ثم هذه المرأة المتوسطة الجمال التي كانت تنام بجانبي كأنها تمُنّ على العالم بنومتها المحايدة بعد ليلة صاخبة، رائحتها فيها ما يذكّر بالزيتون والقرفة ممتزجين معاً فبدت وكأنها تحاول الإغواء والإثارة بهذا الشذى الحادّ والبدائي رغم أن عطرها كان يُـملُّ مباشرةً ما أن ينتهي المرء منها. تناولتُ هاتفي لأطالع فيه الساعة آملاً ان يكون هناك متسع من الوقت لمعاودة النوم مجدداً لكنها كانت قد تعدت العاشرة ببضع دقائق فقفزت من الفراش مباشرة لكي لا أفوّت التظاهرة التي كانت ستنطلق من ميدان “هفت تير” باتجاه ميدان “ولي عصر”، وكان عليّ أن أتخلى مبدئياً عن حمّامي الذي يستغرق في العادة ربع ساعة محاولاً الانتهاء منه في دقيقتين فقط، حتى أنني بعد أن اغتسلت وارتديت ثيابي على عجل لم أودّع “بانو” التي عبّرت بالأمس عن رغبتها التي لم تكن شديدة في مشاركتي تظاهرة اليوم فتركتها نائمة وغادرتُ شقة أسرتها التي تسكن خارج البلاد بحذر ألا ينتبه لي أحدٌ من الجيران. في مفارقة غريبة بعض الشيء فإن الشقة تقع في “كوچه نادر” هنا في العاصمة طهران، أي أنها قريبة جداً من متحف الدكتور “علي شريعتي” الذي تحب بانو مؤلفاته وأفكاره حباً ترفياً فيه الكثير من الرغبة بالتمنظر الثقافي ورشّة خفيفة تحاول إضفائها من بهاءٍ معرفي لم يكونا مناسبين لشخصيتها ذات البعد الواحد، لا سيما وهي تحشر شخصيتها تلك في جسد ملطخ بالألوان الصاخبة بدءًا من شعرها ذي الصفار المشع المقلق للعين والذي كانت تكشف عن نصفه تماماً من تحت حجاباتها ذات الألوان الزاهية، وانتهاءً برتوشها الصغيرة من عدساتها الملونة الى أظافرها الطويلة المطلية بلون برتقالي فاقع لم يكن مناسباً للون بشرتها الحنطية. بمظهر دالٍ كهذا لم يخطئها حدسي حتى وهي تحاول الظهور على عكس طبيعتها مزاحمة كلامها ونقاشاتها المتناقضة الباهتة بابيات يعرفها القاصي قبل الداني ”لسيمين بهبهاني“ و“فروغ فرخزاد“. وقد حزرتُ بسرعة ان ادعائاتها الثقافية تلك محض رغبة في التقرب مني ليس لأن شكلي يوحي بها بل لأنها باتت موضة وإكسسواراً جديداً للسطحيات من فتيات هذا الجيل في طهران بالذات. والحق ان الحابل اختلط بالنابل بالفعل فصرنا نميّز بصعوبة الجادات في سعيهن من فتيات هذا الجيل اللواتي كان وعيهن الثقافي ينشط ويتمدد على نحو مثير، فقد كن يقرأن في الأدب والسياسة والتأريخ مستعينات بالإنترنت الذي تعلمن فك شيفراته ليلجن بسهولة الى عوالمه الممنوعة، متخطيات الرقابة الصارمة التي تفرضها الحكومة على المواقع الألكترونية، في رغبة محمومة منهن لفهم حاضرهن المتأزم في بلد متزمت نشأن فيه جيلاً لم يعش سوى إيران ما بعد الثورة التي يحاول الانعتاق من أحكامها المتشددة قدر ما يستطيع. لكن بانو وكما اتضح لي ذلك منذ البداية لم تكن قطعاً من أولائك الفتيات، وقد تخلت عن دورها الثقافي المدّعي عن طيب خاطر مع تخليها عن أول قطعة من ثيابها، ثم تجردت منه تماماً بعد أول ممارسة عنيفة للجنس.
