ربما كان الهواء باردًا، لكن المؤكَّد أنه كان مُنعشًا بدرجة ما، درجة لا تُخفِّف من انقباضي، لكنها تعين على تَحمُّله. لحظة خروجي من باب المركز أوقف اليمني سيارته بمحاذاتي وأنزل الزجاج متسائلًا عمَّا إذا كنت ما أزال راغبًا في المشي؟ فأكَّدتُ على رغبتي قائِلًا إن الطقس جيد ويغري بالتأمُّل وتحريك الأرجُل المتيبِّسة. فلوَّح بيده وانطلق. انحرفت يمينًا ومشيت. وبينما كنت أمر بمحاذاة السور الخارجي لمستشفى المنصورة الجامعي بدأت أُردِّد وبصوتٍ مرتفع قليلًا المقطع الأخير من قصيدة “كلب الفارما” التي كتبها زميلنا رضا بيومي ونحن في السنة الدراسية الثالثة:
نجحت تجاربنا
والكلب يا أستاذنا العزيز مات
لكن سيظلُّ في الدنيا كلاب
حتى القيامة والحساب
أين رضا بيومي الآن؟ لا أعرف. منذ أن انتقل من طب المنصورة إلى طب بنها ونحن في السنة الرابعة لم ألتقِ به أبدًا، ولم يصلني أي خبر عنه سوى اعتراض الأمن على تعيينه طبيبًا مقيمًا لأمراض القلب بمستشفى بنها الجامعي. ثم بلغني بعد عامين أنه كسب القضية التي رفعها على الجامعة؛ فتمَّ تعيينه بحُكم المحكمة في الوظيفة عَينِها. ثم انقطعت أخباره مرة أخرى. أعجبتني قصيدته -وقتها- باستثناء هذا المقطع الأخير. لم يعجبني ما فيه من إسقاط ساذج تحديدًا، وتمنَّيتُ لو أن القصيدة كانت أكثر إخلاصًا لـ “كلب الفارما”. الغريب أنني نسيتُ القصيدة كلها إلا هذا المقطع الذي لم يعجبني- عكس ما يحدث غالبًا حين نحفظ الأبيات التي تعجبنا وننسى باقي القصيدة. والأغرب من ذلك أنني لم أتوقَّف عن ترديد هذا المقطع طوال السنوات الماضية بلا مناسبة مُحدَّدة في أغلب الأحوال.
وبينما كنت أعبر شارع چيهان السادات عبرت مُخيِّلتي صورة “عم محمود” الذي كان يعمل بقسم الفسيولوچيا. كان رجُلًا أشيبَ، قصيرًا، وبمشيته عَرَجٌ واضح. لم يكن يتخلَّى أبدًا عن زيِّه الرسمي: بالطو رمادي طويل يلبسه فوق ثيابه العادية حتى في عزِّ الحر. وكانت واحدة من مهماته في القسم أن يجلب الكلاب التي يشتغل عليها الطلاب والباحثون. لا أعرف من أين كان يجلب هذه الكلاب، لكنه كثيرًا ما عبر من وسطنا ونحن منتشرون في حوش الكلية ساحِبًا وراءه كلبًا: في رقبته سلسلة طويلة، تلتفُّ حول عنقه بإحكام، ثم تمرُّ عبر ماسورة حديدية رفيعة ومُجوَّفة، طولها يزيد قليلًا على المتر، ويستقرُّ طرف السلسلة الأخير في قبضة عم محمود. كان بعض الكلاب مسالِمًا يمشي وراءه صامتًا مُنكسرًا، وربَّما مذهولًا، يتلفَّت حوله في كل الاتجاهات مستغربًا وجوده وسط المجموعات المتناثرة من الطلبة اللاهين. لكن الغالبية من كلابه لم تكن مستسلمة هكذا، بل كانت تحاول أن تغرس أظافرها في الإسفلت فيما يسحبها هو بإصرارٍ فتنغرس الحديدة الطويلة في الرقبة فيتحرك الكلب خطوةً أو خطوتين مُرغَمًا، أو ينقلب على ظهره، ثم يعود فيحاول أن يغرس ما تبقى له من أظافر في الإسفلت مطلِقًا أصوات استغاثة تقطع القلوب. كان المشهد مزيجًا من القسوة والسخرية: عم محمود بعرجه الواضح يسحب كلبًا، والكلب ينشب أظافره في الإسفلت ويستغيث، ونحن الطلبة ندير وجوهنا بعيدًا عن المشهد. لكن هذا المزيج كان يصل إلى ذروته عندما يبدأ عم محمود وكلبه صعود السلالم. مائة درجة من السلالم الرخامية المنزلقة، أو أقل قليلًا، وصولًا إلى معمل الفسيولوچيا في الطابق الثالث. الكلب يرفض الصعود، يسحبه عم محمود بقوة، ينزلق قائماه الأماميان على الرخام وينفتحان عن آخرهما فينحشر بوزه الطويل تحت الدرجة التالية وتتكسَّر أنيابه، فيصعد مسحوبًا ومغصوبًا ومُدمى. وهكذا حتى يصل إلى المعمل بلا أظافر تقريبًا، تاركًا خيطًا طويلًا من اللُّعاب المدمَّى على السلالم، وربما قِطَعًا من أنيابه المتكسِّرة.
