بولص آدم
.. تُفتتح الرواية بنيّة الراوي كتابة سيرة «نينا بوريسوفنا ديلون» من فتات بيوغرافيا متفرقة، في نص روائي لا يسير بشكل خطي، يمزج السيرة بالخيال. نينا ديلون، ابنة الجالية الآشورية، تعيش حجر الوباء في موسكو برفقة إديث بياف مُتخيلَة، بينما يتنقل سؤال الغربة بينها وبين مرسيليا، يريفان، ونينوى. تمنح نفسها فرصة متأخرة للغناء في برنامج «أنت رائع بعد الستين»، فتجعل منه فعل مقاومة، تتقاطع فيه أغاني بياف مع صوت أمها وذكريات السفر والفقد.
من بين الأصوات المرافقة لها يبرز خوشو، صعلوك مثقف ينحدر هو الآخر من قريتها زيريني من جيلو/ هكاري، يحمل ذاكرة الشتات وحكايات القرى المفقودة، ويبادلها الألفة والحماية كامتداد لصوت القرية. خلفه تلوح علاقته الغامضة بـ «لادو دافيدوف» الاسكافي، وهو بطل مُكرم بأعلى الأوسمة خلال الحرب العالمية الثانية! والمحقق «ألكسيفيتش» في دائرة لوبيانكا، بما تحمله من ظلال المراقبة والقمع، لتربط حكاية نينا بسيرة منفى ونجاة جماعية.
“ينتهي هذا الجزء، المكوَّن من سبعة فصول، عند مشهد تمهيدي في لينينغراد في الفصل الثامن، تمهيدًا لحدث قادم…”
..
“الفصل الثامن”
أنا، على الجسر الثالث فوق نهر فونتانكا. ساحة بيلينسكي، سيرك سينيسيلي، وذلك هو شارع إنزينرنايا.
صقيع؟ لا يهم. لا ثلج الآن ولا مطر. الإنارة خافتة عند كابينة السيرك العمومية، تلك التي في الشارع، بعيدة قليلاً… جنب السيرك أفضل. الحفلة المسائية انتهت قبل ساعتين. المكان هادئ، خالٍ.
تقدّم يا خوشو، تحرّك… إطارات السيارات القليلة على الجسر تُمازح بالثلج الموحل معطفك، وجهك، عينك، فمك الذي سيعمل في الكابينة بنشاط. أتمنى ألا يأتي أحد يزاحمني على الهاتف.
عند بوابة السيرك، كرسي صغير، ربما نسيه مهرّج قبل أن يذهب. الجلوس والهاتف باليد خير من الوقوف الطويل. ضع في الزاوية، لصق صندوق الهاتف، زجاجتك وعلبة السجائر أولاً. امسح الزجاج من جهة الشارع…
سيارة متباطئة؟ ينظر السائق نحو الكابينة، كأنه مروّض نمور… شرطي؟ نعم، أكمل طريقك. أسرع، أكمل، شاطر. أشكرك، لبّيتَ همسي. كم تمنيتُ أن ما يقذفه العادم تمتصّه كابينتي لأتدفأ. شاطر.
هو لا يدري أنني متهيئ. جهّزتُ عُدّة القتال من أجل الحرية. أضحك الآن وحيداً. أكمل، شكراً لك، ابتعد. جدير أنت بالواجب حقّاً، سليل حرس الثورة؟
أخرج القطعة النقدية، مفتاح الأحاديث مع المجهولين، أعظم فرصة، معلّقة من الثقب الذي… تمنيتك معي يا دافيدوف، شكراً على ثقب الكوبيك.
أمسك بخيط السنّارة الشفّاف مثل هواء المدينة. أمدّ القطعة في فتحة الصندوق… الآن، المفتاح التالي والأهم: الأرقام. أكّد الطالب التقني البائع: لا تنسَ، ينتهي الرقم بثلاث سبعات.
لا أكثر من مدّ القطعة النقدية في فتحة صندوق الهاتف، ثم شدّ الخيط بأذن مركن السماعة. سأتحدث حتى النعاس والملل.
ألو… ألو
– أبحث عن رجل.
– لا أبحث عن امرأة.
– ألا ترغب في الحديث معي؟
– ليس عن الرومانس.
– ضعف انتصاب؟
– لم أفهم.
– وأنا أيضاً. نمارس الحب لليلة واحدة فقط.
– أحب زوجتي وابنتي كثيراً. لم أحب امرأة من بعدها. مخلص إلى الأبد.
– لا أصدقك. نحن في منتصف الليل. أحفظ السر، لينينغراد مدينة كبيرة، لن نلتقي بعدها ثانية. أم أنك خرجت لي من المجمّدة، محفوظاً من القرن الماضي؟ اللذّة ضارّة، والاعتراف بالتسلية دليل للشيطان.
– تتصلين عبر رقم كهذا، من أجل هذا؟ الرجال قريبون منك هناك.
– هكذا ممتع، لذيذ، مثير أكثر. لا أعرفه، لا يعرفني، ثم نفترق… أعشق الفانتازيا.
– برداً وجوعاً، توفّيا في الغولاغ.
– أوف، ميلانخوليا ثانية. أشعر أني مارست الخداع… لا أقوى على الاستمرار في التمثيل.
– تحدّثي بوضوح… هذه أرقام وخطوط خارج التحكم المركزي لدوائر الاتصالات. لننتهز الفرصة… أيّ خداع وتمثيل، سيدتي؟ لم أقطع مئات الكيلومترات لأسمع ما لم أنتظر. كلانا يتحدث في كابينة، نتحمّل برد الليل. لنقل إنني نسيت التحرّش الجنسي. أين وصلت قصص صحفنا عن مساواة المرأة بالرجل، قصص مجلّتكن Rabotnitsa، في قسم “نادي المناقشة”؟ هل هناك عدالة؟
– بنصيحة سيكولوجية حول التعامل مع الرجال الناقمين، لشدّهم أولاً، ثم جعلهم يتحدثون ويجيبون على أسئلتي في موضوع آخر… يبدو أنني اخترتُ الإغراء كوسيلة. أشعر مع نفسي بالحرج.
– أنا ناقم. ما المطلوب؟
– زرتُ مدناً شتّى، والتقيتُ ميدانياً بالعشرات. بحثي الأكاديمي مهم جداً، حتى الجهات المختصة خارج الجامعة تنتظره. يتطلب مني استجواب نماذج من الناقمين. ما حصلت عليه غير ذي قيمة. أنت تعلم، لا أحد يتجرأ بالبوح حول أمور معيّنة. لذلك، أعطوني رقماً من لينينغراد، يمنحني الفرصة بالضبط. هذا ليس سرّي، لدي موافقة خاصة، أنا أتحدث إليك من موسكو.
– اشتقتُ إلى موسكو. إلى أغنية “أفضل مدينة على وجه الأرض” التي يؤديها مسلم ماغوماييف، كانت على الراديو لمدة شهر، ولكن تم حظرها فجأة. كان البادئ بالحظر نيكيتا سيرجيفيتش خروتشوف: “تطوّر حول موسكو؟ احظرها!” بعد بضعة أشهر، تم فصل خروتشوف. جاء الشاعر ليونيد ديربينيف ذات مرة إلى الراديو وقال: “حسناً، فعل ماغوماييف كل ما في وسعه. تمت إزالة خروتشوف. استقال. هل ستُذاع أغنيتنا على الهواء الآن؟” كان الجواب هو “إعادة تأهيل” الأغنية.
– أنا باحثة في النسوية. تحسدنا الغربيات على الحرية، على نسبة المساواة مع الرجال. سبّاقات في البحوث النسوية نحنُ، وفي كل جمهورياتنا. بدأنا بتعليم الفلاحات، نقلنا السواد الأعظم إلى المصانع، تغيّرت صورتنا، لم نعد نساء هشّات جميلات مُخدَّرات تحت الظلال. لم نعد نطبخ، فكل مصنع أصبح له مطعمه. نلد الأطفال، فتحنا آلاف الحضانات، غسالات عامة.
