اللغة فى “فانيليا”، لها حكاية طويلة وجميلة، وأول ما ستفعله أنها ستجعلك تقرأ، وأنت لا تعرف سببًا محددًا يجعلك هكذا مصر على القراءة، ولكن لنفس هذا السبب/ اللاسبب تحديدًا ستستمر فى قراءة “فانيليا”، اللغة هى من سحرت الموت، والرغبة الغريبة للبنت الموجودين فى الجملة، كما ستفعل المزيد من الجمال فى كل نفس تتنفسه الرواية.
اللغة فى “فانيليا” أشبهها بالماء: عذبة، رقيقة، سهلة، عميقة، وكأنها جدول صغير استأذن بأدب من النهر الكبير ليشق طريقه، أعتقد أن كلمة ” يشق” فيها الكثير من الحدة على لغة “فانيليا”، ستناسبها أكثر كلمة/ وصف “يتمشى”، وهذه “التمشية” ستناسب حالة “الفرجة” التى تمارسها الرواية طوال الوقت-ولهذا قصة أخرى- هذا الجدول الصغير سيتمشى بسلاسة دون أن يستطيع شىء اعتراضه، فهذه اللغة العذبة تحمل كل الحلول داخلها، هى نفسها أحد الحلول السهلة المريحة الجميلة، الفرق بينها وبين الماء أنها قادرة على الصعود، ولا تضعف فى أى وقت، سترى هذا الجدول الصغير وتسمعه وتشعره داخلك بنفس الإحساس الذى أحسته “بنت فانيليا” عندما اكتشفت جسمها وهى تداعب قدميها لتعرف ما يعجب الولد فيها، يمر هذا الجدول داخلك فيوقظ مناطق جديدة من الجمال تشعرها مثل خط النمل الذى كان يدغدغ مشاعر هذه البنت.
أعتبر “فانيليا” مشروع سردى عذب.
طوال الوقت كانت هذه اللغة بسلاستها وعذوبتها تعمل مثل ضوء قوى مسلط على وجه به تجاعيد، وبسبب هذا الضوء لا نرى تلك التجاعيد، فيبدو الوجه ناعمًا سلسًا، وهو بالضبط ما فعلته اللغة بالرواية التى تبدو للوهلة الأولى، والثانية، وربما الثالثة رواية ناعمة، هادئة، وهى فى الحقيقة ليست كذلك، ففيها الكثير من العنف والحدة، ولها تاريخ حاد مع العالم، فعندما يفكر الولد-ولد فانيليا- فى ما لو أمكن له الاحتفاظ بقدمى حبيبته، فإنه سيفعل ذلك بأن يجزّ هاتين القدمين بسكين ثم يضعهما بجوار جهاز الكمبيوتر، لتكونا فى مرأى عينيه، أو يدقهما بمسمارين فى الجدار المواجه لسريره، هذا ما سيفعله الولد بأكثر ما يحبه فى حبيبته، لو توقفنا هنا قليلا دون أن تجعلنا هذه اللغة العذبة ننزلق عن الكلمات ودون أن تعمى أعيننا، لو فعلنا ذلك سيمكننا أن نتخيل كمية العنف والدم النازف من كون “الولد” سيجزّ هاتين القدمين الصغيرتين بسكين، وحجم الألم الذى سيسببه لحبيبته عندما يدق قدميها الحبيبتين بمسمارين فى الحائط، لكننا سنمر على هذه اللقطة “ونستلطفها” ونحبها، لن نرى فيها نقطة دم واحدة، لن نشعر إلا بسعادة “بنت فانيليا” وهى ترى قدميها الصغيرتين والولد يدقهما فى الحائط بالمسامير، اللغة وحدها ببساطتها وسهولته من فعل هذا، جعلت الأمر بهذه البساطة ومررت كل الدم والألم، خدعت القارىء، وخدعت الولد والبنت فى الرواية فلم يلاحظ الولد عنفه، ولم تشعر البنت بألمها.
