أيمن مارديني
هي لعنة أصابت عائلتنا، واسمها الساحر.
هذا هو اسم اللعنة، وليس فقط اسماً للعائلة، وكتاب النائمين هو مكمن اللعنة وأصلها.
اعتقدت عائلة الساحر بحكم عقليتهم البدائية، أن من نام منهم هم الصالحون، وأن أرواحهم لم تمت. هم لديهم القدرة على تقديم الدعاء، ومنع الشر، مما يعني أن زيارة قبورهم قادرة بشكل ما، من خلال أرواحهم المساعدة واستمرار العون لهم. وأن هذه التبريكات،الفضائل والشمائل لها أن ترد اللعنات عنهم. لذلك قاموا ببناء قبورهم من أحجار النيازك التي كانت متوفرة في صحراء مصر بوفرة، بالإضافة الى أحجار البراكين السوداء التي أتوا بها من سيناء.
اعتقدوا بالتقادم أن تلك الأحجار النيزكية، ولأنها أتت من السماء فهي قادمة من الرب، مباركة، تحمل رسالة ما من لدنه، وأن النار التي تنبعث منها قبل سقوطها ماهي الا اشارة من الله لبث الطمأنينة في قلوب من ناموا.
وما أحجار البراكين أيضاً، الا دلالة وأثر من الأجداد السابقين الصالحين، لأنها خارجة من باطن الأرض. ذات المكان الذي دفن فيه السلف النائم.
ومع انتشار عائلة الساحر في أرجاء مصر بين شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، ومع ظهور أبناء لها وبنات غارقون في النوم تعددت أيضاً المقابر لهم.
الى أن أتى أبو أيمن الساحر ونقل رفات كل النائمين، وأعاد دفنهم في مقبرة واحدة على أطراف صحراء المقطم، وأسماها: مقبرة الأطفال النائمين.
هو أبو أيمن الموحد الأساسي لعائلة الساحر، من جمع شملهم أحياءً وأعاد دفن من نام منهم.
هو الذي جمع أفراد العائلة في كتاب واحد، يحمل داخله أسماءهم وسلسالهم من أبناء وبنات. كل واسمه وسنة ميلاده ووفاته، من تزوج وعدد أبناءه ولعنته الخاصة، إن وجدت.
وأنا هو الصندوق الأسود الذي يضم هذه اللعنة. منها جاء لوني، اسمي، وكل ما يقال عني هو الصدق، كل الصدق.
لكني في النهاية ما أنا الا لعنة.
لكني في البدء لم أكن سوى حقيقة، وان تحولت الى سر. فيه من الكذب الكثير، الخرافة، الأساطير، والحكايا، سواء كانت ليلية تروى على مسامع أفراد العائلة حول نار المدفأة، أو في نهارات اليوم بين النسوة في اجتماعاتهن حول القهوة الصباحية، ومجالس العزاء، والأفراح، وحفلات الطهور وأعياد الميلاد.
هل أنا حقيقة أم كذبة؟
هل أنا أطوي سراً لا أعرف أصله وأهميته وهدفه؟
لست أدري؟
إلا أنه هو دور كتب علي، وحياة أعيش تفاصيلها، وسرها، ومخبأها، وصديقي هو الثعبان الأعمى الذي يحرسني ويؤنس وحدتي بقصصه المرعبة المخيفة، ودائماً رائحته وروائح فرائسه لا تذهب عني، غير ملمسه الحريري اللاذع الذي ترتعد له مسامي عندما يلمسني مصادفة، أو الاقتراب مني، وذلك عند كل صباح ومساء، في دورياته التفتيشية الدائمة، لتفقد مكاني ومخبأي وكتاب النائمين.
أنا كتاب النائمين وقد نسيت لوني.
لم أر نفسي منذ زمن في مرآة، أو انعكست صورتي صدفة على حدقتي صاحبي وهو يتفقدني.
أنا الأسود… هكذا أسموني، وقد كان فعلاً على العائلة، وكل من يحتفظ بي وليس لوناً.
أنا، وأجهل مكاني وموقعي على الخارطة، من طول فترة اختبائي داخل العتمة والظلام، حيث فقدت عيناي البصر، ولربما ذهبت عني البصيرة أيضاً.
لِمَ الاحتياج للبصر في مكاني هذا؟
لِمَ يرادوني احساس قديم أن لوني هو أبيض، أو كان أبيضاً ذات يوم، لكن مع مرور الشرور أصبح أسوداً.
