شهيرة لاشين*
لم يكنْ ثمَّة حديثٌ بين العجوز والفتاة. لعدةِ أيامٍ لم ينطقا بكلمةٍ واحدةٍ. حلَّ النَّظر والإشارة محلَّ الكلماتِ. يفعلان كلَّ الأمورِ في صمتٍ، كأن هناك اتفاقًا مسبقًا بألا يفتحا فميهما إلا للطَّعامِ والشَّرابِ. تحضرُ العجوزُ طائرين من طيور السِّمان في الحوشِ، أو بعض البيضات من الأعشاش والتي لم يدبْ فيها روح فرخٍ بعد، وتجهز الطَّعام، ثمَّ تنظر للفتاةِ، التي تأتي على الفورِ؛ تتناول طبقها، وتمسك ملعقتها وتأكل. ما إنْ تنتهي؛ تتركهُ على الطَّاولةِ، تغسل يديها وتذهبْ لغرفتها، أو تجلس في حوش البيت تحت ظلِّ الشَّجرة الكبيرة.
الشَّجرةُ الكبيرةُ في نهايَّة حوشِ البيت، الثابتةُ كحكمةٍ قديمةٍ، والمخيفةُ كغابةٍ معتمةٍ تخفي الشَّمس بين أغصانها. عمرها يصل إلى أكثرِ من ثلاثمائة عامٍ وارتفاعها يبلغ عشرين مترًا، ذات جذرٍ سميكٍ وعريضٍ، تتفرع منها شُجيراتٌ صغيرةٌ تنبتُ منها زهورٌ متعددة الألوانِ، رائحتها تشبهُ رائحة القُرنفل، حتى أصبح النَّاس يطلقون عليها اسم “شجرة القرنفل”. شجرة مزهرةٌ طوال العامِ. معلقٌ عليها ضفائر للنساءِ بأشرطةٍ ملونةٍ.. يُقال إنَّ امرأةً غريبةً تُدعى ليالي، لا يُعرَفُ أصلٌ لها هي من زرعتها، في الفترةِ التي سكنتْ فيها البيت. ليبدأ بعدها التقويم القرنفلي.
كانت غريبةَ الأطوارِ أحيانًا ذاتْ ملامحَ حادَّةٍ معظم الوقتِ، لا تستقبلُ أحدًا في بيتها. لا تخالط الجيران، ولا أصدقاء لها، أو أهل يزورنها، إلَّا امرأةً واحدةً كانت تزورها بين الحينِ والآخر، تجيء محملةً بمختلفِ الحبوبِ والأطعمةِ والدَّقيقِ، تمكثُ حوالي السَّاعة وترحل بعدها، لتعود مرةً أخرى بعد شهورٍ.
امرأةٌ هجالةٌ هبطتْ على المكانِ من السَّماءِ، وضعتْ يدها عليه، وبنت بيتها. هكذا قال جيرانها، وكانوا يرونها أحيانًا في الصَّباحِ البَاكرِ، بملابسٍ خفيفةٍ وشَعرٍ بلونِ الليلِ منسدل على ظهرها، تروي الشَّجرة قبل طلوع النَّهار.
عرفوا فيما بعد، أنَّها كانت تروي الشَّجرة بالماء الذي استحمت بهِ، بعد ليلةِ حبٍّ نامتها مع حارس بيتها الذي تزوجته، وقطف كلَّ ثمارِ بستانها عظيم الخير، عن طيبِ خاطرٍ منها. مع الوقت تعودت الشَّجرة على ريِها بماءِ الحبِّ؛ مما أصابها ببعض الانحرافِ عن طبيعتها كشجرةٍ، حتى أنَّها كانت تصدرُ صوتَ حفِيفٍ غضبانٍ؛ لو تأخرتْ المرأة في الاستحمامِ.
تحولتْ مع الرَّي بماءِ المحبةِ؛ إلى كائنٍ عملاقٍ. تشعرُ بأنفاسهِ حين تمر بجواره، أوراقها أصبحت رمحيَّة الشَّكلِ، وتفرز مادةً صمغيَّةً واقيَّةً؛ تحميها من التعفُّنِ والجفافِ، وتُشكل نظام دفاعٍ يمنع تحللها مع التقدمِ في العمرِ. لم تكنْ تعلم المرأةُ أن ماءها هذا؛ يمدُ في عمرِ الشَّجرةِ ويُعملِقها، بالمقابل ينقص من عمرها هي، وينْحل في جسدها.
