فردانية العنوان والضمائر واللغة في قصيدة «تناغم بدائيّ بوحشيته»

إدريس سالم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إدريس سالم

كثيراً من الأخيلة والصور، التي قرأتها في قصيدة، كانت في حدّ ذاتها صوراً حسّية، أو قل إنها في الأغلب الأعم تميل إلى الحسّية، وإن كانت تحاول أن تضفي عليها ظلال البناء الفنّي، الذي يستمدّ وجوده من عناصر الصور الشعرية نفسها، لا من عناصر الواقع الملموس، فالنقّاد وصفوا الخيال الشعري بأنه قوّة سحرية وتركيبية، تعمل مع الإرادة الواعية، لأنه مصحوب دائماً بالوعي، وفي داخله يتمّ التوحّد بين الفنّان وبين المعطيات الخارجية، وعن طريق تجمّع هذه المستوعبات والمشاعر يعمل الخيال على خلق بناء خيالي متكامل، ومن هذا المنطلق نجد شاعرة تثور على الصور البلاغية التقليدية والعبارات العاطفية، فتحاول استبدالها بالصور الشعرية المهموسة، لتفرغ روحها، وتحوّلها إلى ريشة كناري أو حمام برّي، فأضيف هنا – في هذه المقدمة القصيرة – كامل القصيدة، التي أنا بصدد الغوص في بعض دلالاتها اللغوية والشعرية:

تردّداتٌ

ذبذباتٌ

وتيرةٌ مشوّشةٌ من حشرجاتٍ ملتهبة.

هبوطٌ

صعودٌ

دوران شبِقٌ

ملهوفٌ

متردّدٌ حولَ نبعٍ يتوسّلُ الارتواءَ منه

لتحدثَ نقطةَ الالتقاء،

فيتفجّرُ ذاك النبعُ ينابيعَ من رغبة مكبّلةٍ زهاءَ عقدٍ من العطش

إنه زمزمٌ يصعبُ الامتلاءَ به

كوثرٌ كلّما هممْتَ إلى الشبع منها،

وجدْتَك مبلّلاً

جائعاً

بل غَرِقاً أكثرَ في حلاوتها.

دفقٌ هائجٌ من رُضاب

يتحوّلُ جداولَ من عسل مصفّى

لتعيدَ ترتيباتِ اعتقادِك بأن الحلو من أيّ شيءٍ لا يستهويك.

نعم…

لا يستهويك، إلا ذاك المذاقَ الإبليسيّ في سحره.

إنه نهمٌ لعبقٍ يفوحُ شهوةً هستيرية

لرائحة توقظُ كلَّ مكمنٍ من شوق عارمٍ للذروة؛

الذروةُ في العصيان والخطيئة

تسحبُها ملءَ رئتيك اللتين تتضخّمان

تتعظّمان

تتبجّلان

وتسكران بها

لتنفجرَ على حدود من السعادة

كلا…

إنها ليسَتْ بالسعادة

إنه سقوطٌ لولبيٌّ حرٌّ في الفردوس.

نقرأ يومياً الشعر، لكننا لا نشعر به، ولا يلمسنا، ولا حتى موسيقاه تسري في خيالنا وروحنا، كثُر الشعراء، وقلّ مَن يشعرون بآلام الإنسان ومعاناته. نقرأ يومياً الشعر، لكننا لا نجد الجودة والجدّة والرؤية المميّزة فيها، لكن هذا لا يعني أننا قد لا نتناغم مع الشعر والشاعر الحقيقي، الذي يكتب للغة، للفكر، للموسيقى والرمز والخيال الخصب، ولعل هذا ما ينطبق على قصيدة «تناغمٌ بدائيّ بوحشيته»، للشاعرة سلمى جمو – مؤلّفة المجموعة الشعرية «لأنك استثناء»، الصادرة عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع عام 2021م – مما دفعتنا لأن نتساءل حول بعض جوانب التميّز، التي توكّأت عليها في قصيدتها.