كانت الشقة حيث تعودنا أن نلتقي أنا وبانو ملكاً لأسرتها العريقة منذ زمن ما قبل الثورة، فمالكو الشقق السكنية في هذه المنطقة قديمون غالباً حتى أن بعضهم قد سكنها لأكثر من أربعة أو خمسة عقود تماماً مثل أسرتها التي هاجر عميدها – جد بانو- إلى ألمانيا مباشرة بعد الثورة تاركاً هذه الشقة لمن بقي في البلاد من أبنائه ومن ثم أحفاده من بعده، حتى جئتُ أنا لأنام مع حفيدته الشبقة فيها.
وبما أنني كنت متأخراً فكرت بدل أن التحق بالمتظاهرين في ميدان “هفت تير”، أن أنضم إليهم حيث سينتهون عند ميدان “ولي عصر”، فسرتُ عبر شارع “دكتور فاطمي” بمحاذاة “پارك لاله” آملاً في ايجاد وسيلة توصيل سريعة، وكنتُ تظاهرةً بذاتي وأنا أمشي في شوارع العاصمة طهران وقد ربطتُ خرقة خضراء حول رأسي وأخرى لففتها حول معصمي. منذ بداية الانتخابات وما تبعها من أحداث محمومة والناس قد قسِّمت إما إلى “سبز” أو إلى أي لون أو شيء آخر غير الأخضر ولذلك كنت أثناء مسيري في الشارع أسمع الطرفين يصرخان بي، طرفٌ يبدي امتعاضه بشكل بيّن معتبراً أن في نية أمثالنا خراب البلد، بل قد يسترسل في خطبة سريعة مؤكداً أننا سبب خراب سمعة الامبراطورية العظمى التي كانت قبل ألفي عامٍ ملء السمع والبصر، بينما الطرف الآخر يمجدنا ويشد من أزرنا لرغبتنا التغيير والإصلاح والحرية. ولم يكن أي من إخوتي يشجع رغبتي وانخراطي في التحشيد للتغيير قبل الانتخابات ثم ما أعقبها من أحداث وتظاهرات فقد كانوا جميعاً يبدون قلقهم عليّ وعدم إكتراثهم لأحوال وسياسات البلد بقدر اهتمامهم بسلامتي. قال لي لؤي عبر الهاتف بلغته العربية التي حافظ عليها جيداً في منفاه:
ـ شلك بيها هاي السالفة، هذا مو بلدنا حتى تحاول تصلح حاله لو تغيره. إنت شعليك!
أجبته بالكردية:
ـ وهل ذاك الذي ركلوك منه على حين غرّة يعدّ بلدك؟
أصرّ قائلاً:
ـ لا ذولة ولا ذولاك يحترمون بشر. إذا ما عاجبك الوضع هناك دبرلك طريقة وتعال يمي.
لم تكن هذه أول مرة يدعوني فيها إلى السفر والهجرة وترك البلاد بمن فيها فقد كان مؤمناً تماماً بفكرة الرحيل عن هذه التي وصلتها في الرابعة من عمري مسفّراً من العراق بعد أن هجّرت أسرتنا منه بحجة التبعية الإيرانية. كنت قد ولدت في بغداد سنة ١٣٥٤، أقصد سنة ١٩٧٦، الأصغر بين خمسة من الذكور واسمي الحقيقي هو أكرم. حين أخبرت بانو بذلك ابتسمت وهي تنظر إليّ باشتهاء ودون أن تتعجب من القصة المثيرة قالت بنبرتها الهادئة وصوتها المشروخ الذي يصدر رنيناً شبيهاً بضوضاء بيضاء:
ـ اى واااى، ليتك أبقيت على اسمك، كنت ستبدو أكثر إثارة وأنت تحمل إسماً أنثوياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية عراقية
صدر لها “تحت سماء كوبنهاجن” ـ عن دار الساقي ـ 2011
الرواية تصدر قريبًا عن دار الجمل