على الضِّفةِ الأخرى للنَّهرِ، في زمنٍ مضى- قبل التقويم القرنفلي- ولدت تلك المرأة في إحدى العائلات التي تسكنُ أعلى الجَبل، حيث كان ربُ العائلة هو الرَّبُ الأعلى. يأمرُ فيُطاع. كلامهُ دستورٌ لا تعديل فيه. لا فم يُفتح قبل فمهِ في الطعام، أو بعده في الكلامِ. كان لديه ثلاثة أبناء ذكور من ثلاثِ نسوةٍ. وقد أنجبَ الابنُ الأكبر له من زوجته الأولى ولدًا، والابن الأوسط له من الزوجة الثانية بنتًا، وكذلك أنجب الابنُ الأصغر له من الزوجة الثالثة بنتًا.
مرت الأيام ولم يملك الجد سوى ثلاثة أحفاد فقط، بنتان وولد، هم كلُّ ما استطاع أنْ ينتجهُ أبناؤه الثلاثة معًا. وبعد أنْ فشلتْ كلَّ محاولاتِ ربُّ العائلةِ في تكاثرِ أبنائهِ، حتى أنَّه نفسهُ جرب أنْ ينجب من زوجاتهِ أيَّ أبناءٍ آخرين وفشل. وقد رمى فشلهُ على تقدم زوجاته في السن. ولأن سبع الرِّجال ينجبُ حتى التسعين عامًا، فقد تزوجَ بالرَّابعةِ، شابةٌ مليحةٌ؛ تستطيع أنْ تحبل بقبيلةِ أطفالٍ.
إلَّا أنَّ زواجه زادَ الطَّين بلَّةً. لقد كانت الزوجة الجديدة مهرةً جامحةً؛ سخرتْ من عجزهِ، وأرهقتْ شيخوختهِ في السرير، وأخبرت نساءه من وراء ظهره أنَّه لا فائدة من رجلٍ لا يملك حيوانات شرسة تنهش قطعان الماعز التي ترعى في أرضها العفيَّة، هذا العجوز لا يملك حتى دودة تطرح ولو بالخطأ كلبًا؛ ينبح بدلًا منه في الفراش. أبناؤه الذكور فشلوا مثله في إنجابِ أطفالٍ آخرين؛ مما دفعهُ أن يحكم حكمهُ -الذي لا حكم ولا كلام بعده- أنْ يتزوج الولدُ البنتين معًا. في ليلةٍ واحدةٍ، وعرسٍ واحدٍ. أهمُ شيءٍ أنْ يتكاثر نسلهُ، وتعمر ذريتهِ بأيِّ طريقةٍ كانتْ.
“إمام” الولد كان يكبر البِنتين بأعوامٍ قليلةٍ، وبعض الامتيازاتِ أيضًا. كان إذا تشاركوا اللعب أمام جدهم يكون له الحق وحده في اختيار نوعيَّة اللعب الذي يلعبونه، وينطبق ذلك على الطعام وكلِّ شيءٍ. كان يختار، ويبدأ، ويتوقف متى أراد. وعند الأخذ يأخذ نصيبًا مساويًا للبنتين معًا. خارج العائلةِ كانت هناك قوانين أخرى يفرضها الصغار. وغالبًا ما كانت انتقامًا من إمام، واستردادًا لبعضِ الحقوق التي أخذها بمساعدة جدهِ.
لقد تعلمَ منذُ الصِّغر، كيف يمارس سلطتهُ العُليا عليهما في البيت، بغشمٍ ودون وعيٍ، وبتسليطٍ من الجد الأكبر الحريصُ على كسرِ شوكتهما حتى تكونا تحت طوعهِ فيما بعد. لكن ذلك لم يدم طويلًا. استمر حتى أواخر فترة الطفولة، تحديدًا في الأوقات التي كانت تحت نظر العائلة فقط. ووفق القانون والدور المرسوم؛ يُطبق الكبير والصغير ما هو مطلوبٌ منه بالحرف، مع وجود حذاء قديم محشور في فم كل فردٍ منهم!