اعتقدت أنها ستمطر؛ فأخذت تاكسي إلى البيت. نزلت في منتصف شارع قناة السويس تقريبًا، وانحرفت يمينًا باتجاه شارع الأشراف. بدا الشارع شبه خالٍ من المارة وإن لم يَخلُ من عربات اليد المرصوصة على الجانبين وقد رُصَّت عليها أكوام من البرتقال والخيار والطماطم. انحرفت يسارًا باتجاه شارع الإمام الليثي، وبعد خطوات قليلة وعند التقاء الإمام الليثي بـشارع “قاعود” لم أستغرب خلوَّهما من الناس، لكنني لاحظت -للمرة الأولى- أن دكان الجزارة الذي يقع على الناصية لا تحيطه الكلاب. أين ذهب الناس؟ وأين ذهبت الكلاب؟ الكلاب التي كانت تهرول ذليلةً خلف عربة الكارو المحمَّلة بالذبائح نصف المكشوفة قادمة من السلخانة، فيواصل بعضها الجري وراء العربة المتهالكة، بعد أن تُسلَّم للجزَّار حصته من اللحم، ويبقى بعضها الآخر رابضًا حول الدكان، ولا يغادر حتى بعد أن يحصل على نصيبه من الدهن العالق بالعظام. أين ذهبت كل هذه الكلاب؟ كانت تُعَدُّ بالعشرات؟ هل اصطادها جميعًا “عم محمود”؟ هل ماتت كلها في المعمل؟ أم أنها انقرضت هكذا فجأة؟ الكلاب التي كنت أترك لها الشارع وأمرُّ من شارع آخر من شدة الخوف، كيف لم أنتبه لاختفائها قبل الآن؟ هل كان لازِمًا أن ألتقي بالكلب في المعمل حتى أنتبه لاختفائها من الشارع؟ أم أن الواحد فَقَدَ قُدرته على الانتباه لما يحدث حوله؟
من الواضح أنني كنت مستغرقًا جدًّا في حكاية الكلاب هذه، وفي اختفائها المريب من الشارع؛ لأنني ما إن دخلت بيتنا ووجدت أمي جالسة في الصالة في انتظاري حتى باغتُّها:
– هيَّ الكلاب راحت فين؟
– بسم الله الرحمن الرحيم، طب قول السلام عليكم الأول واللَّا مساء الخير.
– مساء الخير، هيَّه الكلاب راحت فين؟
– كلاب إيه اللي جاي من بره تسأل عليها بلهفة كده؟
– الكلاب… الكلاب اللي كانت مالية الشارع راحت فين؟
– وأنا إيه اللي عرَّفني، كنت شايفني باشتغل في البلدية واللَّا حاجة؟
ثم أضافت ساخِرةً:
– ابقى اسأل أحمد الجيَّار… أهو طول عمره بيربِّي كلاب، جايز يعرف. أسخَّن لك الأكل؟
– إلَّا صحيح هوَّه كمان بَطَّل يربِّي كلاب ليه؟
– يوووه، أنا قايمه أسخَّن الأكل.
– ماليش نفس دلوقتي، آخد دُشّ الأول وبعدين نشوف.
تحت الدش الساخن كنت أدعك جسمي بعنف كأنما أريد أن أُخلِّصه من الرائحة التي لم تفارق أنفي منذ دخولي إلى المعمل حتى الآن. كاد جلدي أن يتقشَّر وما زالت الرائحة كما هي، فخرجت من الحمام دون انتعاش ودون رضا. عملتُ شايًا وتكوَّمتُ على الكنبة التي كانت تجلس عليها أمي في الصالة قبل قليل. أشعلت سيجارة وسحبتُ نفسًا عميقًا، وسرحت: ربما كنت قد تجاوَزتُ الرابعة من عمري بشهور قليلة، وربما كان ذلك في أحد أيام السبت أو الثلاثاء -باعتبار أنهما يوما السوق الرئيسيان- لكنني أذكر جيدًا أن أمي أخذتني معها إلى السوق على سبيل الوقاية من شغبٍ طفوليٍّ أكون طرفًا أصيلًا فيه. لم تذهب إلى السوق مباشرة، بل عرَجَت أولًا على “طنط رجاء”، صاحبتها التي تخيط لها ولأخواتي ثيابهن المنزلية، وتضبط لهن ثياب الخروج التي يتوارثنها عن بعضهن. طنط رجاء تقيم في الطابق الأرضي لبيتٍ طويل ورفيع كأنه قلم رصاص، يقع مباشرة خلف قصر مهيب تحتلُّه مديرية أمن الدقهلية- يُقال إنه كان ملكًا للبدراوي عاشور الذي كان يمتلك وحده نصف المساحة الزراعية الواقعة في زمام مديريات الوجه البحرى. البيت نفسه يقع في شارع جانبي غير مسفلت، وموازٍ تمامًا لشارع قناة السويس، ويكاد يكون امتدادًا طبيعيًّا لشارع الإمام الليثي الذي نقيم فيه. بعد انتهاء الزيارة القصيرة وما تخلَّلها من استعراض سريع لملابس صيفية مُلوَّنة لم تَنتَهِ طنط رجاء منها أخذتني أمي من يدي وخرجنا. أنا في يدها الشمال وشنطة السوق في يدها اليمين. مشينا عبر الحارة الضيقة نسبيًّا، والمواجِهَة تمامًا لبيت طنط رجاء. كانت هناك جلبة آتية من مكان قريب، صوت كلب غير مفهوم، مزيج من النباح والعويل واللهاث، ووقع أقدام عنيفة تجري. وكلما تقدَّمنا خطوة اقترب العويل أكثر وازدادت الأصوات جلبةً وعُنفًا. انحرفنا يمينًا، إلى حارة أوسع قليلًا من الحارة الأولى وتقود مباشرة إلى الشارع الواسع المؤدِّي إلى السوق. لم نخطُ في هذه الحارة الأخيرة أكثر من خطوتين وإذا بكلب متوسِّط الحجم -برتقاليٍّ داكِنٍ تتخلَّله بُقعٌ بيضاء كبيرة، ويسيل من فمه لعاب ثقيل وقذر- يجري بسرعة كبيرة نحونا، ووراءه خَلقٌ كثير. في وضع كهذا كنت في مواجهة الكلب مباشرة، لكن أمي وبحركة واحدة لفَّتني بيدها اليسري وراءها، فأصبحت مَحميًّا بجسدها، ومزنوقًا في جدار البيت الذي كُنَّا نسير بالقرب منه. لكن الكلب لم يتركها وغرس أنيابه في كَفِّها اليسرى التي حرَّرَتها بعد أن لَفَّتني وراءها وحاوَلَت أن تَصدَّ بها الكلب عني. واصل الكلب هروبه والخلق وراءه، وسقَطَت أمي على الأرض جالِسةً تتَفحَّصني، ولما تأكَّد لها أنني بخير فقَدَت وعيها، وحملها الناس إلى بيت طنط رجاء مرة أخرى. كنت خائفا جدًّا، مرعوبًا لدرجة فقدان النطق وفقدان القدرة على البكاء. أخَذَت رجاء أمي إلى الحوض مباشرة وراحت تغسل يدها بالماء والصابون، وتعصرها لتنزف، ثم تغسلها مرَّةً أخرى، وهكذا، مرَّاتٍ ومرَّات. كنت أراقب ما تفعله رجاء بكَفِّ أمي وأنا مُكوَّمٌ في حضن “نينا أم عبده” مثلما أنا مُكوَّم على هذه الكنبة الآن. ضَمَّدَت رجاء كفَّ أمي وأسندتها إلى أقرب سرير ثم انطلقت إلى المطبخ وجهَّزَت كوبين كبيرين من الماء المُحلَّى بكَمٍّ هائل من السكر. لم أشرب نقطة واحدة، كان فكَّايَ قد تَشنَّجَا، ولم يقدر أحدٌ على فتح فمي. كنتُ مُجرَّد عينَيْن مفتوحتين على الرعب، وعلى أمي تمشي مسنودةً ومُتهالِكةً. مخطوفة الوجه ومرعوبة مثلي. لا أذكر بعد كَمْ من الوقت استعادت أمي بعضًا من عافيتها، وطبعًا لم نذهب إلى السوق، وصحبتنا طنط رجاء عائدين إلى البيت. وعندما رجع أبي من عمله، بعد الثانية ظهرًا، وجدني مُكوَّمًا على الكنبة نفسها التي أتكوَّم عليها الآن، مُصابًا بخَرَسٍ غير معتاد؛ فاستراب. أخبرته أمي بما حدث في الصباح فثار ثورةً عارمةً. كيف تترك نفسها على هذا الحال منذ الصباح ولا تجد وسيلةً تبلغه بها بما حدث في وقته. وقال إن هذا الكلب مليون في المائة مسعور، وأن عضَّته قاتلة إذا لم تُعالَج فورًا. كانت ثورته، رغم اعتيادنا على ثورات مشابهة، تحمل تهديدًا واضحًا وصريحًا، فانخرطنا جميعًا في بُكاءٍ عميق لم يتوقَّف إلَّا بعد أن عادت أمي، في حال أسوأ ممَّا ذهبت، من مستشفى الحُمِّيات البعيد والتي أخذها أبي إليها في الحال. وكان عليها أن تتلقَّى إحدى وعشرين حُقنة مُتتابِعة في بطنها، قبل أن نتأكَّد تمامًا من نجاتها.
كان رفيق مُحِقًّا في أنني مُصابٌ بخوف مَرَضيٍّ من الكلاب، وكان تفسيره صحيحًا أيضًا. فمنذ ذلك اليوم الذي مرَّ عليه أكثر من رُبع قرنٍ وأنا أموت رُعبًا إذا نبح كلب في الشارع وأنا جالس في بيتنا. كأن الكلب سيقفز ويدخل من الشباك، نحن نسكن في الطابق الثاني، ويعضُّني. أما إذا تجَمهَرَت الكلاب في الشارع ليلًا وبدأت تطلق نباحها كأنها تنادي بعضها، أو كأن بعضها يتوعَّد بعضها الآخر؛ فإن هذا يكون كفيلًا بطرد النوم من عيني حتى تُشرِق الشمس. وفي الليالي التي يدور فيها “السِّمَّاوي” بعربته الرمادية العتيقة والتي يجرُّها بغلٌ شِبهُ مَيِّت، ويطلق خراطيشه المكتومة على الكلاب، وتنخرط الكلاب المصابة في عويل متقطِّع حاد وممطوط تجاوبه الكلاب السائبة والمختبئة في الأزِقَّة بعويلٍ مُتَّصِل، أقل حدَّة، لكنه ممطوطٌ أيضًا، كأنها تواسي بعضها أو تترك حناجرها للوداعات الأخيرة بين أفراد قبيلة واحدة شتَّتها خرطوش الصياد، في ليال كهذه كنت أبول في الفراش من الرعب. هذا السِّمَّاوي كان يحضر في النهار أيضًا، يرشُّ سمومه حول البالوعة الكبيرة -اختفت الآن- التي كانت تقع مباشرة قُدَّام البيت الملاصق لبيتنا، وأحيانًا كان يحالفه الحظ بصيد كلب أعرج، ربما إثر إصابة ليلية من بندقية سِمَّاوي آخر، فيحمله من قفاه ويرميه في صندوق العربة الرمادية وسط العويل الاحتفالي نفسه. وإذا كنت ألعب مع العيال في الشارع -مَثَلًا- فكانت المسألة تتطوَّر إلى درجة التخشُّب في المكان رُعبًا حتى يمرَّ “السيد الأستاذ” الكلب بعيدًا عني، ثم أطلق ساقي للريح. وربما تتملَّكني نوبة شجاعة نادرة وأتمكَّن من المشي فأترك له الشارع كله وأمشي من شارع آخر.