تم استبدال المجلات النسوية التي تُركّز على رسومات النساء المزوّقَات، جالسات بصحبة الرجال في الغابات… تم تقديم المرأة على أنها قوية، تتحمّل العمل على خطوط التجميع وغيرها. لكن المرأة استمرت بأداء الأعمال المنزلية إلى جانب العمل في المجال العام. المرأة قاتلت…
– نازداروفيا، نازداروفيا.
– نازداروفيا، ارفع قدح الشاي الأخضر غير المحلّى…
– نازداروفيا، أبادلك النخب بزجاجة فودكا من صنع يدي، مملوءة بعشب الزوبروفكا العطري. محلّاة، غير محلّاة، لا يهم… استمري سيدتي، أرجوكِ اختصري… دماغي يبكي، يتلقى الصفعات. جنّنوكُن يا حلوات، تارة “كات” وأخرى “كيت”، حتى الاشتراكية تبكي… أراها الآن، كلبة سائبة فوق الجسر، تبحث عن الجراء…
– والدتي، خلال الحرب، عملت تحت الأرض، في مترو الأنفاق. الثقل على كاهلها مضاعف. فقدنا ملايين الرجال خلال سنوات الحرب، عاد مقاتلون من الجبهات الغربية وجلبوا معهم صورة أخرى للمرأة. شجّعتهم البحوث، في مقارنة الوضع مع أميركا في الخمسينيات: المرأة فرحة، تكنس بالمكنسة الكهربائية، لديها غسالة، حديقة، تقف خلف الرجل تدعمه، لذلك الرجال يبدعون. عادت المرأة إلى المنزل. ثم طالبناها مجدداً في السبعينيات لتحتل مراكز مهمة قيادية في المجتمع. حشدهن أقوى من أي حشد في العالم…
– بدأت قبضتي بالحكة، وارتجفت ركبتي بحماس. أعرف امرأة منعها زوجها من الغناء…
– وأنا أيضاً، أجريت لقاءً لغرض الدراسة مع هكذا حالة، تسكن في عمارتنا.
– ما سبب منعها من الغناء؟
– تقول: التقاليد العائلية الشرقية المحافظة. آشورية تزوّجت أرمينياً في وقت مبكّر، ورحلوا إلى يريفان، ثم عادوا إلى موسكو ثانيةً.
– متى كانت في يريفان؟
– في تلك الفترة التي شاعت فيها فكرة أن المرأة الأميركية ربّة البيت لا تعاني الإرهاق. يحضر الزوج بعد العمل إلى المنزل، كل شيء مرتب على الساعة، يخرجون لتناول العشاء في المطعم، يرقصون، أو يشاهدون معاً فيلماً… لكن تلك الدعوات لدينا لم تلقَ دعماً، ومع تبدّل القيادة، عدنا لتأدية وظيفتين معاً غالباً.
والآن، سأطرح عليك سؤالاً…
– عذراً سيدتي، مضطرّ للتوقف، سأعيد سماعة الهاتف إلى مكانها… وداعاً…
… لينينغراد حبيبتي، فخاخك مغطّاة بالقش الناعم. لن يقع فيها نسر آشوري، ولو كان مثلي مكسور الجناح… دراسة في النسوية للجامعة، لفائدة الجهات المختصة وبتصريح خاص. نماذج من الميدان. شعرت أننا فأر وفأرة في المختبر، ثم نفترق، والفأرة تؤكد أنها تحفظ السر، فلينينغراد مدينة كبيرة. يا للأساليب الشيطانية! لم تكن كلماتها الملتوية مفاجئة… الحزب ينتهز الفرصة وينتفع حتى مما ضده. ماذا لو كانت ألكسيفيتش في تنورة؟
كابينة ملعونة… بالكاد سيطرت على فمي… هي تسكن في نفس العمارة، ربما جارة نينا بوريسوفنا… العالم صغير. لا بد من تغيير الكابينة. سأتحوّل إلى كابينة شارع إنزينرنايا. تعالي يا فودكا، وأنتِ يا سجائر…
قف. قف يا خوشو، ها هو مروّض النمور في السيارة يعود… يبطئ. سر في طريقك، لا تنظر نحو الكابينة. أكمل طريقك، أسرع، شاطر، أشكرك، لبّيت همسي.
سأبقى هنا إذن. سيقطع الجسر على نهر فونتانكا. من يدري؟ هذه دورية ليلية، قد يعود باتجاه سيرك سينيسيلي…
شاطر يا خوشوفيتش، أبل فمك النشط البلاء الحسن… طوال رحلة القطار كنت نائماً. تعالي يا جرعة فودكا، تدفّئي في معدتي. وأنتِ يا سيجارة، دفّئي منخاري وفمي…
هل هناك من هو أسعد مني في المدينة؟ أجلس على مقعد مهرّج وأتحدث إلى الفلاسفة. اضحك يا عم، شكراً للهواتف المنفلتة، كلّنا في كبائن التحرّر هذه طبقة واحدة. كم أتمنى، مع أنه مستحيل، أن تنضم يا ألكسيفيتش إلينا.. أسمع موالاً شرقياً، لا بد أنه حارس مبنى السيرك. يا إلهي، شكراً للذات ما بعد منتصف الليل… كل هذا بقطعة كوبيك واحدة ورقم هاتف بروبل فقط… حتى عندما نغافل اللجنة المركزية، فهي تمنحنا فرصة الحماقات البريئة… عدْ يا كوبيك إلى مكانك، واسمعني المواويل…
ألو… ألو
– ما هي هوايتك؟
– غناء، ترحال، تلميع الأحذية، الأكل الشرقي، كرة القدم، ملذّات العطلات بعد العمل، بنطالي محشور في الجوراب، الساعد مشمّر، كل شيء في الحياة إلا الحزب. وأنت؟
– الواقعية الاشتراكية.
– خيّبت أملي بالسخف. كم عمرك؟
– خمسون. وأنت؟
– لنقل ستون. كم مرة في اليوم؟
– لا أعدّها، ليس هناك حدّ.
– مارس الرياضة، اسمع الأغاني، ربِّ قطة، كلب، دجاج…
– دجاج؟ أسكن في الطابق الرابع، أين أضعها؟
– أربي دجاجتين في الحمام، واحدة من أجل اللحم، والثانية للبيض.
– أعرف كل شيء. طبّقتُ وصية لينين منذ أيام مراهقتي في الكومسومول. ثقّفتُ نفسي بمعارف الكرة الأرضية… أقرأ كثيراً وأكاد أجنّ. أكررها حتى.
– صلِّ.
– بروليتاريا رثّة.
– هذا ما كنت أنتظره. رأس ثقافة، حتماً نصف شقتك كتب… بروليتاريا رثّة؟ انتظر تبرير فشل الخطط الخمسية. تنقّلتُ كبروليتاري بسيط، أربعة عقود من عمري فيها، من مكان إلى آخر. قناة بيكال، مصنع ريغا، قمنا بتجديد خطوط سكك الحديد، أوصلنا بالجسور، صخوراً بصخور… في هذه المدينة حتى، بعد كسر حصار لينينغراد، كهربائيٌّ في محطة الطاقة الحرارية. بعد هذا، لم أحظَ بوسام عمل، لماذا؟ مع ذلك، أنا لستُ من الذين ينتظرون هزيمة الاتحاد. فتحنا أفواهنا ونحن نشاهد أول إنسان تطأ قدمه القمر، تمنيته سوفياتياً. أضع قبعة كاوبوي تحت مؤخرتي، قبعة خبيثة تنتج أفعالها المصلحةَ لها والمضرّة لغيرها. لكنني أحترق… أسماء الشوارع والميادين التي أمرُّ بها أسماء القتلة الحقيقيين، مثل دزيرجينسكي، سفيردلوف، فويكوف…
– أتمنى أن تُفرج الرقابة عن الفيلم الأميركي العرّاب، ويُعرض في كل جمهورياتنا. حصلتُ على فرصة ثمينة، شاهدته فيديو تحت الأرض. في العرّاب، يتنكّر البرجوازيون عن طيب خاطر كبلطجية من أجل إخفاء طبيعتهم البرجوازية. يشرح مايكل لخطيبته الجديدة: “لم يفعل والدي أي شيء لا يفعله عضو مجلس الشيوخ أو أي سياسي كبير آخر”. قال فرانسيس فورد كوبولا نفسه في مقابلة: “إن المافيا بالنسبة له هي استعارة لأميركا ككل”. ما زلتُ، وسأبقى مؤمناً، أن النظام السوفياتي “أعلى وأفضل بمئة مرة من أي نظام برجوازي”. أتفق مع أحدهم: من بين جميع الفنون، السينما هي الأهم بالنسبة لنا. لكنني أحب ما قاله الآخر: السينما في أيدي النظام السوفيتي قوة هائلة لا تقدّر بثمن. لا تنفعل، اهدأ… ظننتَ أنك… لكنك… المكافأة على قصة قصيرة كانت كوبون الحصول على حذاء! لستُ بحاجة إليه… أريد روبلات أوفرها للسفر خارج الاتحاد… سأعود… سأعود… سأ… عادات الرأس السرية، صراع الشك مع اليقين… ديالكتيك… ال…
– مهلاً، دعني أقترح لمنفعتك… لمّع أحذية. بإمكاني أخذك إلى المدينة التي أتيتَ منها، لدي كابينة إسكافي تُؤجَّر عندما أشعر بالملل، ثم أذهب إلى أي مكان آخر. كل حذاء تلمّعه لقاء 15 كوبيك، وإعادة الكعب إلى مكانه بثلاثين. لدي خلطة صبغ أحذية سرية من صنعي، لا يوجد لها مثيل. في كابينتي رف كتب صغير، اقرأ في وقت فراغك كتاب تروتسكي: كوبا قنبلة موقوتة.
– مهووس أنت بستالين؟ “كوبا” هو الاسم الحربي الذي اتخذه لنفسه. توفي منذ أعوام طويلة. كذاب، تروتسكي لم يؤلّف مثل هذا… هذا كتاب خيالك؟
– كان سيؤلّفه لو لم يُغتل. أنت شيوعي منجل ومطرقة الكتب؟ … نصف حياتي منجل، ونصف آخر مطرقة. حياتي شعار: في عرق الكد وكفاح الحياة، منجل ومطرقة وسلاح ودم، في مقاومة النازيين، نعم… لم يهرب ستالين من موسكو عندما وصل النازيون على مشارف مدينتنا، لكنه هو نفسه من أمر بإعدام أبي في كييف، رجل أمي فلاح، وضعه ستالين في دوامة التصنيع القسري… أبي جاسوس؟ أبي ضحية تطهير مريض مجرم. لستُ شيوعياً مثل أخي الماركسي الدرويش. غادر منذ زمن بعيد يخلّص الشرق الأوسط من الاستعمار، يصنع الغد للفقراء والفلاحين المستعبَدين… ذهب ولم يعد أبداً. هذه عادة رأسي السرية… هذه واقعيتي الاشتراكية. ما هو أطول مبنى وأكثرها وضوحاً في ساحة كومسومولسكايا موسكو؟ هل تعرف؟ ناطحة سحاب الشعب، فندق لينينغرادسكايا، تجسيد لكل من انتصار وانهيار أسلوب الإمبراطورية الستالينية بعد الحرب. كلما اقتربتُ منه أحسست بالقرف. مع ذلك، أتمنى أن يبقى هناك، يذكّر الشعب بشيء ما. هل من عادات واقعية اشتراكية أخرى؟
– مثلاً؟
– الشكوى.
– كل شيء آخر على ما يرام.
– أليس هناك فساد، رشوة؟
– كنتُ أنتظر أن تقول هذا. هل كان الاتحاد يمارس العادة السرية طوال العقود المنصرمة؟ أين تعيش؟ في السجن؟ في زنزانة مقطوعة؟ أتمنى تجديد الحملة القديمة ضد “الخنوع”. يا أميركي، لديكم رشوة، فساد، بيروقراطية. يا أميركي، دولتكم قومية احتكارية، وبعد الحرب قوة عسكرية غاشمة. أنتم فيتنام، فقدتم ما كان لكم من روح في الجيب الخلفي… يا رأسمال الغرور، قتلتم جيفارا في الوقت الضائع، بعد فوات الأوان، زرع الماركسية في حديقتكم الخلفية. اذهب، لمّع حذاء خوروتشوف الذي طرق المنصة في أميركا به…
– لمّع، لمّع حذاء جنكيز أيتماتوف… اسأل نفسك: أفغانستان؟ هل هو الجيش الأحمر نفسه الذي رفع العلم المنتصر على الرايخشتاغ في برلين؟ يا أممي ملحد، ابنة صديقي تغني. لديها فكرة: سنجمع الفولكلور الآشوري وتراتيل كنيسة المشرق، أغانٍ، قصص، حوادث، وغيرها، وسنسجّلها على كاسيتات ونحتفظ بها للأجيال القادمة. دكاترة، مهندسين، علماء، مؤرخين… المجاعة الكبرى في اتحادنا السوفيتي، الملايين ماتوا جوعاً، من غابات السهول الوسطى وحتى مولدوفا. لماذا؟
– الآشوريون انقرضوا منذ آلاف السنين. جاءت لحظة الجد. قادرون على أن نكرر بودابست، براغ. وهذه الأرقام والخطوط لن تستمر، سنعثر على الخلل التقني. تكلموا ما تشاؤون، هي مسألة شهر، شهرين… سنسحق التمرد. قلتُ ما أريد. آسف على إزعاجك. أنا في النهاية شيوعي مهذّب. لم تكن محظوظاً معي. ابحث عن ضالتك مع خط آخر، ربما تحظى بسلفادور دالي، سيحشو رأسك بمخدّر أقوى، من صنف الزمن المائع بتركيز الهذيان. أنت في عاصمة الثقافة السوفياتية، لينينغراد. اترك كابينة الهاتف تلك، عد إلى كابينة الإسكافي، راجع نفسك… هل تعرف فالنتينا تريشكوفا، “غاغارين في تنورة”، أول وأصغر امرأة تصعد إلى الفضاء؟ دارت حول الأرض 48 مرة، وقضت ما يقارب من ثلاثة أيام في الفضاء، ولا تزال إلى الآن المرأة الوحيدة التي كانت في مهمة فضاء منفردة. لو سبقتنا أميركا، لأصيبت المرأة السوفياتية المثقفة، الذكية، الحرة، الجميلة، بإحباط وطني… أضحكتني يا بطل من هذا الزمان. إنها لمهزلة، يقول: فغرنا فاهنا مشدوهين لمرأى رجل على القمر… هذا فيلم هوليوودي! هل نسيتَ يا تكساسي أنهم أعادوه إلى الأرض بشق الأنفس؟ كانت ستحل كارثة. فضيحة؟ اكتشاف قانون حفظ المادة من قبل لومونوسوف، وليس لافوازييه، واختراع التلغراف الراديوي ينتمي إلى بوبوف، وليس إلى ماركوني. أنت آشوري؟ هذا قبل ثورة أكتوبر. الآن قل: أنا روسي، أُمجّد أولوية الاتحاد السوفيتي في جميع مجالات العلوم والتكنولوجيا والثقافة الأكثر أهمية، ثم ابدأ بتمني وسام الراية الحمراء. وإلا… سافر إلى برلين واضرب رأسك بالجدار.
– يا للروعة! إنتاج كل هذا القبح بصوت عالٍ، على الرغم من أنني لم أركّز سوى على القليل. تخيلتُ وحوشاً معقدة تخرج من الهاتف، ولكن ليست مخيفة على الإطلاق، أرجلها مصنوعة من أعواد الثقاب. أشفق عليك يا مسكين. مذيع قديم، متقاعد، من شدة تكرار نفس الورقة في القناة الأولى حافظها عن ظهر قلب: “موسكو تتحدث! إليكم آخر الأخبار!”… انقرضنا؟ أنتم تريدون ابتلاع آخر من تبقى من الأسرة. هذا لا يتطلب نصف شقة كتب لكي يكون حقيقة واضحة عن مصيري. ليس لديك جرأة، رجل بلا جرأة، يُداس عليه ذات صباح مثل وحل على الطريق… لدي زبائن، كل يوم يتحدثون معي: صحافيون، أدباء، فنانون. يحصلون على مكافآت نقدية. لكنك كاتب قصص أحذية، تشتاق إلى الروبلات. ليس لديك الجرأة، تبارك الرقيب وأنت تدفئ مؤخرتك بالكتب. يأتي يوم يخنقك الجبن فيه. أميركي؟ تكساسي؟ أهنتني يا مهذّب، طبعاً… لن أعثر عليك لأريكَ خصاوي الآشوريين السود! تكتب قصصاً؟ الحذاء الذي أهدوك إياه كان سيذهب إلى رجل ينتظره بفارغ الصبر… مع ذلك، لنغيّر الموضوع. أفسدتَ المزاج. تخيلتُ نفسي أمام فوهة مدفع. صدقني، أومأتُ برأسي متسامحاً. اهدأ. هل ترغب بسماع أغنية؟ لو كنتَ معي لشربتُ بصحتك، نازداروفيا. الحياة جميلة… ديالكتيك نزيه، نقلتَ لي العدوى يا رأس الكتب الأرضية… ديالكتيك؟ اضحك الآن وأغنِّ… شحب وجهي في الحقول، ديالكتيك، تيك تيك… أصلع رأسي في المصانع، فقدتُ إصبعاً في الغولاغ… تيك تيك… غني غني يا نينا، غني… ألو… ألو؟ … وداعاً، وداعاً يا غولساري.
ألو… ألو…
– عن ماذا نتحدث؟
– تصليح الجرارات.
– تشتري رقماً سرياً لتتحدث عن المحركات؟ وداعاً.
ألو… ألو…
– صعبٌ عليّ النوم، أعاني أرقاً، أرقاً.
– لماذا تبكين؟
– لا أعرف..
– الحديث حول “لا أعرف” سيكلفني نفاد الفودكا في أقل من نصف ساعة، آسف. اجمعي طوابع، ستنسين… وداعاً.
ألو؟ ألووووووو…
– أريد الحديث عن أجهزة أمن الدولة.
– انتظرتك طويلاً. أين يذهب فائض القيمة؟
– في جيوب محاسبي الدوائر.
– هؤلاء؟ يخافون… أعلى، أعلى.
– المدراء؟
– أعلى.
– اللجنة المركزية؟ عوائلهم والأصدقاء؟
– أعلى…
– هذا مضحك، مضحك جداً.
– أنت على حق، نعم. هل تحب السفر؟
– إلى ريغا، تفليس. وأنت؟
– ريغا جميلة. جرّبتُ حظي في تلميع الأحذية هناك، السوق راكدة، يعتمدون على زوجاتهم. لا يمكنني القول إنه البخل، لكن لا ينطبق في ريغا المثل القائل: “تعشق المرأة الرجل من ساعته وحذائه اللمّاع”. أما تفليس، مكان ولادتي، فما إن ولد فيها ستالين حتى تحوّل أبيض أسنانها إلى أصفر… زنجار. اللصوص كان مكانهم السجون، وعلى يد “كوبا” صاروا موظفين في المكاتب الحكومية. يعجبني السفر إلى كل مكان في السوفييتات، لكنني أفكر بالسفر إلى العراق. أوصاني والدي بزيارة قبر والده والترحم عليه… لا أملك مالاً يكفي.
– أين تعمل؟
– معمل السردين.
– هرّب كل يوم علبتين، بِع، اجمع، سافر.
– هذه سرقة.
– يستمر الحلم إلى الممات. هل أنت شاعر؟
– أحفظ مقطعاً من قصيدة سمعتها في الخنادق:
«قوارب صغيرة تطفو بعيداً
في الدوامة الذهبية بين الكواكب.
أصغر واحد قد ذاب بالفعل،
وخلفه، يغرق الآخرون.
على آخر قارب متهالك
أنت وأنا نتأرجح معاً:
حصلتُ على بعض الفودكا، يا صديقي،
الآن دعنا نشرب…»
كل من يعرفني سمع هذا المقطع عدة مرات.
– كان منفياً… الشاعر جورجي إيفانوف؟
– لا أعلم، كانت منتشرة بين جنود كتيبتنا، إضافة إلى أغنية أحفظها لفنانة الشعب كلافديا شولزينكو، زارت الجبهات مئات المرات، تغني برفقة زوجها تحت القصف. أحببناها لشجاعتها، أنا وإسكافي من موسكو نعشق هذه الأغنية، نغنيها معاً في كشكه. فركنا أعيننا، لم نصدّق: ترقص الفالس مع زوجها ومعنا جنب الدبابة، وتغني أغنيتها “ذات الوشاح الأزرق”. أسمع قصصاً كثيرة عن الأغاني والمغنين من ابنة صديق ملاكم، مغنية معروفة في حفلاتنا العائلية. قالت لي: آلا بوغاتشيفا تعلّمت من كلافديا إيفانوفنا شولزينكو الكثير. وتقول ابنة صديقي: لم تتمتع كلافديا إيفانوفنا بصوت قوي، لكنها كانت تعرف كيف تلعب قطعة تمثيل وتغني. الاختلاف في الوضع والعمر بينها وبين بوغاتشيفا لم يكن عائقاً، وكانت تترك المال في كل مرة بشكل غير محسوس تحت المناديل، ثم تغادر شقة فنانة الشعب المسنّة. مقارنة بما أخذت من شولزينكو، كان المال لا شيء. أحب أغنية آلا بوغاتشيفا “مهرج”. دعني أغنيها.
– تفضل.
– أنا مهرج، أنا مهرج، أنا مجرد ضحكة، بلا اسم، وبلا مصير…
– «……»
– أغنّي فولكلوراً آشورياً أيضاً، هل تريد السماع؟
– ماذا تفعل في لينينغراد؟
– أتحدث بحرية.
– أنت من موسكو؟
– وهل تكشف لي مكانك؟
– كشك صديقك الإسكافي في محطة ياروسلاف؟!
– اللعنة، أنت الكسيفيتش… الكسيفيتش!
– أنا الآن أضحك. هل تسمعني أضحك؟ اضحك معي، أرجوك اضحك… تمتع بحياتك، ليكن حزنك أقصر من خط الاستواء. عد إلى هناك، سينما غوركي تعيد عرض الفيلم المشهور “المرأة التي تغني” من تمثيل وغناء آلا بوغاتشيفا، وكن المشاهد التالي بعد الخمسة وخمسين مليوناً… اضحك.
– سأنزع المعطفين، أحطّم زجاجة الفودكا، سأتعرّى وأركض في شوارع لينينغراد مثل مهرج مجنوووون… أنت الكسيفيتش حقاً؟!
– وأكلمك من تفليس.
– تفليس؟ يقولون عني بسيط، محدود الثقافة، روسيتي ضعيفة. كل من سيزورني في سجن فلاديمير المركزي سأقول له: أنا غبي، غبي… سأضرب رأسي بحذائي.
– اسمعني… أنا هنا لأودّع أمي، أعرف مصيري.
– يقولون إنني غامض، مثير الشبهات، لكن ما أسمعه منك لغز كبير…
– لا تخف، لكن احذر. التزم بما قلتُه لك سابقاً: كن ناقوساً بلا لسان. أعطيتُ، لك ولثلاثة من أمثالك فرصة حياة، لا أحد يدخل ذلك المبنى يحلم بها. لا تلتقط صوراً خارج الشقق. ملفك فيه تعريف وعلامة استفهام حمراء: أنت مثقف، يدّعي البلاهة والتهريج بغرض التمويه. والد معدوم، والوالدة كانت تحضر قداديس سرية. عملت لدى ألمان الفولغا، واختفت خلال الحرب الأهلية. أخ غادر ولم يعد. تتنقل من عمل إلى آخر، وكل مرة في مكان مفاجئ… غموض يثير الشبهات. ذات مرة ثرثرت في معمل النسيج عن المجاعة الكبرى. بتزكية من بطل معروف، ومن أجل خالتك وأولادها الذين ماتوا جوعاً، منحتك فرصة العمر. لستُ نادماً. إلى حد الآن، ليس هناك تهمة بإثبات مقيّد. احذر مما يستجد. فعلك هذا في كابينة لينينغراد هو جريمة: تخريب، إرهاب. هذا من اختصاص أمن الدولة في ميدان لوبيانكا. حقّقوا معي أنا أيضاً في نفس ذلك المكان. يقولون إنني متساهل مع المجرمين… أرسلوني بإجازة. أعلم أنني مراقب، لا يهم. احذر. ابقَ حيث أنت، عد إلى موسكو بعد سنة. سيراجعون بعض الملفات حتماً. ثم بعد انقضاء المدة، اتصل بصديقك السيد دافيدوف. هل سأل عنك أحد من لوبيانكا؟ إذا تلقيتَ إجابة نفي، تكون حراً.
– هل أنت خائف؟
– لا… أخاف على من يزور قبري من غير أمي… وداعاً.
…
…
كفاك نقراً على زجاج الكابينة. أنهيتُ مكالماتي، سأغادر. تفضّل، وهذه زجاجة، خذها، أكمل الباقي…
هل ينبغي إخفائي بتقطيع نفسي إلى أجزاء، وأُفرّقني بعيداً، مثل ساحر في سيرك؟
لن أثق بألكسيفيتش، حتى لو تحول أمامي إلى قالب ماء يمتد من السماء إلى الأرض. سأذهب إلى محطة القطار وأعود. يجب أن أحكي كل شيء لصديقي لادو دافيدوف.
تحت ضغط فكرة تنازعني بين تأجيل الذهاب إلى موسكو على عجل أم التسكع في لينينغراد والتردد على سيرك سينيسيلي، سَرَقتني من نفسي محطات لساعات، غيرت القطارات بعشوائية. كان قطار السهم الأحمر السريع خياراً تحت اليد، أوصلني الأخير الذي خطفني من فوركوتا، حل عقدة متاهة المسافات باليانصيب. لو كان قطار نوفغورود قد استحوذ على خياري، لكانت سلسلة التفكير قد حطت بي في البحر الأسود. يا الله… أنا في البوفيه في تقاطع المحطات الثلاث، كابينة لادو دافيدوف قريبة، لا داعي للتعجل، أتمتع برشف قهوتي، هناك متسع من الوقت.
يا مُخَلّص؟ تلك المرأة تتجه نحوي، تلتفت نحو الخلف ثم تنظر نحوي. إلى جانبي مكان لها، لو احتاجت الجلوس، هل ستمر من أمامي أم… تنظر إلى المكان الشاغر جنبي؟ ما زالت تتلفت كالحائرين. عن ماذا تبحث؟ ليلة واحدة فقط ونفترق؟ أنا الشخص الخطأ، أنا رجل من زمان، من القرن الماضي، مُجَمّد على اعتقاد أن اللذة ضارة، والاعتراف بالتسلية دليل للشيطان. هل ستفعلها وتجلس، رغم أنني أبدو كالخارج من منجم فحم؟ حتى لو فعلتها، لن أحدثها عن مهمة الحرية التي انتهت بلغز يصعب حَلُّه.
أصبحت المرأة على مبعدة خطوتين عني، مُهندمة ببدلة خضراء، الجاكيتة ضيقة تنتهي بدانتيلا عند الرقبة، البلوزة حمراء وشال أخضر معقود بمهارة، التنورة طويلة، الجوراب أخضر، الحذاء أحمر، الفردة اليمنى متسخة قليلاً، أعلم كيف يمكن التلميع بالشمبانيا الممزوجة بصفار البيض. هي واحدة من ثلاث. ممثلة في البولشوي. موظفة في الطيران… أو مُغنية. نعم، تشبه التي غنت “العقيد الحقيقي”. حقيبة سفر بيدها… هل هي مغادرة أم قادمة؟
فعلتها، جَلَسَت. أنا ودود مُجامل. لو سألتني سؤالاً سأجيب: نحن شعوب الحب والصداقات… يا للعطر، يا للرقة، يا…
تمتد يد امرأة أمامها، مجرد النظر إلى الخف. أعلم أنها مُشردة: الرائحة، العين المتورمة…
— “صدقة، صدقة… خرجت من السجن قبل مدة، ابنتي ولدت فيه… صدقة.”
نضع على كفها عددًا من القطع.
— عفواً، سيدتي؟
— آنسة.
— هل الآنسة مُغنية؟
— كيف عرفت؟ أنا من جوقة نقابة فناني كييف.
— ابن عمي يعيش في كييف. هل المنظمة الحزبية تعمل بمرونة؟
— سؤالك مُفاجئ. كُنت في زيارة قصيرة، أختي تعيشُ هنا. رتبنا فعالية تخص عيد الميلاد القادم، سأعود بعد أسبوعين.
أردت القول، ولكن النطق بـ “عيد الميلاد” مُحرم… لم تقل مثلاً “اجتماعات الميلاد”. غريب أمرها، تبدو شجاعة.
— أُبادل سؤالك الغريب، سيدي، بسؤال مُهذب، لكن أجبني بصراحة: هل هذا المكان ملعون؟
— يا مُخَلّص خَلّص… ملعون، ملعون شهر ملعون… صدق الصبي التائه عندما وصل من تياري العليا إلى جيلو متقطع الأنفاس، وكأنه جندي الماراثون. في القرن الماضي صرخ: “شهر ملعون!” كيف اجتاز ما بين الصخرتين المعروفتين في طريقه، أمتار مُرعبة يخشاها العابرون، حتى جباة الضرائب العثمانيون كانوا يلقون حتفهم الواحد تلو الآخر؟ طريق ضيقة بحافة الهلاك، الوادي عميق بين الصخرتين…
قصّ عليه جده أعجوبة إحياء لعازر الميت المدفون، وقال الصبي: “سأذهب إليه، أترجاه أن يُحيي أبي الذي قُتِل وأنا في بطن أمي”.
— يا بُني، المسيح بعيد، بعيد جدًا، ليس في هكاري.
تحداه الصبي: “سأذهب للبحث.” لحق به جده: “لا تذهب، فهذا الشهر ملعون… ملعون.”
— إما أنك تجاهلت سؤالي، أو أنك لا تريد أن يتطور خوفي إلى رعب؟
— لست حفار قبور. سمعت قصصًا، حددي المكان حسب ما وصفوه لك.