“ليالي” فتاةً عنيدةً وخاطفةً. تخطفكَ فورًا بمجرد الاقتراب منها؛ سترى كل ما فيها جميلًا، لكنكَ لا تستطيع تحديد من أن يأتي هذا التوحش خلف صوتها، الذي يقبضُ قلبكَ. جمالها وحشيٌّ يفترسكَ دون رحمةٍ، الغريب أنك تصبح في حالةِ ترحيبٍ واستسلامٍ تام لهذا الموت اللذيذ. إن أردتَ النجاة؛ عليكَ فقط أن تكون حذرًا، وألا تلفت انتباهًا، أو تُطيل البقاء بمفردكَ جانبها وتتعدى الوقت الآمن المسموح لكَ به؛ حينئذٍ لن يعجبك حدَّة أنيابها وأظافرها وهي تفتكُ بكَ.
ليالي فتاةٌ متمردةٌ وغير خاضعةً، عكس “حوريَّة” الحفيدة الأخرى، العاديَّة والمطيعة، التي تفعل كل ما يُطلب منها دون تفكيرٍ أو اعتراضٍ. تخاف أن تسلم أُذنها لِليالي التي تغشْ وتحتال حتى تأخذ كلَّ ما تريد غير مباليةٍ بالعقابِ، الذي يقع عليها بعد كلِّ فعلةٍ تقوم بها. كثيرةٌ هي احتيالاتها، وكثيرٌ أيضًا العقاب الواقع عليها.
خارج البيت؛ تفرض ليالي قوانينها بعيدًا عن الجد. بحكم شخصيتها القويَّة يسمع لها الأطفال وينفذون ما تطلبهُ منهم، بمن فيهم إمام. كانت تحدد المكان واللعبة، فيسبقونها إليه ويجهزونه..
****
ثمَّة فتاة في سنِ العاشرة، تستلقي على ظهرها في السَّرير، وبعينين مفتوحتين تحلُم بأنْ تكون زعيمة المطاريد؛ لتقوم بخطف جدها وأولاده، وحبسهم في كهفٍ مهجورٍ بالجبل، يتعفنون فيه من الجوعِ والخوفِ، هي نفسها فتاة الحصاد ذات الثلاث عشرة سُنبلة، التي أنقذت جدها من دهسْ ثور النورج له حين انكفأ على وجهه في المدار الدائري لكومةِ الغلة..
لأسبوعٍ مضى سبق تلك الحادثة، كان الجدُ يجلس على دكتهِ الخشبيَّة أسفل شجرة الجميز على رأس أرضه التي تلونها السَّنابل باللونِ الذهبي، وبجوارهِ زوجة من زوجاته تقوم بعمل الشَّاي على ركيَةٍ من الحطبِ، وتجهيز شرائط من القماش لربطِ حزم الغلة، تساعدها ليالي وحوريَّة.
أما زوجاته الأخريات فكنَّ يطبخنَّ الكسكسي ولحم الماعز بالبيتِ. بينما أبناؤه الثلاثة وزوجاتهم وحفيده إمام كانوا يشاركون الأنفار في عمليَّة الحصاد. يضم إمام وآباؤه الغلة مع الأنفار، وخلفهم الأمهات الثلاث يشاركنَ الفلاحات في ربط حزم الغلة، تمهيدًا لتجميعها بمكان واحد؛ استعدادًا للدرس بالنورج.
قبل أيامٍ من بدء عملية الضَّم؛ أشرفَ الجدُّ بنفسه على عملية شد وتجهيز الدِّكة الخشبيَّة للنورج- الذي يقوم بدرس سنابل القمح- وسن مجموعة السَّكاكين الدائريَّة أسفلهِ، وتغيير الحبل الذي يجر منه الثور النورج على المحصول؛ حتى تتهشِّم عيدانه وتنفرط سنابله، ويكون جاهزًا لعملية التدريَّة فيما بعد بواسطة الرِّيح؛ لفصل التبن عن القمحِ.