في اللحظة التي كنت أشعل فيها سيجارة أخرى، دون أن أعدل من جلستي المتكوِّمة على الكنبة، مرَّت أمي من جانبي مُعلِّقةً على كثرة التدخين ومُتسائلةً عمَّا إذا كنت قد أكلت شيئًا منذ الصباح أم لا، وحين أجَبتُ بـ”لا” احتدَّت كأنها تعتذر وهي تسأل عمَّا يضايقني. وحين قلت لها أن لا شيءَ يضايقني، وأنني فقط مشغول الذهن بأمر الكلاب حتى فَرَّت غاضِبةً من أمامي كأنها تفِرُّ من الكلب الذي عضَّها في سالف الأيام.
كانت عمتي التي تعوَّدَت السُّكنى في البراري، بحكم عمل زوجها كمفتش بهيئة الإصلاح الزراعي، قد اعتادت تربية الكلاب. وكنتُ أحبُّ زيارتها في البيوت الكثيرة التي تنقَّلَت بينها، وأحب أولادها -أغلبهم في مثل سِنِّي- رغم أنه لم يَخلُ أي بيت من البيوت التي سكنتها من كلب كبير الحجم، وربما من قبيلة كبيرة من الكلاب. وطبعًا لم أكن أقدر على دخول البيت أو الخروج منه دون أن يمسك واحِدٌ من أبناء عمَّتي بالكلب السائب. وكثيرًا ما حاول أحدهم أن يقنعني أن كلبهم مُسالمٌ تمامًا ويحترم الضيوف ولن يفعل لي شيئًا، دون فائدة. وربما تجاوز بعضهم وحاول أن يمسك بيدي وأن يُمرِّرها على رقبة الكلب الممدِّ على السلالم في هدوءٍ دون أن أجرؤ على ذلك أبدًا، بل كنت أسحب يدي من يده بعُنفٍ وأفِرُّ إلى داخل البيت. لكن، وبعد مرور عشر سنوات كاملة من حادثة الكلب القديمة، وأثناء إقامتهم بأحد البيوت الفخمة التي كانت تتبع الإصلاح الزراعي -الأوقاف الملكية سابقًا- بقرية “دميرة” القريبة جدًّا من المنصورة حدثت المعجزة وشاركتهم اللعب مع آخر الكلاب التي قاموا بتربيتها. كان كلبًا بوليسيًّا متقاعِدًا، وولف، كنت أقف في الڤَرَندة المطِلَّة على الحديقة الأمامية وأحدهم في الممرِّ الترابي الذي تَحفُّه أشجار الخوخ والجوافة من الجانبين والكلب بيننا نرمي له طبقًا من البلاستيك الخفيف فيقفز في الهواء ويلتقطه ببراعة، قابِضًا عليه بأسنانه، ويحمله هازًّا ذيله إلى ابن عمتي. لم يخطئ مرَّةً واحدة ويحمله إليَّ، كأنه كان يدرك -وربما يحترم أيضًا- خوفي منه ومن فصيلته كلها. وقد حدث غير مرة -أثناء اللعب- أن ربض الكلب في الممرِّ متابِعًا بعينيه الطبق البلاستيكي الطائر بيننا، مُعلِنًا أنه خارج اللعبة. كنَّا نقول إنه كلب عجوز تعب من القفز في الهواء ومن حقِّه أن يستريح، لكن زوج عمتي كان له رأي آخر غريب، مفاده أن هذا الكلب كان رُتبةً كبيرة في الداخلية، مثل الكلب “هول” صاحب الشهرة الواسعة قبل قيام الجمهورية العربية المتحدة، وبعد أن قضى كل عمره في مطاردة عُتاة المجرمين، تحوَّل إلى لعبةٍ يتسلَّى بها العيال، فعَزَّت عليه نفسه وجلس يعاتبها ويعاتب الزمن الذي أهانه وحطَّ من قدره في آخر العمر. كنَّا نسمع هذا الكلام العجيب ونتبادل نظرات استغراب ساخر