فراشة البهو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

فُتِحَت بوابة القصر لاستقبال الّسلطان المنتصر الذي زفَّته الّسماء بتعميم حالة من الصفاء؛ لكي تتلألأ أشعة الشمس ويشتعل ضؤها عند انعكاسها على حُلَل الجيش الظافر المعدنية. وأمَّا الأرض، ظهرت كانعكاسٍ مغايرٍ لصورة الّسماء الصافية، حيث استحالت لسماء ملبدة بغمائم رمادية من غبار تُثيره أقدام الخيول التي تشقُّ الأرض كرياح عاتية. ظهر السلطان محمولًا على صهوة غمامة ترابيةٍ عظيمةٍ تحصنه في عزمه على اجتياح الأهوال. ولتماهى جَلَدُه مع بأس حصانه الأدهم، كالفهد الكاسر أخذ السلطان يشق عنان الأرض مطلقاً صرخات مقدامة يطغى صوتها على بوق *المُنفِر وطبول *الدٍبندار. ببلوغه وجهته، ترجل السلطان كسهمٍ نافذٍ: ووقف شامخًا وسط *خاصكيته الذين ضربوا طبقات الأرض كالبرق عند ترجلهم صهوة الجياد، ووقفوا كأوتاد مكِينة تطوِّق السلطان المنتصر، وهي تسير بشمم رافعة رايات البلاد الخضراء التي يتوسطها شريطٌ أصفرُ. استقبلته أمه التي لم يستطع الدهر أن يمحو طلتها البهية وقسماتها الخلابة التي ورَّثَتها لابنها صانعة منه أيقونة لجمال الخِلقة وتمام الجَلَد. في أحضان أمه ارتمى؛ ليشعر بدفء حبها الوارف الذي حُرِم منه على مدار أسابيع، وعصفت بكيانه السعادة عندما تعانقت دقات قلبيهما فنبضت وكأن مستقرها صدر واحد.

تشتت الخاصكية بعد تركه لينعم بدفء أهل الدار الذين التفوا لاستقباله فور ملامسة قدمه بلاط القصر . . اصطف الخدم والحشم على جانبي مجاز السلطان، ووقفت زوجاته الأربع الجميلات يستقبلنه بضحكات أضاءت وجوههن، وبأيادٍ ممتدة ظامئة لعناقه، فتشابكت، وباتت مثل كرمة أينعت توًّا متوسِّطة بهو القصر؛ لتظلل على السلطان المزركش رداءه بدماء الأعداء.

الفرحة بلقاء الأحبة لم تكتمل إلا بإلتقاء عينيه بعيني جارِيَتِه وخليلتِهِ الجركسية “زمردة” التي أثلج دفء نظراتها جروحه الملتهبة، وجعله يستقر في فراشه الذي كان يئن من لوعة فراقها طوال الأيام السابقة. تمنى استعادة قواه؛ ليحظى مجدداً بنعيم قربها.  

بعد أن استفاق من سباته العميق، أسرع في طلب “زمردة”؛ لتقومَ على خدمته. كانت زوجاته يستشطن غضباً من استحواذ تلك الجركسية على كيانه. فهي الوبال الذي أهداه له الوزير مؤخرًا بعد إعجابه بجمالها فور لقائها في قصر *شاد الدواويين الذي أخبره أنها هدية من *أَلفِي فارسِي إلتقى به في رحلة صيد.

بعد لحظات مرت دهورًا على السلطان، دلفت “زمردة” غرفته تتهادى في ثوب فضفاض شفاف تتطاير أطرافه مع كل نسمة هواء تداعب شعرها الكثيف المنسدل حتى أسفل ظهرها، إلى أن استقرت في منتصف الحجرة أمام مصباحٍ شديدِ الضوءِ. رفعت يديها وهي تنحني إجلالاً لسلطانها كفراشة رقيقة، فخشى أن يجتذبها الضوء، فهب مسرعاً يؤزه الشوق.

قضى معها ليلَه الذي بات قصيرًا برفقتها العذبة. وبعد أن دقت *كوسات الفجر، أخرجت “زمردة” من صدرها قلادة ذهبية ثمينة بها دلاية تتوسطها زمردة تحيطها طلاسم. وفي خشوع المحبين أخبرت سلطان قلبها أنها قد أعدت له خصيصًا هذه القلادة؛ لتحميه من الأخطار، لما استبدت بها المخاوف بعد غيابه الطويل. انصاع السلطان لكلماتها، وفي حنان نظر في عينيها قائلًا:

– “زمردة”ّ! ألبسيني الزمردة؛ لتكون في غيابك رفيق الدروب والمعارك وأنيس الوحدة والهجران.