حين انحنى الجد ليُقلب في غلتهِ التي يدرسها النورج؛ شيءٌ ما جذبهُ من روحهِ وسقط على وجههِ فاقدًا الوعي. كان الثور في بدايةِ دورتهِ، وهو في نهايتها. ابنه الجالس على دكةِ النورج لم ينتبه لسقوطهِ. صادف ذلك، مجيء ليالي حاملةً الطعام في قُفتها، التي رمتها على طول يديها حين رأتْ جدها ممددًا على الغلةِ، ورفعتْ يديها إلى الأعلى تنادي على عمها حتى ينتبه. جسدها في منتصف الطَّريق بين الثور وجدها؛ فما كان من الثور -حين اقترب منها وشعر بالذُعرِ- إلَّا أن نطحها ورماها بعيدًا لتنكسر ذراعها اليُسرى.
يعلم الجد في قرارةِ نفسهِ أنَّ ليالي لا تبغضهُ، بل تكره فعله فقط، وميل كفته دائمًا تجاه إمام. وكل تصرفاتها وأفعالها المتطرفة، ما هي إلَّا ردةِ فعلٍ لقراره الذي حكم عليها بأن تتزوجه. وإلَّا لمَ انكسرت ذراعها في سبيل إنقاذه.
زعيمة المطاريد الصغيرة، وفتاة الحصاد التي يُعاد قص حكاية إنقاذها للجدِ مع كلِّ موسمٍ، هي نفسها الفتاة التي كُسرتْ شوكتها وحُصد جسدها الفائر الممتلئ بقوةِ خمسة عشر خريفًا من التَّمرد، في ليلةٍ واحدةٍ.
احذر فقط، هذا الشَّعر الأسود المُجعد، والمتشابكِ قليلًا كأنَّه غابةٌ مظلمةٌ، توشك أنْ تبتلعك؛ إذا تسلقت دون صبرٍ أشجارها العاليَّة، وهي مستلقيَّة الآن على سريرها بكاملِ عتمتها. الأنفُ الدقيق ذو الأرنبةِ المرتفعة الذي يبدو عنيدًا وصلدًا؛ لا تخافه. وهاتان الشَّفتان النَّحيلتان بحوافٍ بارزةٍ بلونٍ أغمق قليلًا عن اللون الأحمر للشفتين المزمومتين، ستشعركَ كأنَّها صمتت قهرًا عن كلامٍ لم تجد أيَّ فائدةٍ من قولهُ؛ فلا تحثها على التحدثِ إليكَ.
هذا النَّحت الواضح للفكِ؛ والذي جعل الذَّقن البَارزة والمُدببة، تَظهر الغمازة في وسطها ساحرة، كأنَّها حفرةٌ.. تمهل قليلًا، واعلم أنكَ إذا طاوعت هواكَ، وارتميتَ بجسدكَ داخلها؛ ستسلمكَ مباشرةً إلى جنياتِ النَّهر أسفل قلاعها. ملامحها الشَّرسة؛ تغويكَ، أعلم. لكن من كرمها ستحذركَ بلطفٍ: لا تجعل النَّمش الخفيف على كتفي-الذي بمكرٍ اتخذ مسارًا خفيًّا بين الثَّديين- يغويكَ. احذر، سيجرفكَ تهوركَ وجنونُكَ، ويقودكَ إلى أعمق سجنِ في جنتي.
احذر كلَّ الحذرِ من أنْ تقترب من الوحمةِ السَّوداء التي تشبه ثمرة تين على رقبتها، إحدى العجائز العارفات حين رأتها ذاتْ مرةٍ، قالت هذه الصَّبية ماتت في حياةٍ سابقة من طعنةِ خنجرٍ في رقبتها؛ حينها ضحك الجميع عليها، ورد الجد بأنَّ حفيدته لا تُطعن إنَّها من تَطعنْ وترفس وتعض في كلِّ الحيواتِ والمماتاتِ، هذه الوحمةُ السَّوداء ماهي إلَّا معبرٌ للشياطين يدخلون لجسدها منها. وعن قصدٍ ومكرٍ منها تتركهم يرتعون وينامون فيها، وحين يخرجون؛ يأتمرون بأمرها.
