زينب أحمد علي
أمام عربة الفول المواجهة للجريدة، التف الرجال يلتهمون فطار الصباح كعادتهم، تنتفخ أشداقهم باللقيمات.. لا أحد يلتفت يمينًا أو يسارًا، الكل يصب تركيزه على طبقه، يسابقون الزمن للانتهاء من طعامهم واللحاق بعملهم فورًا.
وقفت فاطمة على حافة العربة تلتهم هي الأخرى نصيبها من الفول والفلافل، التي “تلكُمها” لآخر النهار، وتُعينها على أن تصلب عودها حتى تعود إلى مسكن المغتربات في منطقة “أبو قتادة” .. كانت تصوب عينيها تجاه بوابة الجريدة في انتظار قدوم هالة، وبمجرد اقترابها أشارت إليها لتنضم بدورها إلى عربة الفول .
– “ايه ده يا فاطمة؟!، ما تيجي نجيب الساندوتشات وناكلها جوه”.
أكملت فاطمة طعامها غير مبالية باقتراح صديقتها، مؤكدةً لها أنها تركت “البرستيج” الخاص بها في البلد منذ زمن، وأن عليهما الحديث هنا سريعًا قبل الدخول إلى الجريدة، فما كان منها إلا الاستسلام، وطلبت لنفسها وجبة إفطار، ثم وقفت تتناولها في خجل.
قالت هالة :” ها.. إيه القرار المصيري اللي أخدتيه؟، قولي ربنا يستر”.
:”أنا هسيب الصحافة..لقيت شغلانة تانية”.
نظرت هالة لصديقتها في دهشة، توقفت عن مضغ الطعام، تجمدت لثوانٍ وكأن عاصفة ثلجية قد مرت عليها، فلم تكن تتوقع منها أبدًا أن تفعل ذلك، تعلم جيدًا حب صديقتها للكتابة منذ أيام الكلية، وكلماتها الطامحة إلى أن يصبح لديها عمودٌ ثابتٌ في كبرى الجرائد تكتب فيه مقالة كل أسبوع، وكم كانت تعد أباها وأمها بهذا طيلة الوقت!
لكن فاطمة كانت قد فكرت مليًا قبل هذا القرار.. منذ تخرجها وحتى ذلك اليوم وهي تبحث عن فرصة عمل لائقة في بلاط “صاحبة الجلالة” تحقق بها ذاتها وطموحها، وتتشبث أكثر بالقاهرة، التي لم تكن تتخيل أن تتركها بلا رجعة وتعود لحياة الريف.. كانت تحب قريتها التي نشأت فيها.. تحب بساطتها وتَمتنُّ لها، لكنها كذلك أحبت حياة المدينة .. عشقت القاهرة، وبنت في خيالها بيتًا يجمعها بزوج المستقبل، تمنت أن تُربي أبناءها فيها، يدخلون مدارسها ويتنمطون بنمطها الحديث المتسارع.
منذ تخرجها وهي لم تحقق أي مكسب مادي يعينها على الاستمرار والاعتماد على نفسها دون أن تُرسل في طلب المال من والدها، وتكون عبئًا إضافيًا عليه..فهو لا يملك من الدخل إلا محل بقالة بـ”كفرطناح” ، ولديها من الأخوات ثلاثة.. نصحتها أمها مؤخرًا بالعودة إلى القرية والعمل كمدرسة بإحدى الحضانات أو المدارس القريبة، حتى يأتيها نصيبها وتتزوج، طالما أن الصحافة “مش جايبة همها معاها”. لم تُرد فاطمة ذلك أبداً، لم تُرد أن ينتهي بها الحلم إلى هنا وتضطر للعودة إلى القرية رغماً عنها، لتعيش هناك إلى الأبد، وتجد نفسها ترضى بالزواج داخل بيت “عيلة” هناك، كأقرانها من بنات عائلتها..
سارعت فاطمة تُذهب عن صديقتها دهشتها، وتشرح لها بأنها لا تملك رفاهية الاختيار في الوقت الحالي على الأقل، أخبرت هالة أن إحدى الفتيات بسكن المغتربات، تعمل بوظيفة “مدخل بيانات” في مكتبٍ بمنطقة “العتبة”، وقد أكدت لها مؤخراً أنهم بحاجة إلى موظفين للعمل معهم.. علت وجه فاطمة البشاشة، وابتسمت حينما تحدثت عن المزايا التي ستحصل عليها، والتي لم تجد أيًّا منها منذ بدأت العمل بالجرائد، وبأنها ستعمل في هذا المكتب بعقد سنوي قابل للتجديد، وبراتبٍ ثابت قيمته ألف جنيه “مرة واحدة”، وأن هناك تأمينات اجتماعية وإجازات رسمية مدفوعة الأجر.