نرى أن عنوان القصيدة وقع في ثلاث كلمات: «تناغمٌ بدائيّ بوحشيته»، المحور بينها هي كلمة «تناغم»، بما تحملها من معانٍ على المستوى الذاتي/ الفردي والنفسي والاجتماعي، فمن جانب ندرك أن التناغم يبعث في النفس معنى خاصّاً، قد يكون سلبياً أو إيجابياً، لكنه يحمل على كاهل الشاعرة معنى سلبياً؛ لأبعاد ذاتية عاطفية وحاجة ملحّة لوجود سند حقيقي في حياتها، وهذه الأبعاد قادتها إلى عزلة مستلذّة بالألم والحنين والشوق، وحتى إلى احتضان الروح، وبالتالي جعلتها وحيدة في مواجهة مصيرها/ سرّها. كما أن هذا التناغم يشمل الشعور بالحاجة القصوى للروح – على المستوى النفسي – التي لا قدرة لها على انغماس يديها ولهفتها في الروح الآخر، الممنوع/ المفقود/ أو ربّما الضائع عنها.

في حين على الجانب المفرح/ الإيجابي، فإن الوحشة/ الوحشية تصبح وجهة إرادية؛ نظراً لخيار يفرضه الواقع العام والخاصّ، رفضاً للمسارات الظالمة والديكتاتورية، التي يتخذها منظومة القيم المجتمعية وقوانينها الصارمة – اللا منطقية واللا إنسانية – لذلك فإنها قد تعني راحة نفسية للذات؛ لأنها تحيي قيمها ومفاهيمها وفلسفتها الخاصّة، وحتى كينونتها كأنثى مبدعة.

أما أن يكون لهذا التناغم أو الموسيقى صوراً، فهذا يعني أنها تشمل مظاهر متنوّعة تحكم ذات الفرد الموحود أو المستوحد، وهذا ما يعني أن هذه الصور تشكّل حضوراً محورياً في حياة الشاعرة الكردية، وفي حياة مَن تمثّل اجتماعياً وثقافياً ونفسياً، فإلى أيّ مدى تقدّم لنا لغة وشاعرية هذه القصيدة نماذج عن هذه الصور العميقة والمتخيّلة من واقعها؟!

يستطيع القارئ الحقيقي والمتمكّن ملاحظة الحضور البارز للضمائر على نحو إيحائي، إذ يمكن أن نجد من خلالها وجهاً من وجوه التطلّع الخاصّ؛ إذ نرى بوضوح سيطرة ضمير الغائب (المستتر) على تفاصيل القصيدة، ما يعني فصل ذاتها عن المحيط الذي تعيش فيه، وتجسيداً لموسيقاها المتفرّدة بها، ومن ذلك ما نقرأه بقولها:

«إنه نهمٌ لعبقٍ يفوحُ شهوةً هستيرية

لرائحة توقظُ كلَّ مكمنٍ من شوق عارمٍ للذروة؛

الذروةُ في العصيان والخطيئة

تسحبُها ملءَ رئتيك اللتين تتضخّمان

تتعظّمان

تتبجّلان

وتسكران بها

لتنفجرَ على حدود من السعادة».

نقع هنا على حضور غائب وأحادي ومكثّف للضمير المستتر الغائب، لكنه متّصل بذات الشاعرة ومتوحّد بها روحاً ولغة ونغماً، من خلال الذات المقصود بها، والمتفاعلة معها المجازة في الإرشاد النفسي من الجامعات التركية بكلّ كيانها، باطنياً وملموساً؛ لأنها لم تقتصر على هذا الضمير وحده، وإنما بطبيعة المشاعر، ما قد يدلّ على افتراق جوهري عن العالم المحيط، لا سيما أن هذا الضمير (الغائب) يرتبط بالمفرد المذكّر، والذي قد يكون حبيباً، أو صديقاً، أو حلماً يُرى من خلال رجل/ سند حقيقي، وكان لا بدّ أن نطرح احتمالات مقصودة؛ لضرورات نراعي بها لتلك القوانين المجحفة.

انسجاماً مع العامل الصرفي والبلاغي، يكشف لنا المستوى المعجمي، ليوضّح حال الذات الوحيدة في عزلتها حضوراً وعاطفة وفلسفة، إذ أن القصيدة بحيويتها اللفظية، تتنازعها حقول معجمية، تشكّل مظاهر العزلة أو صورها الرافضة لإفشاء الأسرار أو الخصوصيات، وأولها يتعلّق بكيان الذات سواء بوجوديتها أو عدميتها، ويتضمّن: «تردّدات – ذبذبات – حشرجات – دوران – كوثر – دفق – المذاق – عبق – شوق – سقوط…».