الفتاةُ التي حلُمتْ بأنْ تصبح مجرمةً يومًا ما؛ هي ذاتها التي ترقد فاتحةً عينيها الواسعتين بذعرٍ دونَ أنْ يطرفَ لها رمش. هامدةً وصامتةً في عنفوانِ قوتها كأنَّها للتوِ خارجةٌ من معركةٍ خاسرةٍ، تكسَّرتْ فيها كلَّ أضلعها، وقُصْقصَت فيها كلُّ أجنحتُها. الصمتُ المخيف الذي يعلو كلَّ قطعةٍ من جسدها؛ ينذرُ بكارثةٍ قادمةٍ..
يلتفُ حول السَّرير الأمهاتُ الحزينات، والجدَّات المستغفرات، وابنة العمِ التي أصبحت ضُرتها وعلى يديها وقدميها نقش الحناء، ويبدو من ملامحها أنَّها نامتْ بشكلٍ جيدٍ ليلة أمسٍ. بجانبهم يقف إمام العريس بجلبابٍ أبيض، ووجهٍ يبدو عليه الإرهاق الشديد والتعب. كما يقف الجد غاضبًا وخلفه أولاده الثلاثة..
يتجه نظرهم جميعًا باتجاه ليالي، بجسدها الصَّامت؛ كقبرٍ سُرق منه كلَّ جثثهِ.
قال تمرجي الصحة، إنَّها تعرضت لصدمةٍ قويَّة؛ أفقدتها النطق والحركة. شللُ الحركةِ مؤقتٌ؛ سيزول مع الأدويَّة ومرور الأيام. بخلاف الخَرسِ قد يستمر معها وقتًا أطول، ربَّما قد يعود لها صوتها مرةً أخرى أو تفقدهُ للأبد..
كانت أشبه بحيوانٍ ضخمٍ جريحٍ. كانت أضخم من السرير والغرفة والبيت. حيوانٌ تحايلوا عليه، ولم يرحموه حين وقع في الفخ.
قيدوه وشلوا حركته؛ فتمكنوا منه.
جلست أم ليالي على حافة سرير ابنتها، وأخذت تقبل يدها وهي تنتحب، لقد رأتها الأم في عتمتها هذه، وصمتها، مثل الفيلُ الضَّخم الذي أحبته في حكايات الجدات، والذي سكن الأقزام معه في الغابةِ التي لا تصلها الشمس. ولما كانوا أضعف وأقصر طولًا من أن يطولوه، أو يتمكنوا من اصطياده حتى لو اجتمعوا كلهم معًا، وبكلِّ حيلةٍ ممكنة؛ فقد نصبوا له الفخاخ.
عرفوا ضعفَ بصره وعشقه للطين، فغطى أحدهم جسدهُ بالوحلِ، وتسلل إلى البركةِ الواقف فيها؛ وطعنهُ بحربتهِ في إحدى رئتيهِ، طعنةً واحدةً قويَّة، ثم أدارها بِغِلٍ في الجُرحِ. تمكن منه، وهرب. رفع الفيل الجريح خرطومه عاليًا، وأخذ يصيح بأعلى قوته: أنا الغابةُ. هذه الأرضُ ملكي، والضوء كله يبيت في قلبي. لقد حبستهُ بالدَّاخل بعيدًا عن أعدائي. بإمكاني قتلكم جميعًا بالنُّور إن أردتْ. لم تُجدِ نفعًا تهديداته، وسبهُ للأقزام والغابة التي يُعَبِّدُونَها. سار بعد طعنهِ عدَّة خطواتٍ في قلبِ الظلامِ، ومات.
تذكرت أمُّها أن ليالي دائمًا ما اعترضت على هذه النهايَّة -التي أصرتْ على صحتها كلُّ الجدَّات والأمهات بمن فيهنَّ أمها-، كانت تريدُ للفيلِ أن يعيش طويلًا على أرضهِ، ويظل ملك الغابة. يعاقب الوحل على خيانتهِ؛ بتجفيفِ البِرك. ينفخُ بخرطومهِ النور السَّاكن عتمتهِ؛ فيُنير الغابة السَّوداء كلها. ولأنَّ الأقزام تخاف الضَّوء؛ ستهرب.