تشير إلى بوابات ثلاث بدرجات قليلة تفتح على محطات ثلاث، ثم بسبابة ناعمة، الظفر لماع أحمر أحاط كل المكان بدائرة. نظرت نحو برج أعلى بناية هناك عبر زجاجة النافذة العليا.
— بالتأكيد، ذلك المكان ملعون، إنه فندق لينينغرادسكايا.
— أرجوك، يبدو أنك رجل صادق. لو نشب حريق من حولنا، سأرتبك، أتعثّر… ساعدني بالخروج عبر البوابة التي تؤدي إلى محطة ريازانسكي.
— صلّي في قلبكِ.
— لا أعرف كيف.
— اطلبي من الرب طلبتكِ، قولي أي شيء. أنت تحبين الحياة.
— نعم، أحب الحياة، ومن في الدنيا يتمنى لنفسه النار؟ سأغني في قلبي أغنية شعبية أوكرانية: ‘أوه، في بستان الكرز، وكيف لا أحبك يا كييف.
— أخبرني الإسكافي صاحب الكشك القريب ذات مرة عن الأسطورة الرئيسية…
— ماذا لو كانت لعنة حقيقية وليست أسطورة؟
— أنا أنقل لك ما سمعت فقط. ساحة كومسومولسكايا مكان ملعون.
— فضيع. سأعد دقائق الساعة دقيقة دقيقة، قبل أن أهرع نحو رصيف قطار كييف.
— وأصبح الأمر كذلك منذ حوالي السبعة قرون. رفض رهبان الدير الذي زُعم أنه كان موجودًا هنا السماح لرجل مسن بالدخول خلال عاصفة رهيبة. رد المسافر الغاضب بشتم الدير ورهبانه. في لحظات قليلة ابتلعت الأرض والرمال المحلية الدير إلى الأبد، ودفنت كل من كان فيه حيًا. وفقًا للأسطورة، لا يزال هذا المتجول ذو اللحية الكثيفة والخِرَق يظهر أحيانًا في منتصف الساحة، ويسقط على ركبتيه ويصلي، متوسلاً المغفرة من الرهبان الذين لعنهم.
— لست أجهل ما أراه من علامات تدل… الكثير من المسافرين الملتحين غير المهذبين والمتجولين من أصحاب السلوك الغامض في هذه الأماكن.
— كان بناء مترو الأنفاق في أوائل ثلاثينيات القرن معقدًا حقًا، بسبب فيضان نهر تحت الأرض، أي تحتنا هنا.
— يا لهول الشهر الملعون.
— وأما عن الحكاية التي اسمعتني إياها نينا ابنة بوريسوفنا الملاكم، فهي تعتقد أنها شائعات، مع ذلك اسمعيني… تعرض قصة الرعب تلك أيضًا: رجل أعمال إيطالي، افتتح مسرح كوميديا في هذه الأماكن، والذي احترق مرارًا وتكرارًا، حتى أفلس الإيطالي تمامًا وفُقد في طريقه إلى المنزل.
— هل كان هناك بالفعل مثل هذا الشخص؟
— جيوفاني لوكاتيللي. من مواليد ميلانو، افتتح دار أوبرا خاصة في موسكو، حيث جمع إنتاجه بين الباليه والأوبرا والكوميديا dell’arte. للأسف، لم يجرب جمهور موسكو عديم الخبرة الفن الجديد وقتها. في الواقع، سرعان ما أفلس لوكاتيللي وحصل لاحقًا على وظيفة تدريس اللغات الأجنبية في المسارح الروسية. لا نعلم صادقًا، هل يكفي هذا وغيره من الحكايات، وأسأل نفسي كلما كنت هنا نفس السؤال: هل هذا المكان ملعون؟
— شكرًا لكَ.. سأقف على الرصيف بانتظار قطاري، متحملة البرد للفترة المتبقية.
صباحًا، امرأة بجانبي في الترولي باص قالت: “شعرك الفوضوي، لونه الناري، نادر!
وأثناء نزولي من الباص، صعد رجل ذو وجه محترق وقال: “وأنت أيضًا، غادر، إنسان بروح مثلك، محزن جدًا أن يحترق. إلى اللقاء.
الناس أنواع.. نهرينوفا، زوجة ابن عمي في كييف.. قلنا: “هذا رجل من أصحاب القلوب القوية.”
وهي تشاهد أرمسترونغ ينُط على القمر، علَّقت: “أنا قادرة على القيام بهذا العمل.”
بالعذوبة ضحكتها وهي تُضيف: “مُجهز بحفاضة، أليس كذلك؟”
سأدخن سيجارة أخرى قبل أن أذهب للقاء لادو.. اللعنة، العلبة فارغة.
لكأن حبلًا يربط قدمي ويسحبها بعيدًا عن صديقي. بدأت هواجسي تلعب لعبتها معي. اعذرني لادو، أنا ضعيف أمام الدخان.. الكشك قريب، سأشتري علبة.
لن أشتري من هذا المراهق الواقف في الكشك، يشبه فولوديا، ابن مفوض الشعب لصناعة الطيران، شاخورين..
كان لادو قد غادر مراسيم منحه وسام البطولة الأول، مرفوع الهامة، منفوخ الصدر وتحت إبطه المرسوم. يتبختر وكأنه في استعراض أمام القادة في ساحة الكرملين.
أبى إلا أن يمر على جسر بولشوي كاميني، يطمح أن يستعرض أمام أكبر عدد ممكن من المواطنين الذين يدافع عنهم. وجهته درج الغرانيت المؤدي إلى المسرح.
في تلك اللحظة انطلقت رصاصة من يد فولوديا، ابن شاخورين، ليقتل حبيبته وزميلة الطفولة في المدرسة، نينا أومانسكي، ابنة الدبلوماسي. كان هذا قبل انتصارنا على هتلر بعامين.
قفز لادو القريب منهما، محاولًا خطف المسدس من يد المراهق القاتل، لكن بعد فوات الأوان.
انتحر فولوديا برصاصة من نفس المسدس.. أخشى على لادو من هكذا اندفاعات، وهي كثيرة.. كيف حصل فولوديا على مسدس؟ هذا المراهق المنتمي إلى منظمة الرايخ الرابع، اسم مجموعة سرية من المعجبين بهتلر، ويقال إنهم تآمروا للإطاحة بالنظام السوفيتي.
الظروف التي وقعت فيها هذه المأساة والأحداث التي تلتها تستحق أن تصبح رواية أو فيلمًا روائيًا طويلًا، يكتبها مُحدثي، الأخ، أبو عادات الرأس السرية في لينينغراد.
ياحبيبي، لست وحدي من يجهل خفايا الدهاليز، أبناء المسؤولين؟ ياحبيبي! مسدسات ومنظمات وقصص بلا نهاية.
و إيتماتوف زمانه، أسأله عن الشكوى، فيرد عليّ: “كل شيء آخر على ما يرام.”
أمامك ألف قصة لتكتبها عن العراب السوفيتي، لماذا تبحث تحت الأرض عن عراب آخر؟ ما علينا!
أفضل ما يمكنني عمله، أن أمد الآن كوبيات علبة دخان، فاحصل عليها من يد هذه الحسناء في الكشك التالي، تشبه المغنية صوفيا روتارو، وخاصة شعرها الأسود المفروق على الجانبين والممشط بمشط كليوباترا.
شكرًا لك صوفيا على أغنية الأولمبياد. أم أنها هي الأخرى مُنعت؟ لا تضحك يا خوشو.. حرر قدميك من الحبل الوهمي وسارع نحو صديقك العظيم.
لكن، هيهات، ماذا؟ هذه صورة صديقنا في الملصق، خنانيا بنداروف؟ أعظم مرمم لوحات في المتحف الروسي، محاضرة خاصة عن كتاب نوادر جحا، مترجم إلى الروسية والآرامية الحديثة..