نلاحظ أن هذا الحقل يرتبط بذات الشاعرة، حصراً في محاولة لإظهار حالة التأثير والعزلة التي تعيشها إرادياً وقسرياً معاً، وفي الوجهين تكون خاضعة لحياتها ومفاهيمها المتميّزة بها عن غيرها. لكن هنالك حقل آخر يظهر في القصيدة بشكل متكامل ومتصارع مع الأول، وأعني ما يتعلّق بالواقع/ العالم المحيط الذي يدفع إلى هذه العزلة ومناسكها، بفعل قيمه وقوانينه المغايرة، لذلك جاءت الألفاظ في أجواء أكثر ألقاً وأكثر ألماً، ومنها: «وتيرة – مشوّشة – هبوط – صعود – ملهوف – متردّد – يتوسّل – رغبة – العطش – الشبع – مبلّل – جائع – شهوة – الذروة – العصيان – الخطيئة – تنفجر…».

الإطار المؤلم أو السلبي الذي نراه في هذه الألفاظ، يجعل من الواقع/ العالم المحيط واقعاً/ عالماً غير قابل للاندماج فيه والتعايش معه، لا سيما من قبل ذات الشاعرة التي امتلكت هذه المشاعر، لذلك فإن الحياة بالنسبة لها أفضل ضمن قيمها الخاصّة، على أن هناك حقل معجمي آخر يتناقض مع هذا الأخير، إلا أنه يبدو مكمّلاً للأول؛ لكونه يوصل إلى نوع من الراحة النفسية والأَناة، بوصفه حقل السعادة والعطاء والإخلاص للروح الساكنة فيها أو المتفكّرة بها (تلك المتكلّمة والمخاطبة والغائبة معاً)، وهو ما نستشفّه من ألفاظ: «الارتواء – الالتقاء – ينابيع – زمزم – كوثر – حلاوتها – عسل – سحره – يفوح – تتعظّمان – تسكران – السعادة – الفردوس».

كنت أتأمّل قصيدة خرجت من روح حقيقية، عاشت معاناة حقيقبة نقية، فكان المعجم مكوّناً أصيلاً من مكوّنات عزلتها الحقيقية والصادقة، المتجسّدة لصورها المتنوّعة والحقيقية، التي عاشتها بكلّ جوارها وعمقها الحقيقي. وبعض صور القصيدة وتشبيهاتها تدلّ وتؤكّد أنها لا زالت تعيشها بصمت، وبالتالي كانت فيها «عزلتها» انسجام مع مستويات العنوان والضمائر والمعجم، استطاعت الشاعرة بها أن توصّلنا من خلال الإيحائية واللغة البسيطة المرهفة، إلى نوازع الذات المستوحدة فيها، والتي لم تتّخذ مساراً واحداً للعزلة، على عادة الاتّجاهات الأدبية المعروفة قِدماً، لكنها عزلة وجودية اختيارية وقسرية في آن؛ إذ أن المجتمع – بقوانينه ومفاهيمه اللا متكاملة – الذي يرفض الحالات الاعتراضية ويحاربها على أساس طبقي، أو جنسي، أو عاطفي، أو فكري، أو ذاتي…، يصبح بحدّ ذاته هو المرفوض؛ لأنه يخالف منطق القيم العليا ومطامح الذات الإنسانية (الخاصة) المبدعة.

في النهاية، تبقى حقيقة واحدة، إذ يؤكّد لنا السطران الأخيران، مدى التزام الشاعرة بواقعها وصدقها مع معاناتها، دون أن نغفل حاجتها إلى ثورة على نفسها؛ لضرورة استمرارها وتقبّلها لهكذا حياة خاصّة وطبيعية وحقيقية، تجتاحها، تلتهمها، نتيجة لما تشعر به وتعانيه من قلق نفسي، وغربة، وضياع، واكتئاب يفجّر في دواخلها تمرّداً وغضباً، وإحباطات، وصراعات، ورفضها التامّ لكلّ التناقضات والآفات المرضية واللا أخلاقية، كاللهاث وراء المظاهر البرّاقة الخادعة، والتقليدية المفرطة، والزيف في التعامل، وعدم المصداقية من جانب آخر ، ونرى هذا الالتزام في قولها:

«إنها ليسَتْ بالسعادة

إنه سقوطٌ لولبيٌّ حرٌّ في الفردوس».

مقالات من نفس القسم