في وصفي قالوا الكثير، أفاضوا، واختلقوا الحكايات.
قالت العمة: هو أبيض، أنا متأكدة من لونه … رأيته مرة بيد جد جدي عندما أخرجه الى النور، وقد أخذ يمسحه بقطعة قماش مخملية حمراء.
قالت زوجة العم: لا… ليس بصدق ما قالوا عنه أنه أسود. ربما مع مرور الأيام تغير لونه … أنا متأكدة من كلامي.
قال العم: خرف كل من يقول إن لونه أسود.
الا أن العمة عادت، وأصرت على عدم وجودي في الأصل، وأنني أنا كتاب النائمين محض وهم، ومجرد خيال مريض لعائلة تهوى أن تبني حولها هالات من عز غابر، وجاه ذهب دون عودة، عن عائلة الساحر وسلسالها.
صفحاتي تجاوزت الألف صفحة، ملآى بالكلمات والرسوم والشروح والتفسيرات التبريرات الفائضة عن الحاجة. مكتوبة بلغة عربية أحياناً، وبلغة غريبة وألفاظ لم أعرفها، أخرى. ربما هي لغة لم ينطق بها بشر، أو مندثرة، غابرة، غارقة في القدم. لم تكتشف بعد.
هي لغة خليطة مخلوطة، مسبوكة في بعض المواضع، ذات شعرية عالية، وليست بالشعر، وغنائية فريدة وهي عصية على الغناء، وأخرى سردية استرسالية عند المواضع التي تنص على شرائع وقوانين بيت الساحر. الذين هم بالأصل رجال ونساء عاديين جداً، وبشراً حتى النخاع. من حيث زواجاتهم، صراعاتهم، التواءاتهم بما يتماشى مع صعاب الحياة وشدائدها، عذاباتهم، وضعفهم الشخصي.
أنا مليىء بالتسويف والوعيد وقليل من الوعود، مع قليل من حكايا بائسة عن رجال ونساء عائلة الساحر، ولكن الحق أقول أنني أقدم أيضاً لقارئي بعض الاستبصارات الحكيمة، والمواعظ التي قد تفيد بعضكم في الشدائد.
هي وصايا أقدمها لكم، تعلمونها جيداً بالطبع، الا أنها لابد منها أيضاً، فذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
أيضاً أحتوي بين دفتي الكثير من القصص الجنسية والبطولية، والخرافات والأساطير التي هي تاريخ مسروق من باقي العوائل، نسبت زوراً وبهتاناً الي عائلة الساحر، لرفع مكانتها ونسبها دوناً عن البقية.
هو أنا باختصار مرآة عائلة الساحر، بما تحوي من تناقضات بين الفخر والاعزاز والبطولات واللغة الفريدة والقصص المسلية والحكمة والوعيد الجهنمي وقليل من الوعود، مما يجعلني صالحاً لكل زمان ومكان.
لكني في ذات الوقت نائم هنا في قعر صندوق أسود، مصمت، صامت، داخل قبر ضمن مقبرة الأطفال النائمين، والكل يعلم عني، ويبحث عني جاهداً للوصول إلي، ولكني لعنة نائمة في أصلي.
هي لعنة السر طالتني يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا.
هو أنا السر أقبع في الخلسة، في كتاب.
أم ترى أنا وهم الآخرين، ولست كائناً حياً، أتنفس؟
هو أنا بين دفتي غلاف جاء من أعراق خشب شجر الجنة. اذ في الجنة ليس هنالك سواد، ورائحته التي كانت تفوح منه عبر السنيين لم تزل عنه، أو نقصت… بل على العكس، كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم، تكاد أن تفضح مكانه، تفك المطوي.
لكني أتقنت كتمان رائحته عن الآخرين بطريقة خاصة لن أفشي وصفتها لأحد، هو القلق أغرق فيه، دون أن أبحث عن حل ينقذني منه.
أنهكني السهر، القلق، فقدان النوم … أجل.
هو الخوف من النوم، وتداهمني أهلاس أن أفقد أعز ماأملك…
إلا أني أيقنت أيضاً أن هذا كله سوف ينتهي ذات يوم. لم يأت بعد.
وفي مقابل هذا الوقت الذي يمر ويمضي، كان يذهب النائمون الى مكانهم الخاص خارج الزمن. بينما نحن غارقون فيه، في القلق والأرق والانهاك من يقظة وهمية سقطنا فيها طواعية.
ترى النائمون يواصلون البقاء في عقول الأحياء، أم أنهم يتلاشون تماما بمجرد نومهم، أو سقوطهم في غياهب النوم؟
وإلا لِمَ الحظر والتحريم لذكر النائمين صراحة؟!
وفي ذات الوقت يشملهم كل أفراد العائلة مقاماً عالياً لأرواحهم الهائمة في الوجود.
( قول: هي روح من نام تنقسم، تتشظى، تستنسخ، أو تتقمص في آخرين على قيد الحياة، أو أُخَر.
هي في طفل يتذكر شيئاً، حياة أخرى، أو حيوان ربما بري أو أليف، ورقة شجرة خضراء وارفة، نهر يجري أو راكد عفن، بحر، جبل.
وليس من سرقه النوم بميت. هي روحه تبتعث مرة أخرى أثناء نومه في آخرين، أو أشياء كل حسب فعله في حياته.
ومن عمل منهم مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل منهم مثقال ذرة شرا يره. )
ويأتي تقديم الطعام للنائمين من بين المعتقدات التي شاعت عند نوم أحدهم، أو لنقل في الاتصال الواقعي الوحيد بين عالم النائمين والأحياء.
ذلك أنه من المفترض أن النائمين يشعرون بالجوع، لا يشبعون.
لذا يتبع ذلك أيضاً تحضيرهم حوضاً ومنشفة حتى يغسل النائمون أياديهم الخفية بعد تناول طعامهم. وإن مارس بعض أفرادها تقليداً أن يأكلوا من ذات الطعام الذي يقدم لهم، أو يصنعون درباً ضيقاً، محفوفاً بالأشجار السامقة يصل بين قبورهم وبيوتهم. حتى يجد الشخص النائم طريقة الى طعامه، ثم يعود بعدها الى مكان نومه.
وبمرور الوقت وتجميع كل النائمين تحت أمرة أبو أيمن في مكان واحد، تحولت كل تلك الطقوس الى عيد الأطفال النائمين.
تقوم العائلات بوضع شمعة داخل نبات القرع، ويرتدي فيه الأطفال أقنعة لوجوه من ناموا، وأزياء مختلفة كانت تميز النائمين، كل حسب اختياره: هذه تأخذ شكل شجرة وارفة، وتلك شكل حورية خضراء، هذا يرتدي لباس يظهر من تحته جسمه وأعضاءه من الداخل ……
ويجتمعون كلهم في بيت أبي أيمن في صباح ذلك اليوم من كل عام، لينطلقوا من بعدها الى بيوت الجيران يطلبون الطعام والحلوى والسكر: أطعمنا وإلا أغرقناك في السبات.
هو الطعام، وإطعام الأطفال يعمل على استرضاء من ناموا، ويجلب الحظ للأحياء ألا يغرقوا في النوم.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، اذ دأبوا على تنكر أحد أفراد العائلة في شكل رجل عجوز سمين، ذي لحية طويلة بيضاء يحمل الهدايا للأطفال في ليلة العيد، ليجدوها عند أطراف أسرتهم في الصباح.
كل هذا يوم عيد الأطفال النائمين الموافق يوم نوم سامي مثل بقية الأطفال.
وهو الثامن عشر من شهر يونيو/حزيران.
( قول:
أجساد النائمين غائبة عنا، أرواحهم تزورنا، تحمل الينا العطايا، تتكلم معنا، اذ عرفنا كيف نصيخ الى وشيشهم السري.
هي تريدنا أن نتبادل معها الأحاديث والحكايا. نجلس بجانبها، نستمع الى قصصهم ذات النهايات الحزينة أو السعيدة. ترغب أن نعرف عنها ما يريدوننا أن نعرف، وتتشوق الى تتبع أخبارنا وقصصنا أيضاً.
لا تريد أن تكون بكماء كحجر، أو صماء صامتة كلون داكن، أو نذهب عنها في عتم النسيان. نسيانها لها.
وزياراتها الينا ليست بطلب الانتقام أو اقامة العدل فقط. أو رغبة شهوانية باصطحابك معهم كما جنية الحكايات والأساطير.
بل ربما لتجعلك لا تسقط في النوم. تظل مستيقظاً يقظاً حياً وعلى قيد الحياة.
وان كان النوم ليس رديفاً للموت.
هكذا دون في الكتاب أيضاً.)
…………………
*صدرت الرواية عن منشورات دار الريس – بيروت- لبنان 2020، ولوحة الغلاف للفنانة هيلدا حياري