هذه أجمل بشارة يمكن زفها على مسامع أعز الأصدقاء، لادو.. سنذهب معًا. بينداروف استلهم وجهي عند رسمه جحا، وقبلها قال إنني أشبه واحدًا من بحارة الفولغا، في لوحة عظيمة بريشة ريبين الأوكراني.. أفضل صورة وجهي على كتاب جحا. لكم، أنا مشتاق لكم، أصدقائي..
ملصق جميل، مولدافيات، فساتين شعبية، كل تمسك بعنقود عنب، نبيذ جيد.
في طريقي نحو كابينة لادو القريبة، ملصق آخر، لكأننا في مولدوفا. صوفيا روتارو مولدافية أيضًا.
سيرك كيشيناو، مهرج جديد، مفاجآت، تم توسيع مقصورة الجوقة الموسيقية.. زرته، أعرف أنه من أقوى السيركات الثابتة، البناية نفسها جميلة جدًا، قصر أجمل من الكرملين..
تصادفني المرأة الجميلة من كييف ثانيةً!: “لابد من تأجيل السفر، قطار كييف الأرمل يغيرون عربة المطعم، نشب فيها حريق.. فضيع، فضيع. وأنت ما زلت هنا؟”
— هذا يجعلني أفكر أيضًا.
— رافقتك السلامة. إلى اللقاء.
لابد من دخول ساحة ياروسلافسكي. قريبًا، سيحل المساء، قد يقفل على الكابينة ويذهب إلى البيت في أي لحظة. يقول وزير سنحاريب، أحيقار الحكيم: “يا بُنيّ، الصديق خير من أخ بعيد.”
الكابينة مقفلة؟ للمرة الأولى ستارة داخلية تحجب سيور الأحذية؟ قصاصات ورق تلتصق بالزجاج؟ شموع على الأرض بين باقات الزهور؟
أهرب من لغز، أستقبل لغزًا أكبر. هل توفيت زوجة لادو؟ ابنه؟
اقترب يا خوشو أكثر، اقرأ أي من هذه القصاصات:
“أسود جدًا وميت جدًا
أنه لا يمكن أن يكون أكثر فتكا
ولا يصبح أكثر سوادًا…”
لم تكن كوموسمولسكايا ملعونة أكثر من هذا المساء. سأسأل سفيتلانا في كشك الزهور.
— لست حزينة فقط، خَوشوفيتش.. احترق شوقًا إلى لادو.. ياروسلاف بدون البطل مقفرة. تأثرت كثيرًا في المستشفى. لادو مضرج بالدماء، وفارتانوش امرأة شجاعة، بيدها كمادات، لم أرَ في حياتي ما رأيته في عينيها وهي تقول: “هذه طعنة في ظهر آشوري. ابنك سينتقم، إنّا اختبأ اللقيط، سنمسك به. سفيتلانا، جهزي أجمل وأكبر باقة زهور عرفتها موسكو لحبيبي لادو. سأكمل العمل في كابية الإسكافي، لم يبقَ إلا القليل ونُجهز المال اللازم، سأحقق حلم لادو، وسنبني البيت الذي دمّره الطيار النازي في فلاديكافكاز.”
يسخر دومًا، ويقول: “أتسلى فقط بسماع القصص، اللعنة على اللعنة؟ هل تريد معرفة مكان لادو؟”
—”……..”
— “خالد هنا… عندما كان لديه وقت فراغ، يتابع الحياة في ساحة المحطة، في مثل هذه اللحظات، يصبح ثانية مستكشفًا، وصيًا على تدفق الركاب غير المستقر، ومستعدًا كل دقيقة للتدخل في التدفق الفوضوي، وتصحيح شيء ما، وإصلاحه، وإزالة العائق، والازدحام، والفوضى فيه.
هذا صبي تائه في الحشد، يقفز دافيدوف، يشق طريقه إليه ويأخذه إلى مُذيع المحطة.
ينظر مُزارع أوزبكي إلى الكابينة الخاصة به: “كيف أصل إلى فدنكه؟” سيشرح لادو بالتفصيل كيفية الوصول إلى هناك.
انظر جوار الكابينة، آلة تعمل بالبطارية، تبيع المياه الغازية.. طوال اليوم يغير لادو الأشياء الصغيرة.
يُغادر رجل محبطًا صانع الآيس كريم، لم يكن بإمكانه استبدال واحد باثنين كوبيك، عليه الاتصال بالهاتف بشكل عاجل.
“أنت، تعال هنا!” يُنادي دافيدوف… في صندوق خاص يحتفظ بخمسين قطعة كوبيك.
ومرة أخرى، يحدق في الحشد. رجل مسن يمسك بصدره، وضع قلبه سيء. أجلسه لادو في مكانه داخل الكابينة وركض إلى مركز الإسعافات الأولية في المحطة.
عندما قتل أحد اللصوص رجلاً في وقت متأخر من إحدى الأمسيات قرب كابينة الإسكافي، اكتشف لادو ذلك القاتل من خلال إشارات تدل عليه، كضابط استخبارات عسكري سابق. لم يفهم الدوافع، إلا أنه انتزع سكينا كبيراً واندفع وراءه. في تلك اللحظة، كان مرة أخرى من مشاة البحرية. معركة قصيرة بلا دماء. أصبح قاطع الطريق رقم 51 من بين الأعداء الذين أسرهم دافيدوف.
خاض آخر قتال له في موسكو، في المصعد. هاجمه مخادع من أجل الاستيلاء على النجمة الذهبية للبطل. قاتل لادو حتى النهاية، لكن المصارعة كانت غير متكافئة. نُقل البطل المخضرم المذهول إلى المستشفى مصاباً بجروح خطيرة. ولم يأخذ اللص معه سوى نسخة مقلدة من الميدالية! “
لكأن خوشو وصل إلى كابينة لادو من تحت الأمواج، كما لو كان على جزيرة اختفت حقاً من جميع الخرائط.
بدأ بالتراجع إلى الخلف صامتاً خطوة بعد خطوة، تبكي بائعة الزهور. ينظر إليها شابكاً كفيه على رأسه. التراجع الخلفي مستمر، يصطدم به المسافرون. نظر إلى كابينة لادو وأدى التحية العسكرية، ثم يتراجع خطوات أخرى، يستدير فجأة، يُكمل المسافة بأسرع ما يمكنه، وحتى وصوله بوابة محطة مترو كومسمولسكايا باتجاه مركز موسكو، يختفي.
اتصلت بي جونا في اليوم الثالث بعد دفن الراحل في مقبرة بياتنيتسكوي، لكي أزورها في شارع أربات، فالأمر هام: “أثق بك، نينا. خذي هذا المال، سافري إلى كييف. في هذه الورقة، العنوان ورقم الهاتف. قولي لأبن عم خوشو. إنني أعطيته ما يكفي للسفر، سيتدبر أمره، هو في طريقه إلى العراق.”
— سأفعل. سأفتقده كثيراً. خبر آخر، حزين جداً… بقيت قصة هذا الرجل، يكتنفها غموض. من هو العم خوشو؟”
— “سيُدفن سره في كييف. جيلكم لا يعرف قصصاً كثيرة. البروفيسور سادو لم يكتب شيئاً عن خوشو في موسوعته عن آشوريي الاتحاد السوفيتي، تحاشياً للتصريح بأمور حساسة. تعرفون أن عائلة سادو عانت الكثير، وسادو نفسه قضى في سجن فلاديمير ما مجموعه 20 عاماً. العم خوشو عاش يتيماً، أُعدم والده في فترة التطهير في كييف. كان له أخ، عاد إلى موطن الوالدين، ‘بيوتر فاسيلي’ وشهرته في العراق، بطرس أبو ناصر. هاجر أبواه من العمادية إلى جورجيا أيام العثمانيين، وبيوتر فاسيلي ضابط سابق في الجيش الروسي، وقد دخل إلى العراق في بداية العشرينيات. بعد أن أصبح داعية شيوعياً، وكان على اتصال مع أستاذ للدعاية المشرقية في جامعة باكو أسمه فيليمونوف، عاش يومها في كرمنشاه. وكان بطرس فاسيلي يمارس نشاطه في البصرة وبغداد وبعقوبة والسليمانية، واستقر أخيراً في الناصرية، واستطاع نشر الفكر الشيوعي بين عدد من العراقيين، ثم طُرد من العراق إثر مذبحة سميل… انقطعت أخباره نهائياً.