فى مكان آخر من الرواية سنعرف أن “بنت فانيليا” لم تقل لأصدقائها عن وقفتها أمام مرآتها وهى توجّه الشتائم والبصاق لمديرها فى العمل، ولصديقتها خطافة الرجال، ولأشخاص آخرين لا تحددهم، تسحقهم جميعًا بقدمها، مبتهجة بسماع طقطقة العظام ومنظر الدم السائل على البلاط، ثم هى تنهى هذا المشهد بأن تستغرق فى ضحك حقيقى، كل هذا العنف لا يخفيه إلا سلاسة اللغة، وكأنها ألقت بسحرها لتخفى كل شىء، وتمحو تجاعيد العالم، وسيتكرر هذا السحر فى مساحات من الرواية أعدّها كثيرة، فتبدو “فانيليا” بهذه الحال مثل بالون صغير جميل ملون يطير بخفته، بينما تتصارع داخله جزيئات/ مشاعر حارة غاضبة وغير مرئية.
تبدو “فانيليا” حيادية بالمفهوم الشائع عن “الحياد”، لكنها بمفهوم آخر عن “الحياد” ستكون متورطة تمامًا، فأنا لا أرى الحياد أن يكون الشخص غير معنيًا بشىء أو بشخص ما، الحياد موقف يأتى بعد تجربة مع العالم أو مع شخص ما، وهو موقف غاية فى العنف، فأنت عندما تكون على الحياد من شخص ما فأنت قد عرفته وجربته والآن تعتبره غير موجود رغم وجوده، لا أحد يتعرف على شخص ما لأول مرة ويقول له: “أهلا أنا اسمى فلان وأنا على الحياد منك”، لا أحد يستيقظ صباحًا ويقول للعالم: “صباح الخير أيها العالم وبالمناسبة أنا على الحياد منك”، حتى بعد أن نغادر العالم فإننا بشكل ما لا نستطيع أن نكون على الحياد معه، الحياد ليس طريقة للتعامل مع العالم، ولكنه موقف من العالم سيتخذه شخص ما بعد تجربة، وهذا ما فعلته “فانيليا” و”ولدها”، فبعد تجربة أراها عنيفة وحادة مع العالم قررا أن يكونا على الحياد منه، وهذا طريقة قاسية فى الانتقام، وهى إحدى الطرق التى سيمارسها الولد للانتقام من كل ما يؤلمه فى العالم، وهنا أيضًا لعبت اللغة دورًا هامًا بسلاستها ونعومتها، فجعلت “الولد” و”البنت” ينتقمان من العالم أمام أعيننا ويُريقان دمه، بينما نراقبهما بابتسامة هادئة مخدوعة ونتمتم: ما كل هذه الرقة؟! إنه سحر اللغة أيتها العيون المخدوعة.
“فانيليا” رواية “فرجة” بالدرجة الأولى، لا أقول “مراقبة” أو “تأمل”، فالأولى جارحة والثانية متفلسفة، وهو مالم تفعله “فانيليا”، “الفرجة” تحتمل الحيادية، التورط، التعاطف، التفكير، تحتمل أن يُدخل صاحبها نفسه فى العالم أو ينزع نفسه منه وقتما يحب، سنرى “الولد” فى المقهى وهو يبحث عن فكرة رواية يكتبها، ويتفرج على نفسه وهو يبحث عن هذه الفكرة، ويتفرج على الفكرة نفسها، يتفرج فى المقهى على “البنت”، وعلى المارة فى الشارع، على قطع الملابس الداخلية الصغيرة للأجنبيات أثناء مرورهن خارج المقهى، ثم يتفرج على الرجل الذى يتفرج على البنات الأجنبيات، يتفرج على القطط والكلاب الضالة، “الولد” هنا متفرج عظيم ولئيم فى نفس الوقت، وكأنه رجل عجوز يجلس تحت عمود إضاءة مطفأ، أو تحت شجرة فى ركن قريب وبعيد فى نفس الوقت، فتمر القطط والكلاب والأشخاص بجواره دون أن يلحظوه، هو لا ينفعل كثيرًا، ولا يمكن القول بأنه غير مبال ( فى المساحة بين القوسين كتبت أن الولد متورط وغير متورط ومسحتهما عدة مرات، فنا أريدهما معًا، ولا أريدهما معًا، مما يدل أن حالته وصلتنى تمامًا وأنها حقيقة فى الرواية، “الولد” لا يقف بين الحالتين، هو فيهما وخارجهما فى نفس الوقت)، الأشياء التى يفضلها أشياء بسيطة يختارها بعناية، أظنها تلقائية وطبيعية أكثر منها عناية، سيختار تفاصيل هادئة، ويختار بنات لهن ميزات خاصة، ومن داخل هذه البنات سيختار من أجسادهن وأفكارهن لمسات ولحظات وتفاصيل خاصة به على طريقته.
