وتعتبر المقاهي التي دارت فيها أحداث رواية (باب الليل) للروائي المصري (وحيد طويلة) بمثابة أفضية مغلقة شكلا؛ لكنها منفتحة على عوالم ممكنة و أخرى غير ممكنة؛ استطاع الكاتب كشف الحجب عن فئات اجتماعية مختلفة؛ عرضها بملامحها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية و الجسدية…
لقد اعتمد الكاتب في تتبع أحداث الرواية المتشابكة على لغة السرد الروائي؛ التي هي مادة الرواية، فقد استطاع من خلالها إعادة إنتاج الواقع عبر مستويات اللغة المتفاوتة والمختلفة، وذلك باختزال الواقع والتعبير عن مكنونات شخصياته ودفعها لتعرية نفسها والبوح عما في داخلها وما يعتصرها من آلام وأحزان.
وهي لغة تتصف بالدينامية والحركية، فمرة تنقلنا عبر أزمنتها المختلفة من الحاضر إلى الماضي، ومرات ترمينا بسلاستها إلى أحضان المستقبل لكشف المجهول، وفضح المستور الذي تخبئُه البطلة (نعيمة) التي ارتبطت في لحظة من لحظات الرواية بغريمها الرجل الإيطالي الذي كان ينفق عليها ويسدد عنها واجب إيجار البيت؛ لكن في لحظة وقعت ضحية غدر أختها التي اختطفت منها حبيبها الإيطالي وهي التي كانت (تكمل تعليمها الجامعي على حس نعيمة وفلوسها؛ تنام في المدينة الجامعية؛ تقضي عندها ليلتي عطلة السبت والأحد؛ وتأخذ نصف ما في جيبها) ص28
إنها لغة تنهض وتنمو على طبيعة الوظيفة التي تقدمها الألفاظ وهي تأخذ شكلها في إطار تركيبي متناسق؛ تتوازى اللفظة مع ما تقصده في سياقها الدلالي؛ فاللغة الروائية في رواية (باب الليل) جاءت موازية للفضاءات التي تتداولها؛ حيث السارد كان عالما بطبيعة الألفاظ التي يتداولها رواد المقاهي الليلية وهم في حالة سكر؛ ينتقيها من الواقع المعيش ليبني واقعا روائيا يحاكي الواقع الحقيقي؛ نجده يتوارى وراء شخصياته ويكلمها بالطريقة التي تفرضها لغة المحيط والفضاء الذي تدور فيه الأحداث (كل شيء يحدث في الحمام…حمام المقهى بالطبع…) ص9
وهي لغة متباينة تختلف باختلاف الشخصيات وتباين ثقافاتهم وأذواقهم حيث هناك التونسي والشامي والايطالي ؛ وهناك المثقف؛ وغير المثقف و هناك من يحمل قضية كمجيد اللبناني الموعود بأن يكون سفيرا والفدائي أبو شندي الذي انتهت به حياته في مقاهي تونس منتشيا بكؤوس الخمر وجلساته الحميمية مع (نعيمة) التي تتمحور حولها أحداث الرواية؛ وهو الفلسطيني الذي فقد حبيبته أم زينة وفقد كل شيء حيث (الدنيا بعدها انطفأت؛ لم يعد فيها ألوان)ص60
فالسارد وهو يسرد أحداث الرواية نشعر به مدركا بأسرار اللغة وفاعليتها؛ يعرف ثقلها وقيمتها؛ ينتقي مفرداته بعناية شديدة؛ ويعرف كيف يقدم ويؤخر ومتى يلجأ إلى الحوار؛ ومتى يستخدم علامات الترقيم التي تُوجه القارئ التوجيه الصحيح وتساعده على فتح مغاليق الرواية؛ وإن كانت تتضمن تعابير خادشة للحياء لكنها ضرورية لكي تكتمل الصورة وتتضح الرؤية (كلهن قحاب ماعدا واحدة…)ص21 وهي مفردات منتقاة من معجم المقاهي الليلية ومن ألسنة روادها.
وفي النهاية تبقى رواية (باب الليل) زئبقية؛ متفلتة يصعب القبض على كل معانيها، فكلما اقتربنا من دلالتها كلما ازدادت بعدا وعمقا واحتاجت إلى مزيد من القراءة و التأويل.