بسمة الشوالي
-1-
اِستقلّتْ مقعدا وسطا في الصفّ الثاني من سيّارة الأجرة. الوجه المنعكس على المرآة الخارجيّة صفحة مجعّدة لامرأة شاحبة رشَم عليها الزّمن كلّ تواريخه القٌلّب. قدّرت أنّها في مثل عمرها أو أزيد بشقاء غير قليل، ومثلها ربّما، محمّلة بكيس كبير من عبوات الأدوية وفواتير مكلفة. لحافها صوفيّ كالذي تلتفع به، وأزرق بورود بنيّة كبيرة مسدل على الكتفين المنهكين. وجه الغريبة لا ينفكّ يفتكّ ذهنها من شروده، ويثبّت بصرها عليه مثرثرا بمتاعبها الشّخصيّة التي تتقن كبتها إلاّ عن أنّات الهزيع القاسي من آلام المفاصل. لا تدري لمَ تشغل بالها بغريبة تشاركها السّفرة عرضا، وتشبهها في تفاصيل كثيرة. كأنّما عرفتها قبلا. أين؟ متى؟ لا تذكر. مدينة الذّاكرة ابيضّت جدرانها وبدأت تفقد انتظامها الطّبيعي، والشّارع الذي تسكنه وجوه معارفها غالبا ما ينطفئ مصباحه، ثمّ هي لم تر سيّدة غيرها تركب سيّارة الأجرة ! لم تنتبه حتما. أشياء كثيرة غدت تجتازها ولا تفطن. اِلتفتت إلى ركّاب المقاعد الخلفيّة. عاد المصباح ينير المنطقة المظلمة. ضحكت. رمقها الجميع شزرا. اِنفجرت بكاء. ” أنتِ بخير سيّدتي؟” . حرّكت رأسها نفيا للحقيقة التي رأت، ذلك الوجه لها.
-2-
وزّعت كلّ مشاعرها على الورثة واحتفظت لنفسها بكرسيّ هزّاز تركته في الغرفة يهدهد ذكراها. تركت كذلك ابتسامتها البيضاء المُبهجة على طاولة ميمنة السّرير، سابحة في محلول طبيّ، لتستقبل عنها زائرها الأخير. لن تعرف من هو حتما، لكن، يسعدها أن يعرف أنّها تقضي سفرتها مطمئنّة حالما تعانق ابتسامة طاقم أسنانها الأبديّة نظرته المندهشة، عدا ذلك، لا وصيّة من بعدها لأحد. كان الأحد يقع نهاية أسبوع لن تراه. وغالبا، هي لا ترى أحدا عند الأحد. قبل شهرين، كانت الآحاد كلّها أوقاتا سعيدة.. يومه الأخير بدار العجّز كان أحدا أيضا. تتشمّم الشّال هديّته الأخيرة لميلادها السّتين، تُحكم لفّه حول كتفيها. قال للممرّضة “محبوبة لا تحتمل برد الشتاء، اشتري لها ما يدفئها”. وكسّر لأجلها حاجز السّبعين بطبق دسم من الحلويّات. في منطقة ما من العمر يصير فرط البياض قاتلا، يصير القلب نجّارا عجوزا يقلّع خشبات السّنين التي بقيت صالحة ويصنع منها فُلكا صغيرا للرّحيل.
-3-
لن يتأخّر. تلقي على الدّقائق الأخيرة نظرة رضى ممتزجة بالحنين. تودّ حتما أن تظلّ هنا أكثر ريثما تقفل دائرة الثمانين من العمر مثلا أو تعود ابنتها من سفرها الطّويل. نقطة السُّرّة تنبض بشدّة. هذا موعده ولا شكّ. رأت فجرا ورقتها بيضاء لا شِيَة فيها تسقط من شجرة الحياة، إن هي إلاّ فسحة من زمن قصيرة قبل أن تصل حافلة الأبديّة إلى محطّة الانتظار. لكنّها، في غمرة انشغالها بترتيب لحظات العمر الأخيرة لم تر لاعب الورق السّماويّ حين كان يعبر الرّواق الذي عبرته نحو غرفتها بدار العُجّز.
هو أيضا لم يرها. كان منشغلا بترتيب أوراق سكّان الدّار حسب الترتيب الزّمني للنهايات، متّجها إلى المنزل المجاور ليقبض روحا فتيّة لطفلة كثمرة برقوق تورّدت للتوّ على جذع الحياة وملأت حياة والديها مسرّة بعد يأس..
…………..
*كاتبة من تونس