ظل يتعبد في رحابها يتعبد في قبلتها أياماً، إلى أن استعاد كامل قواه، وذهب في رحلة صيد مع خاصكيته. طوال الطريق كان يتحسس زمردته التي زيَّنت صدره، وأثارت غيرة ودهشة أمه وزوجاته؛ لتعلُّقُه الشديد بها، وتصميمه ألا يخلعها من صدره.

ترصَّد غزالًا رائعًا ذكره بزمرَّدته، وعزم على اقتناصه. كانت تسانده حاشيته في نَيل غايته بقتل أي حيوان تستشعر اقترابه منها قبل السلطان. وفجأة بزغ من المجهول ثعلب ماكر فاقت سرعته الخيول المتسارعة وراء الغزال. وبوقوع الصيد المحتمل في مرمى السلطان، بدأ يشحذ سهمه صوبها. حقد الثعلب المتربص بها على ذاك الآدمِيّ الذي فاقه مكرًا. لكن هيهات، بمجرد أن خفف السلطان من سرعة حصانه، عمد الثعلب في جريه على تمرير ذيله الطويل المهدب على ساق الحصان، فجفل، ثم اختل توازنه، وانقلب بالسلطان الذي كان يطلق سهمه في الهواء، وبدلًا من استقرار السهم في جسد الغزال، طاح واقتنص المملوك الذي أطلق سهماً لقتل الثعلب. بيد أن السهم طاح في الهواء، واستقر في قلب السلطان بدلًا من جسد الثعلب.

بموت السلطان، خيم الحزن على القصر، وحفرت الدموع أخاديد لها في محيَّا النساء. وعند دفن جثمان السلطان، أشارت زوجاته على أمه أن تدفن معه قلادته المحببة، لكن “زمردة” أوعزت للسلطانة بوجوب احتفاظها بقطعة الحُلِىّ التي عشقها ولدها؛ لتملأ صدرها بأحضانه الدافئة. وافق رأيها مزاج السلطانة الأم.

منذ تلك الواقعة صارت “زمردة” مقربة منها لدرجة أنها التمست لولدها العذر للوقوع في غرام تلك الرقيقة الساحرة. صارت قلادة الزمردة رفيق درب الأم المكلومة وأنيس وحدتها، وساعدها في تجاوز أزمتها “زمردة”. وبعد استعادة السلطانة الأم قواها، استعدت لتحمل أعباء منصبها الجديد كسلطانة البلاد لحين استدعاء الوريث الشرعي للحكم؛ لأن السلطان الراحل لم ينجب ذكوراً.

ليلة توليها الحكم، قصدت حمَّامِها المَلَكي؛ لتزيل غبار الأحزان. وفي طريقها للخارج، هرعت الجواري أمامها؛ لتعد فراشها الوثير، وتكسوه بالورود النضرة. دون أن تدري، تعثرت قدم السلطانة الأم في رداء الحمام، وسقطت في المغطس لتموت غريقة؛ لأنها لم تجد من ينتشلها منه في التو.

وبانتشار خبر الوفاة، اجتاحت جحافل من *المماليك السلطانية من الجراكسة و*أجناد الحلقة بوابات القصر، واعتقلوا أهله في إنقلاب غاشم. تهادى قائدهم في بهو القصر واستقبلته “زمردة” بردائها الشفاف المتطاير الذي يجعلها تبدو كفراشة رائعة الجمال، وانحنت فرحاً قائلة:

– مولاي

فرد عليها بتنهيدة العاشقين:

– جميلتي ومحبوبتي ورفيقة صباي ودربي! لولا مساعدتك لما استطعت أبداً أن أنقذك واستعيدك. ستكونين زوجة سلطان البلاد.

رمقته بابتسامة ساحرة، وهي تتذكر أن القلادة ذات الطلاسم السحرية المصصمة للفتك بأعدائها هي من خلصها من العبودية. وأنها لسوف تحتفظ بها للأبد. ووجهت نظرة ذات مغزى لم يكن مفهوم لحبيبها وهي تذكر نفسها بأن تهدي القلادة لمن يخطر بباله تعكير صفو مخططاتها.

………………………..

*مُنفر: ضارب البوق

* دبندار: ضارب الطبول

*خاصكية/ المماليك السلطانية: أقرب المماليك السلطانية إلى السلطان، وكذلك حرسه الشخصي

*شاد الدواوين: مساعد الوزير والمشرف على استخلاص الأموال.

*أَلفِي: أمير ألف من الجنود

*كوسات: صنوجات من نحاس، كانت يدق بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص. كان يدق بها مرتين في القلعة في كل ليلة، ويدار بها في جوانبها مرة بعد العشاء، ومرة قبل الفجر. وكان أيضاً يدار بها حول خيام السلطان في سفره.

*أجناد الحلقة: محترفي الجندية من أولاد المماليك، وهم الفئة النظامية في الجيش ولا يتغيرون بتغير السلطان الحاكم ويشكلون قلب الجيش ودعامته وقت الحرب

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب