا ومتجددا وكان فلاحوه يتميزون بالرقى و بحسن الفهم والخلق.
فى فصل الرواية الأخير المعنون ب بالعام 1998 وهو ذات عنوان الفصل الأول، أى أن الفصول بينهما لم تكن سوى موجات من الذكرى، بمعنى أننا نعود لنفس العام الذى مات فيه الدكتور والذى بدأت الرواية بنعيه المنشور فى جريدة ما، حيث يمكننا أن نتفهم سبب هذا الموت لرب الأسرة دون أن يشير الروائى طبعا إلى حالتنا العامة وإنما يتركنا لتأمل ” الاستعارة” التلقائية جدا والطبيعية جدا، هذا إذا استثنينا فقؤة وحيدة جاءت مباشرة فى نهاية الفصل “1997” بلغة غير سردية وإنما تقترب من أسلوب البيان السياسى، وكأن حسين عبد العليم كشخص له موقف معين من الأحداث والتداعيات قد أزاح ” حسن عبد العليم” الروائى ” ليقرر بشكل حاسم لا يدع مجالا للتأمل :- ” يخطىء البعض عندما يرجعون السبب إلى تفشى العادات الخليجية ونشاط الجماعات الاسلامية، لأن الدين كان دائما له وضعية خاصة فى مصر، الجماعات وسلوكيات الخليج هى فقط عوامل مساعدة على شيوع تلك المظاهر_ الأساس والسبب هو ضياع الحلم على المستوى الفردى والعام”، وطبعا تصلح الفقرة السابقة كإطلالة نقدية على العمل الروائى برمته أى أنها لا تنتمى لنص العمل الروائى ولكنها جاءت كتعليق للكاتب على ما يكتبه، فأفشت مجانيا بسر من أسرار منابع رؤيته.
إن السياق العام الذى اعتدنا على العيش فيه قد انتهى وتآكلت شروطه ومن ثم أقلع الدكتور عزيز نهائيا عن العمل وقرر أن يغادر البيت لمرة واحدة وأخيرة وقال لفؤاد ابنه ” مالكش دعوة بيا هروح مصر.. يعنى هروح مصر.. هشترى حاجات.. مالكش دعوة بيا يا أخى، وكما يسرد الروائى ” حسين عبد العليم” “ تقلص حجم الرجل وأصبح غارقا فى ملابسه” ولم يعد يجد سلوته إلا فى تأمل الصور الفوتوغرافية القديمة ولا سيما صور الراحلين مثل زوجته عايدة و وابنه فاروق، ولم تعد تهدأ روحه إلا بسماع صوت عبد الوهاب عبر المسجل وهو يغنى ” حِن.. حٍن ياللى هجرت الروح ومالكش قلب يحن” وهى حالة النوستالجيا التى خيمت فيها روحه المتعبة والتى يشعلها بالاستماع للأغانى القديمة محاولا استعادة الحياة، ورافضا الخروج للعالم الخارجى حتى يموت، وهنا يدرك فؤاد ابنه الباقى على قيد الحياة المتربة الكالحة أنه أصبح وحيدا وأنه كما كتب حسين عبد العليم ” عليه أن يفعل شيء” وهى آخر جملة فى الرواية، تتسم طبعا بالبساطة لكنها تضيء العمل الروائى من أسفله إلى أعلاه بتلقائية بالغة تمكننا من إعادة قراءتها بضمير المتكلم الجمعى لكى ندرك جميعا كمصريين ” أن علينا أن نفعل شيء إن أردنا أن نوقف هذه الأتربة التى “تأكل أرواحنا”.