كانت تضحك منها الجدات؛ لأنها تُحرِّف في الحكاية، المُحتم فيها موت الفيل. ربَّما كانت ترى موتها في موته؛ فكانت تدافع بإصرارٍ عن إعطائهِ حيوات أخرى خياليَّة، تمتد في عمرها هي. وقعتْ ليالي في الفخِ الذي وقع فيه الفيل. ضربة الحربة المسننة والحادَّة التي أصابتهما في مقتلٍ؛ لن تتركَ لهما فرصةً للنجاةِ مهما حاولا.
حين رأى الجد جسدها المَشْموط من ضربِ الكرباج، والبقع السَّوداء والزرقاء المنتشرة فيه من قرصِ يد إمام وعض أسنانهِ، وحزّ القيود على يديها ورجليها؛ أسرع وفتش في رقبتها عن الوحمة ليجد أنَّها قد اختفت، أدرك حينها كيف أنَّ حكمهُ كان جائرًا، وانهال على إمام ضربًا بيده ورفسًا برجلهِ قائلًا: ياضَبع يا نجس هذا لا يفعله حتى أغْشم البهائم!
أصدر قراره بألَّا يقترب منها مرةً أخرى، فهي طالقٌ وحرةٌ منه. يكفيه ابنة عمه الثانية، إلا أنَّه لم يكنْ يعلم أنَّ مخلوقًا ضعيفًا -جراء فعلتهم- ينمو داخلها، سيكون من الصعب عليها التخلص منه فيما بعد، أو إسكاته لو أرادتْ أنْ تمحو تلك الليلة من ذاكرتها..
مرت الأيام، وتحولت الجثة الهامدة إلى كائنٍ أخرس غاضب..
ما الذي حدثَ لها تلك الليلةِ لتعُضَّ على إِصبعها بهذا الشَّكل، وتحُكَّ بغلٍ قبضة يدها في سورِ البيت الناتئ طوبهُ وأسمنته، حتى ينْجلط عنها الجلد، فتُكمل باليدِ الأخرى! تركل بقدمها كل ما يقابلها في الطريق بغِلٍ. وتدوس بحذائها الخفيف على كلِّ الزّجاج المكسورِ الذي يقابلها، والبُروز الحاد للمخلفاتِ، وعظام الحيوانات!
امرأةٌ تجلس على الأرضِ، يبدو من هيئتها أنَّه ليس عندها ما تخسره. ساندةً ظهرها إلى إحدى شجرات البرتقال في الجُنَينة. فاردة رجليها المبتعدتين عن بعضهما، وقدماها حافيتان يظهر بهما آثار دمٍ وكدماتٍ وتشققاتٍ؛ أحدثتها تلك الأشياء الحادَّة التي داستْ عليها في الطريقِ. بين الحينِ والآخر تخبط رأسها في جِذْع الشجرة بشكلٍ متكررٍ. ثم تسقط من التعبِ راخيةً ذراعيها بجوارها، وكفُّا يديها مفتوحتان للسماء، تلمسان بجروحهما تراب الأرض.
تخرج صباح كلَّ يومٍ من غرفتها، دون أن تتكلم مع أحدٍ. تجلس طوال النِّهار تحت شجرِ البُرتقالِ في جُنَينة جدِّها. البرتقالُ الذي كانت تسرقه فيما مضى؛ حتى تدفعه رشوة لمعاقبة إمام؛ لم يعد يصلح الآن كمقابل لإنزال العقاب به. تلحق بها أمها بعد صلاة الضحى، بعد أن تكون قد أخرجت كلَّ ما في داخلها من غضبٍ بإيذاء نفسها- كما قال الجد: لا تخشوا شيئًا؛ دعوها تنجرح بقسوةٍ حتى يخرج صوتها، وتظهر شياطينها من جديدٍ.
ما أبشع القسوة حين تأتي من الأهل، أين يذهب المرء حين يكونوا هم الخِصم؟
تجلسْ أمها بجوارها الآن؛ تُضمد جُراحها وهي تقول: “سلامتك يامَّا”، وتسقيها الماء، وتُرغمها على تناولِ الطعام.
من أين لها بهذا القلب الجامد؟ قلب الأم هذا يا عزيزي نشف من الخوفِ، وذبُل من كثرةِ الطَّاعة. تحاولُ تطبِيبها قدرَ استطاعتها ومَلء قلبها، لكنَّها لا تستطيع أبدًا الوصول لذاك الجُرح الغَائر في رُوحها. الأم شريكتهم، لكنَّها تبقى بالنَّهاية أمًّا، وسيفها حدُّه ثَلِمٌ لا يَجرح.
في تلك الليلة لم تقف بجانبها كأمٍ، بل وقفت معهم كزوجةِ ابنٍ؛ تنفذ ما يقوله حماها، كلَّ شيءٍ فعلته معها بالغصبِ، وبالاستعانة ببعض النِّسوة المتمكنات والقويات في تجهيز العرُوس؛ خوفًا من أن تتفوق عليها سِلفتها، وتجهز ابنتها أفضل منها، وتفوز بقلب إمام. لقد دفعتها الغيرة والخوف من الخسارة أمام الأخرى؛ لفعل ذلك كله بابنتها.
لو كنا يومها نقف خلف الباب، أو نختبئ خلف الستائر، ونضع شريطا لاصقا على أفواهنا، حتى لا نصدر أي صوت فينتبهوا لنا، وقتئذ كان من الممكن أن يقتلونا أو ينكحونا بدلا منها.
الضَّوءُ الأزرق الخافت، مع رائحة البُخور والعطور التي تملأ الغرفة المحكمة الإغلاق حتى نوافذها -مغلق ترباسها من أعلى ومن أسفل مع شنكلٍ في المنتصف-؛ يجعل الهواء ينحصر.
الرَّائحةُ ثقيلةٌ، والجوُ مقبضٌ.. رائحةِ الطَّعام المُحمَّر والمشَّمر بتوابله النَّفاذة الموضوع على ترابيزة صغيرة بين كنبتين والتي اختلطت رائحتهُ مع رائحةِ البُخور الحادَّة تخنق الأنفاس وتثيرا شعورًا بالإغماء..
تظهر ليالي بفستانٍ أبيضَ، عروسٌ فاتنةٌ خارجة من عالمِ الحكايات. على ملامحها لمحةَ حزنٍ مهيبةٍ، حزنٌ أوهى من أن يصمد أمام جسارة هذا الجسد. جسدٌ مشعٌ بين أجسادٍ منطفئة تلتف حولها.
ترفضُ بشدةٍ أن تدوس على البيضِ الذي وضعوه أمام عتبة بابها، كي يفسد أيِّ سحرٍ يُحتمل أن يكون قد وضعه أحدهم لربطهما حتى لا يتمكن من الدخول بها. وبعد قرصٍ من الجدات لها والأمهات؛ داستْ عليه بكلِّ ما فيها من غيظٍ وغضبٍ شديد.
دخلتْ وحدها، وأغلقوا الباب عليها. حتى يوصِّل زوجته الثانية لبابِ غرفتها أيضًا، ولأنَّه معروفٌ أنَّها غير معترضة؛ سيدخل بها أولًا قبل ليالي، حتى يفرغ من علقتها ويتفرغ بكل ما فيه من قوةٍ وتوقٍ لعلقةِ ليالي، التي يعلم الجميع أنَّها لن تكون سهلة أبدًا.
تجلس ليالي على إحدى الكنبتين وترمي الطرحة من فوقها رأسها؛ لتسقط أسفل قدميها على أرضيَّة الغرفة، هاتان الضفيرتان المُسرَّحتان والمجدولتان بعنايةٍ كأنَّما سيقام بهما السَّلام بين مدينتين متحاربتين.
هذا الكحلُ السَّائبُ الذي رسم عينيها مع لمحة الغضب على وجهها جعلها فاتنة كلعنةٍ يود أي رجلٍ لو يحظى بلمسةٍ واحدةٍ منها. مجرد لمسها نعمةٌ كبيرةٌ، حتى لو لُمس كعبها الأحمر المزين بالحِناء ودم الغزال فقط، أو يُقبَّل هذه الفرق الأبيض الذي قسم شعرها الأسود نصفين.
دخل إمام..
……………………………………………
*د. شهيرة لاشين: شاعرة وروائية مصرية.
* رواية أسفار القرنفل- الفائزة بالمركز الثاني لجائزة الشارقة للإبداع العربي- إصدار دائرة الثقافة والإعلام- الشارقة- الإمارات العربية المتحدة (2024).