شخصياً، مددت له يد المساعدة. أنا على مسافة واحدة من جميع المسؤولين الكبار، محبوبة من قبلهم. اقترحتُ عليه ورفض. أردتُ إغلاق ملف ملاحقته من قبل المهووسين بغموض الآخرين. خوشو برئ، طيب لكنه ملدوغ. أنا قارئة جوهره… أخبرني بأنه مستمتع بلعبة القط والفأر مع الأوغاد. لديه صديق صيني، يدخل عبر الحدود ويخرج بدراجة نارية، يُخفيها في الأحراش. مستعد أن يأخذ خوشو متى يشاء، ينقله إلى أقرب ميناء مقابل الروبلات. يحلم مواطنو العالم بدولة إنسانية تُراعي مخاوفهم، وقد يُعطيهم ذلك الأمل. هو مزيج من ‘درسو أوزالا’ في الغابات و’جحا’، جحا الآشوري في موسكو. لكل مجتمع ‘جحا’ خاص به. يعكس من خلاله واقعه بفلسفة ساخرة. هاهو جحا الخاص بنا يعود إلى أصله… خوشوفيتش أبو الغصن! جحا الحقيقي، ‘أبو الغصن دجين الفزاري العراقي’، سيصل. لا أخاف عليه. تخيلي، نينا؟ وكنت معه في لحظات الوداع. فكرتُ بقول أي شيء، كنت أحسب أنه في حالة روع، تأسف، حزن. وأنا أرى في فضاء الشقة علامات استفهام كالجنيات من حولنا.”
قال لي: “صحيح أن العراق حزين، لست ذاهباً لأحفر القبور… سأسمع الأرامل والأيتام نوادر جحا. ثم معي مسدسان!”
سألته: “أين؟ دعني أرى.”
فتح جهة من معطفه، وأخرج لفافة كتاب مضموم بحلقة مطاطية. كان كتاب بينداروف عن جحا. فتح جهة معطفه الثانية، لفافة كتاب أخرى عن جحا. أخبرني بأنها نوادر جحا التركي “نصر الدين” لمؤلفه ليونيد سولوفيوف. حرر اللفافة من الحلقة المطاطية، مدّ الكتاب إليّ… أعلى الصفحة الأولى، جملة كتبها خوشو بأحرف روسية منقوصة وأخرى بأخطاء إملائية. شعرت بخوف وأنا أقرأ عبارة لبوريس باسترناك: “ولكن من نحن ومن أين نحن، عندما كل تلك السنوات تركت كل القيل والقال، ونحن لسنا في العالم؟”.
وطلب مني أن أقرأ، لا على التعيين، أي واحدة من النوادر، بينما أنا في الحقيقة، لا تقوى ركبتي على حمل قلق، خوف، حزن.
— “أعطتني الملكة الآشورية مبلغاً كبيراً من المال. لن أخدع نفسي، ليس بإمكاني لا إرجاع المبلغ في المستقبل، ولا رد الجميل في الغياب. الآن دعي ضميري يرتاح… سأقرأ بنفسي واحدة من نوادره، أرجوك ابتسمي ولو ابتسامة خفيفة!”
— “نحن في عزاء، حزانى… لست مديناً لي بشيء. لا تثر جنوني، أعصابي تحترق. وداعاً، وداعاً.
قبل أن يعلق بياقة معطفه، خطاف الحبس الانفرادي من فناء لوبيانكا! “
— “لطالما بحثت عن شبيه لي، مع أن هناك أربعون. قد أصادفه في العراق. لا أتمناه ألكسيفيتش، أو علي بابا. بل ناقماً مثلي، هناك يمكن اللجوء إلى الجبل عند اقتراب الخطر… أما هنا؟”
صحيح أنه غالب نفسه ليودعني، دون أن تخرج كلمة وداع من فمه. التقط الكتاب من على الأرض، كان قد سقط… سمعت باب الشقة ينفتح. كنت هويت على أقرب كرسي، غطيت وجهي بشعري وكفي الممتلئة بالدموع.
لأول مرة، جاء إلى هذه المدينة التي لا يمكن تفسيرها في سن الثامنة عشر. ومنذ ذلك الحين، في مناسبات مختلفة، بصفات مختلفة، في أجزاء مختلفة منها، ربما كانت عشرات المرات. في موسكو، لم يعثر على موسكو أبداً. لفترة طويلة، أرهق عقله على لافتة معلقة عبر الشارع: “الناس والحزب واحد!” ثم أصبح كل شيء مرتبكاً تماماً. اليوم، لا يزال يعاني من مرارة خيبة الأمل التي حلت به، والاستياء من العالم بأسره… ولكن في اليوم التالي، يتم نسيان كل الأحزان تماماً. من بين جميع شرارات السعادة التي شهدتها الحياة، ظل هذا الشرر دائماً واحداً من ألمع وأكثرها سخونة: الأسرة.
الرجل يعبر باب شقته يمشي على ممر يؤدي إلى شرفة خشبية واسعة، ثم ينزل درج خشبي إلى الفناء. في الأمسيات الجميلة والدافئة، هل سماع صوت أسرته مستحيل؟ يا لقساوة العالم!
هذا مفتاح شقة خوشو. أعطه لوالدك، فهو يحتفظ هو الآخر بالسر. لست متأكدة، ربما في الحمام دجاجتان. فليتصرف بوريسوفنا، يأخذ قطع الملابس من الشقة، يَرميها في مكان بعيد على حافة النهر، ويُلقي المفتاح في نهر موسكوفا.
اليوم، لا توجد كابينة زجاجية في محطة ياروسلاف، تمامًا كما لا توجد في المحطات الأخرى. يتم تنظيف الأحذية بالآلات. كقاعدة عامة، احتلت تلك الكابينات الزجاجية مكانها في الساحات العامة، بالقرب من المكاتب الحكومية، وأصبحت بذلك مركزًا للأحداث المهمة. بالنسبة للكثيرين، صار تلميع الأحذية تقليدًا طويل الأمد، وأصبح الإسكافي صديقًا حقيقيًا. لذلك أنقذ العم خوشو، المغني الشهير ليميشيف، من إزعاج المعجبين.
سُميت المدرسة رقم 6 في فلاديكافكاز باسم بطل الاتحاد السوفيتي لادو دافيدوف. تم افتتاح اللوحة التذكارية في جو مهيب، وحضر الحفل ممثلو المجلس الجمهوري للمحاربين القدامى، وإدارة المدينة، والمركز الوطني الآشوري “نينوى”، وطلبة المرحلة الثانوية.
بقيت النجمة الذهبية الأصلية في المنزل، على سترة دافيدوف الرسمية. لا تزال تلمع على طية صدر السترة. إنه لأمر مؤسف أن البطل نفسه مات منذ فترة طويلة، وكان عمره 63 عامًا فقط. يحتفظ حفيده، الأستاذ في أكاديمية العلوم التاريخية، بالسترة والميدالية.
اقرأ أيضاً:
إنعام كجه جي تكتب: هل تعرف نينا ديلون؟
مروان ياسين الدليمي يكتب: ثنائية النّص ومتاهة السرد المتشظي بين الواقع والفانتازيا