بينما يؤكِّد زوج عمتي كلامه وينادي الكلب الذي يقوم من مكانه في الممر ويصعد سلالم البيت القليلة في ثقل واضح، ويجلس تحت قدمَيْ زوج عمتي الذي يمسح على رأسه ويداعب عنقه، فينام الكلب على جنبه، ويخبط الأرض بذيله خبطاتٍ واهِنةً كأنه يؤمِّن على كلام زوج عمَّتي غير المفهوم. يشدُّ زوج عمتي نَفَسًا عميقًا من البايب وينفث دخانًا كثيفًا مستريحًا من أنفه وهو يقول: هو صحيح عجوز، لكن العجز ليس مشكلته، مشكلته إن عنده اكتئاب، زي موظفين الحكومة اللي طلعوا ع المعاش. وكنَّا نترك الاثنين معًا: زوج عمتي على كرسيه الهزَّاز، والبايب بين أسنانه، والكلب تحت رجليه، دون أن نعطي كلامه هذا أي اهتمام. وبتوالي الزيارات الأسبوعية لاحظت أن الكلب، الذي كان زوج عمتي يسميه “الخواجة”، بينما يناديه أبناؤه “عنتر” ويستجيب هو للنداءَيْن بطريقة واحدة- يزداد ضمورًا وهزالًا في كلِّ مرة عن سابقتها، وأن أضلاعه يمكن عَدُّها من خلال وَبَرِه الذي أصبح خفيفًا ومُنطَفِئًا. وفي واحدة من الزيارات لم أجد “عنتر” في مكانه المعتاد على السلالم، وحين سألتهم عنه قالوا إنه ظل مُمدًّا تحت شجرة الجوافة الكبيرة، التي في الحديقة الخلفية، ثلاثة أيام كاملة دون طعام أو شراب حتى مات، فدفنوه في مكانه. وحفر واحِدٌ من أبناء عمتي في جذع الشجرة الضخم “هنا يرقد الخواجة عنتر”. وأعترف أنني وقفتُ أمام قبره وأنا في غاية الحزن، كنت أعتبره صديقي بدرجة ما، أو تمنَّيتُ ذلك من كل قلبي، لكن ما هزَّني أكثر هو أنني صدَّقتُ، بعد فوات الوقت، كل ما لم أفهمه من كلام زوج عمتي عن اكتئاب الخواجة.
تبيَّن لي بعد هذه الواقعة أنني وإن كنت أخاف من الكلاب إلَّا أنني لم أكرهها أبدًا، بل إنني كنت مغرمًا بالفُرجة على جِراء أحمد الجيار الصغيرة، وأنني لم أكن أملُّ أبدًا من متابعتها وهي تلعب مع بعضها أو مع البط الذي تربيه أمه في الحديقة الخلفية للبيت الذي ما زلنا نسكنه. لكن البهجة التي لا تُصدَّق كانت في الأوقات التي أتابع فيها هذا الجيار الصغير وهو يتقلَّب مع جرائه في تراب الحديقة، يلعقها وتلعقه، ويعضعضون بعضهم عضًّا خفيفًا هَيِّنًا، في فرحٍ حقيقي يصل إلى حدِّ أن يُقبِّل أحمد الجراء في فمها مباشرة كأنه واحد منها. طبعًا لم أجرؤ على مداعبة أيٍّ من هذه الجِراء التي كثيرًا ما صادفته جالسًا على السُّلَّم وهو يحمل واحدًا منها على صدره، واضِعًا الببرونة في فمه مثل أي أمٍّ ترضع صغيرها. كان في حُبِّه للكلاب غريبًا على عائلته التي تعشق الطيور، ما يطير منها وما فقد قُدرَتَه على الطيران. ويبدو أن الكلاب كانت تُبادِله الغرام، فلم أرَ كلبًا ينبح عليه أبدًا، حتى الكلاب الغريبة والشرسة. كانت لديه قُدرَة عجيبة على إيقاف أي كلب عابر في الشارع واللعب معه، لكن الأعجب من ذلك كان الظهور المفاجئ -بين وقت وآخر- لمجموعة كاملة من الجِراء الصغيرة المدملكة في حديقة البيت، يتولَّاها بالخبز المُفتَّت في الحليب، حتى تكبر فتختفي جميعًا، إلَّا واحدًا يصطفيه لنفسه. وكانت أمه -رحمها الله- تتجاوز عن وجود هذه الجراء المدملكة وسط أسراب البط والدجاج التي تُربِّيها، بل وأحيانًا تُطعِمُها بنفسها. لكنَّ الخلافات كانت تدبُّ بينهما حين يتجاوز الكلب المختار دوره كلعبة ويبدأ في مطاردة بطها في الحديقة، أو يقرِّر أن يمارس دورًا أكبر كأن يعتبر نفسه كلبَ حراسة مثلًا ويبدأ بالنباح على سُكَّان البيت في صعودهم وهبوطهم باعتبارهم غرباء. لكن إقامة الكلب في البيت كانت تنتهي بمجرَّد أن يفقد الكلب السيطرة على سخونة هرموناته ويدور في الشوارع باحِثًا عن ضالَّته: أنثى حارَّة، يعود بها إلى البيت، يشمُّ كُلٌّ منهما في مؤخِّرة الآخر، ثم يركبها في عتمة بئر السُّلَّم. ولأن الست والدته كانت تترك باب الشقة مفتوحًا دائمًا، كان اللهاث المكتوم المصاحب للسِّفاد المتوحِّش يصل إلى مسامعها وهي مستغرقة في لَفِّ ورق العنب وحشي الباذنجان، فتترك ما في يدها وتلحقهما بمقشَّة طويلة وتطاردهما مربوطين، خِلْف خلاف، حتى أول الحارة وبداية الشارع العمومي. وبعد أسابيع من واقعة الطرد، وتحت جُنح الظلام، يُسرِّب أحمد كلبة قَرُب موعدها ويُخبِّئها في عُشَّة مهجورة من عشش الدجاج الكثيرة المتناثرة في الحديقة. أحيانًا كنت أشك أنها الأنثى نفسها التي ركبها آخر كلب من كلابه في بئر السلم، وأنه بحث عنها في الأزِقَّة والحواري حتى عثر عليها فعاد بها إلى البيت خفيةً. تضع الكلبة جِراءها سِرًّا ثم تظهر فجأة في الحديقة فارِدةً طولها في بقعة ظليلة، مستندة إلى السور الداخلي وحولها جِراءٌ جديدة عمياء، يتعلَّق كل منها بحلمة من حلماتها الكثيرة في مشهد من الحنان المكثَّف، وهي هادئة تمامًا ترفع رقبتها من آنٍ لآخر وتمدُّ لسانها الوردي تلعق رقبة واحدٍ منها كأنه تشجِّعه على الرضاعة إذا كان ضعيفًا، أو تطمئنه إلى وفرة الحليب إذا كان نَهِمًا لا يشبع. ثم يتكرر السيناريو ذاته، تختفي الجراء جميعًا إلَّا واحدًا يصطفيه الجيار الصغير لنفسه، ويطلق عليه اسم “فوكس”. كل كلابه كان اسمها “فوكس” وكلها طُرِدَت من البيت بالطريقة نفسها. لكنه توقَّف عن تربية الكلاب بعد وفاة أمه -كأنه كان يربيها نكايةً فيها- وتَفرَّغ لتربية البط والديوك الرومية. وإذا غلبه الحنين إلى ذوات الأربع اشترى عنزة أو خروفًا، لكنه لم يَعُد لتربية الكلاب مرة أخرى، ولم يغضب قَطُّ مِمَّن يناديه حتى الآن بأحمد الفوكس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صادرة عن دار المحروسة للنشر ــ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023