“فانيليا الفرجة” لن نصادف فيها حوارات كثيرة، وهذا ما يناسب حالة “الفرجة”، وعندما نصادف حوارًا، سنجد أن هناك طرفًا يتحدث والآخر صامت لا يرد، ذلك لأنه يتفرج على محدثه، على أفكاره وكلامه، فى “فانيليا الفرجة” سنصادف الكثير من: “لاحظ الولد”،”لاحظت البنت”، “بدأ يفكر”، “تبص”، “يبص”، وكلها أفعال لها علاقة “بالفرجة”، تلك التى لا تجرح ولا تتورط، لا تخدش العيون، “الولد” يتفرج طوال الوقت وعندما تلتقى أى عيون فى العالم بعينيه فلن تتأذى تلك العيون الأخرى لأنه سيبتسم بهدوء ويبعد عينيه فيبدو كطيف، رغم ما بينه وبين العالم من تاريخ أظنه عنيف.
“فانيليا” ليست فيها “بنت”، البنت هنا مجرد انعكاس للولد، لذا فى معظم الحوارات بين “الولد” و”البنت” إن لم يكن كلها، أظن أولا أنه لم يكن هناك بينهما حوارًا بالمعنى المعروف الذى يكون فيه جسدين وفكرتين وصوتين، فى هذه اللقاءات كنا نسمع صوتًا واحدًا، وفكرة واحدة ، لم يكن أحدهما يرد على الآخر ، وفى إحدى المرات نرى “الولد” يتمشى فى الشارع ويفكر مع نفسه بأن البنت قالت له مرة: الشىء الوحيد الذى أعرفه عنك أنك صامت، ولم يخبرنا بماذا رد عليها وقتها، لسبب بسيط أنه هو من كان يسأل نفسه، بالأدق كان يتفرج على نفسه ويسأل، و”البنت” لأنها مجرد انعكاس “للولد” سنراها وهى تخبرنا عن نفسها بأن الشىء الوحيد الذى يجعلها قادرة على الاستمرار فى العمل هو أن تقف أمام مرآتها وتشتم وتبصق على من يؤلمونها وتتخيل أنها تدق عظامهم لتنتقم منهم، فى نفس الوقت نرى “الولد” وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا بأنه يكتب لينتقم من كل شىء ومن أى أحد، نلاحظ هنا أن البنت تقف بمواجهة مرآتها لتنتقم، والولد يقف بمواجهة كتابته التى هى بشكل ما مرآته لينتقم، البنت ومرآتها انعكاس للولد وكتابته.
لهذا أيضًا فالولد لن يقول للبنت” أحبك” ، ولن تقول له “أحبك”، رغم ما يبدو من أنه قصة حب بينهما، بينما ما حدث بالفعل أن “الولد” أخرج من نفسه نسخة أنثى ليتفرج عليها ضمن ما يمارسه من “فرجة” طوال الوقت، لذا سيقول عن البنت أنها “تحب الحياة” فى أول انطباع له عنها، ثم يعدّل هذا الانطباع ويقول: “الأصح أنها تعيش الحياة”، هو هنا لا يكتشف البنت وإنما يكتشف نفسه، كما أننا فى أية لحظة لن نشعر بأى فارق أو أية خطوط فاصلة بين البنت والولد، وفى نفس الوقت لن يجد ما يجمعهما لأنه لو وجد ذلك فحتما كنا سنجد ما يفصلهما وبالتالى سيكونان شخصين، بينما
“فانيليا” هى الولد وكتابته، والبنت ومرآتها انعكاس لهما.
فانيليا/جوافة.
أحب أن أتوقف قليلا عند التشبيه الذى اختاره “طاهر” للثدى فى “فانيليا”: ثدى بحجم/ مقاس حبة جوافة، فى هذا الاختيار مصادفات جميلة سعيدة: ثمرة الجوافة لها شكل عام أنثوى واضح، كما أن هناك أشياء مشتركة بين رائحة الجوافة ورائحة الفانيليا، فكلتاهما يمكن أن تشمهما من على بعد، ولا يمكن الخلط بينهما وبين روائح أخرى، وكلتاهما بنفس الرقة والجمال والنعومة عندما تشمهما عن قرب، فالكثير من الروائح الجميلة تكون نفاذة بشكل لا يحتمل عندما يتم شمها عن قرب، وأعتقد أن رائحة الجوافة والفانيليا، هى رائحة “بناتى” بالدرجة، صحيح يمكن تخيل امرأة برائحة الجوافة أو الفانيليا، لكنى أتصورها رائحة بناتى بالدرجة الأولى، وذلك يناسب “بنت فانيليا” الافتراضية، وفى كل الأحوال سيكون من الرائع والممتع أن يُدخل “الولد” وجهه فى صدر برائحة الفانيليا أو الجوافة، أو حتى يقترب منه.
ملاحق فانيليا:
أى ملحق هو مضاف للأصل، وهناك مسافة بينه وبين هذا الأصل، لذا فإن كلمة “ملاحق” التى وضعها “طاهر” قبل هذا الجزء الجميل من الرواية قد عملت ضده.
فى رأيى هناك طريقتين للتفكير فى كيفية اختيار كلمة “ملاحق” لهذا الجزء، الأولى: هى أنها تكنيك اختاره “طاهر”، وأظن أنه لم يكن مناسبًا، فقد عمل هذا التكنيك ضد هذا الجزء الجميل من الرواية، لأن كلمة “ملاحق” عندما تظهر فى أى مكان، فإنها فورًا تضع مسافة بين ما هو قبل وما بعد هذه الكلمة. الطريقة الثانية التى ربما كانت سببًا لاختيار هذه الكلمة هى أن “طاهر” كان يشعر بعلاقة وجدانية بين جزء “الملاحق” والجزء السابق عليه من الرواية، وكان واثق من هذه العلاقة، لكنه فى نفس الوقت لم يكن واثقًا تمامًا من أنه يكمل الرواية، وأعتقد أن “فانيليا” –الرواية- عاقبته على عدم ثقته هذه، فأحيانًا الكتابة نفسها تقترح على الكاتب التقنية والتكنيك المناسب لها وذلك اعتمادًا على نظرة واحساس الكاتب بهذه الكتابة، وما فعلته “فانيليا” هو أن عاقبت “طاهر” على تردده فى الثقة بهذا الجزء واقترحت عليه تقنية أضرّت به.
فى رأيى أن “الملاحق” جزء أصيل من الرواية فهو يعمل فى روحها ووجدانها، صحيح أنه لا يكمل حكايات سابقة فى الغالب، لكنه إضافة لروح “البنت” ولروح النص ككل، أنت لو حذفت الملاحق ربما لن تشعر بأن الرواية ينقصها شىء من أحداثها، لكنك ستشعر بنقص فى روحها، وروح “فانيليا” هو منطقة عمل “الملاحق”، مثلما يحدث أن تتعرف على شخص ما وتكون مرتاحًا له، لكنك لم تقترب منه كثيرًا بعد، وحتى هذه اللحظة أنت لن تكون مشغولا بما لم تعرفه بعد ولن تسأل عنه، لكنك عندما تقترب منه أكثر وتكتشف المزيد من روحه، ستعرف أنه كان ينقصك الكثير، تمامًا وكأنما هناك جمال لا تعرف عنه شيئا، لكنك عندما تكتشفه تشعر به ، هذا بالضبط حالة “الملاحق” فى “فانيليا”، جمال له علاقة بالروح والوجدان.
أشبّه “فانيليا” بشعاع ضوء وسط حزمة من الضوء, هو شعاع له درجة لونية وملمس وشكل خاص به, ورغم رهافته فهو مميز ومرئى بوضوح.
أشبهها بمحل صغير جميل، له خصوصة ما، موجود بوسط المدينة- أية مدينة- حيث هناك محلات كبيرة، بينما هذا المحل/الدكان/فانيليا، سيكون موجودًا فى زقاق صغير وسط هذه المحلات، وستجد فيه ما ليس موجودًا فى أى مكان، هذه الدكانة/ الفانيليا، تمتلك الشارع الصغير الموجودة فيه، وكل صباح، كما كل منتصف نهار ترش ماء معطرًا على شارعها الترابى السلس، وتعلّق بضاعتها البسيطة اللذيذة على الجدران وفى سقف الشارع، وتشغّل موسيقى خاصة يعرفها زبائن هذه “الفانيليا”، وزبائنها لن يكونوا غير بنات بمؤخرات وأثداء صغيرة، ببشرة تميل للسمرة، لا أراهن هادئات، ولكن صاخبات على طريقتهن، تلك الطريقة المحببة، بينما يتفرج “الولد” عليهن وعلى نفسه، على بضاعته وشارعه وموسيقاه، والعذوبة التى لا تغادر ولا تنتهى.