حاولت هالة أن تثنيها عن قرارها، نصحتها بالتحلي بالصبر أكثر من ذلك، حدثتها عن إمكانية البحث عن الفرصة في مكان آخر غير جريدة “الحقيقة”، أو عن عمل إضافي “بالقطعة” في إحدى المواقع الإلكترونية، لكن فاطمة قالت ساخرة:” وهيدوني كام عالقطعة؟! ملاليم، دي اسمها قلة قيمة.. وحتى لو استنيت المكافأة الشهرية هنا، هتتصرف مواصلات”.
قالت هالة :” في صحفي كبير هنا في الجرنال، سمعته بيقول أن الصحافة مش هتديك فلوس في الأول، لكن بعد كده هتديك”.
ضحكت فاطمة بسخريةٍ ثانيةٍ ثم قالت:” والصحفي الكبير ده حالته ايه دلوقتي!، يا بنتي الكتابة مابتأكلش عيش، خصوصاً في جريدة زي اللي إحنا فيها دي، ده الواقع اللي مكناش عارفين عنه حاجه، ولا عاملين حسابه”.
شردت هالة قليلاً، وتذكرت ذلك اليوم وهي تسمع مجموعة من الصحفيين الذين اجتمعوا يتحدثون في غرفة المكتب الذي تعمل به، ويتوسطهم ذلك الصحفي الذي شارف على الخمسين من عمره، كانوا يتناقشون فيما بينهم في أمورٍ شتى تخص الجريدة، وأخر الأخبار في البلد، وتطرقوا لأمورهم المادية، إذ كان واحدٍ منهم يحاول العمل بإحدى القنوات التليفزيونية، لإعداد إحدى برامجها، في محاولة حثيثة منه لتحسين دخله المتواضع. أنصتت هالة لحديثهم، الذي بدا لها مشوقاً، سمعت جملة من ذلك الصحفي، والذي كان أكبرهم سناً وأكثرهم خبرة، علقت بذهنها وظنت أنها حقيقية قال:” الصحافة مبتديش فلوس في الأول ..لكن أودام هتديك كتير”.
وكانت المفارقة أن هذا الصحفي نفسه لم يكن وصل بعد لأي رفاهية مادية، رغم سنه، كان ذلك واضحًا جليًا في مظهره المتواضع، والعدد القليل من القمصان والبناطيل التي كان يرتديها، و يُكررها نفسها في قلة حيلة كل يومين أو ثلاث، وأحذية متواضعة يكسوها أحيانًا طبقة من الغبار، كما وأنه على كبر سنه وكثرة عدد سنين عمله بالجريدة لم يمكن يملك سيارة، بل كان يستقل المترو والميكروباص كصحفي شاب في بداية الطريق.
تذكرت هالة حالته ووجدت في كلمات فاطمة ما قد ينطبق عليه بالفعل، لكنها كانت تعلم أن بعض كلمات الرجل، قد أصابت شيئاً من الحقيقة..
فقد ترقص الظروف للصحفي حين يجد فرصة للعمل بقناة تليفزيونية لامعة من تلك التي تجني الأموال الطائلة من الإعلانات، ثم يتشبث بالفرصة، وينطلق فيها كمعد للبرامج، وقد يحالفه الحظ فيتطور ويترقى بمرور الوقت إلى مذيع فيها، فيحصد الشهرة وربما جنى واغترف من المال .. لكن هذا وإن حدث يحدث مع القليل جداً منهم، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يطول ولا يدوم.
لم تستسلم هالة.. عادت تُذكرها بمجموعة من الشبان المتدربين بالجريدة، أتوا من الأقاليم من محافظاتٍ شتى، وكأنما ترك الفقر بعض العلاماتِ على وجوههم، فكانت أحوالهم و مظهرهم بسيطين للغاية، لكن همتهم وطموحهم كانوا عاليين.. دءوبين في عملهم، يعاندون الظروف، وكأنما أخذوا عهدًا على أنفسهم، ألا يكون الفقر والضآلة هما نصيبهم الأبدي من الحياة، فكانوا يرواضون “صاحبة الجلالة”، ويسبحون في أمواجها العاتية بكل مقاومة، ويتحملون مشاقها بإصرارٍ وعناد وصبرحتى يقتنصوا منها فرصتهم، فيصبح لهم، بها وفيها، المكانة والقيمة والتحقق.. فلطالما كان التعليم والوظيفة هما الأمل الوحيد والوسيلة الأمثل التي تُمكن شابًا شريفًا، طموحًا من تغيير واقعه.
كانت هالة تسرد كل هذا على فاطمة، لكن الأخيرة لم يبدُ على ملامحها أيُّ إقتناع ، وارتسمت على وجهها ابتسامة طفيفة، صفراء، ساخرة، ثم أخذت توضح أن الأمر مختلفٌ بالنسبة لها، فهم ذكور يمكنهم الجمع بين وظيفتين، والعمل حتى ساعات متأخرة من الليل، فيتحصلون على ما يساعدهم على الاستمرار، بينما هي فتاة حالمة تحلق بجناحين ينكمشان بمرور الوقت لأنه لا يوجد ما يكفي من الهواء.
ثم قالت بنبرة يائسة :”عارفة يا هالة، أنا تقريباً ما أخدتش من الكلية بتعاتنا غير البرستيج الاجتماعي..حاجة كده زي الصيت ولا الغنى”.
ثم أخذت تسرد على صديقتها أن قلبها يحمل لومًا وعتابًا لأساتذة الكلية، الذين ظلوا طيلة أربع سنوات يثنون عليهم كطلبة متفوقين، دخلوا الكلية بعد تحصيلهم أعلى الدرجات بالثانوية حتى كادوا ينتفخون من كلماتهم، مثل بالون كبير امتلأ بالهواء عن آخره…تلومهم على كلماتهم بأن المستقبل في انتظارهم، وأنهم سيحملون الرايا بعد كبار الصحفيين والمذيعين الموجودين بالفعل على الساحة…تلومهم على إخفائهم حقيقة وواقع سوق العمل.
فهم لم يخبروهم عمدًا أو سهوًا، أو لقلة مبالاة بأنهم ما إن يتخرجوا فلن يجدوا من يستقبلهم بتلك الحفاوة التي استقبلوهم هم أنفسهم بها، وبأنهم لن يشعروا بأن تخرجهم في كلية إعلام القاهرة سيشكل فارقًا في طريق حصولهم على فرصة عمل بجريدة كبرى، أو محطة تليفزيونية..لم يخبروهم بأنهم سيتواجدون في أماكن عمل سيرون فيها من يعملون بجانبهم، وقد تخرجوا من مختلف الكليات كالزراعة مثلاً أو الحقوق، أو العلوم السياسية، أو التجارة أو التربية.
ليس ثمة مشكلة أن ينضم محبو الكتابة وموهوبوها لمهنة الصحافة، من خريجي أي كلية، ممن جذبهم بريقها، لكن الظلم بعينه هو ما يقع على خريجي كلية الإعلام، الذين ينافسهم القاصي والداني على فرص وأماكن محدودة، فإذا كان الأمر لا يعتمد على شهادة فما معنى وجود كلية الإعلام؟، ما معنى أن يكون الباب مفتوحًا على مصرعيه، دون إدنى تقنين أو موازنة بين عدد الخريجين وظروف واحتياجات سوق العمل، لخريجي كليات الإعلام من الجامعات الخاصة، وأكاديميات الإعلام المنتشرة كحبات الأرز في صحنٍ صغير؟.
تساءلت فاطمة أنه إذا زاحمهم الكل على تلك الفرص الوظيفية المحدودة، وإذا أخذ من يعرف واسطة ما، مكانًا كان يستحقه خريجو تلك الكلية، فأين يذهب هذا الخريج بشهادته بعد ذلك؟!، بعد أن أنفق أربع سنوات من عمره، يدرس ويتعلم ويجتهد، فهل يجد بديلًا مناسبًا له مثلما هم وجدوا؟!..
وتصاعدت فورة الغضب بداخل فاطمة، واسترسلت في الحديث إلى صديقتها عن أنهم كخريجي كلية إعلام ليس لهم نقابة تضمهم، كما هو الحال في أغلب الكليات، التي يحصل خريجوها على كارنيه نقابي بمجرد التخرج، فينضم خريجو كلية التجارة لنقابة التجاريين، وينضم خريجو كلية الحقوق لنقابة المحامين كذلك، ومثلهم الأطباء و المهندسون وغيرهم، إلا خريج كلية الإعلام، فليس له من نقابة تضمه..
ثم عادت إليها ابتسامتها تدريجيًا وهي تحكي عن عملها الجديد، أكدت لـ هالة أن هذه الـ “ألف جنيه”، ستمكنها من فعل الكثير.. ستدفع حصة إشتراكها في أجرة السكن، وستدخل بجزء بسيط منها جمعية.. وتدخر جزء أخر ترفه به عن نفسها من حينٍ إلى حين..ستبدأ رحلة جولاتها المؤجلة لشارع المعز، وحي الجمالية، ستمتع بصرها بمآذن القاهرة وزخارف مساجدها الإسلامية الفريدة.. ستنزل إلى وسط البلد، وتتجول في شوارعها ومحالها، ستشتري هذه المرة فستانًا أعجبها، ولن تكتفي فقط بمشاهدته من خلف الفتارين، ستستمتع كثيراً برحلة داخل مركب وسط النيل، سترى العاصمة كلها من فوق برج القاهرة، والأهم من كل هذا أنها لن تضطر أن تعود للعمل بالقرية.
ظلت تحكي وكلها سعادة، وهالة تسمعها في صمت، وبداخلها كانت تشفق على حُلم صديقتها التي تنازلت عنه مُرغمة تحت وطأة المادة والظروف وقسوة “صاحبة الجلالة”.