د.يسري عبد الله
ثمة قدم صغيرة جداً لفتاة كلُ أعضائها تنمو, لكن القدم وحدها لا تبرح مكانها!! ليس هذا كل شيء, وهو كل شيء في آن. هو مبتدأ الحكاية, ومفتاحها في رواية “فانيليا” للكاتب المصري الشاب الطاهر شرقاوي, فملاحظة القدم الصغيرة أشبه بملاحظة السارد لذلك الولد الذي يشرب الينسون وحده في المقهى, ولعشقه الشاي بالقرنفل, ومحبته رائحة “الفانيليا”, وكلها أشياء تبدو في ظاهرها بسيطة غير أنها تخفي في داخلها عمقاً خاصاً, لا تؤطره النظريات الفلسفية, ولكن بهجة الأشياء الخاصة, ولذة الأنسنة لكل شيء, لنصبح – وبجدارة – أمام رواية تحيل كل شيء إلى إنساني وخاص, مبتعدة عن أدبيات الكتابة الكلاسية في رهانها الدائم على ضرورة طرح كل ما هو جوهري, لتطرح “فانيليا” الأشياء الحميمة والخاصة معيدة اكتشافها من جديد, ومخلقة عبرها فضاءً نصياً يشكل أفقاً واعداً للخطاب الروائي.
يخفي النص في داخله ثنائيات خاصة, تبدو متعارضة في ظاهرها, متجاورة في جوهرها الحقيقي, فالولد المكتشف القدم الصغيرة للفتاة, والذي تظهر عليه أمارات الدهشة في البداية, تتقابل معه “الفتاة المكتشفة” والمدهشة في آن, ليشكلا معاً الشخصيتين المركزيتين في الرواية.
ثمة سارد رئيسي يمسك بزمام الحكي في النص, يظل حاضراً خلف الحكايا, فالولد الذي يتمتع بمهارة الصياد الحقيقي من مراقبة, وصبر, واصطياد للحظة المناسبة, هو ذاته كاتب لا يأتيه فعل الكتاب وقسراً, بل ينتظر تدفقه, وحينما يواتيه طوعاً لا يصبح منشغلاً بسواه, فالكتابة هنا صيد ثمين لا يمنحها (الولد/الكاتب) غطاءً سطحياً, كأن تكون طمعاً في الشهرة, أو طُمعاً للفتيات, أو حتى يضفي عليها أشياء لا يشعر بها, كأن تكون الكتابة عنده تعني الحياة, بدعوى تعميق الأشياء.
“لاحظ الولد أن كل محاولات كتاباته السابقة, كانت مرتبطة بمروره تحت وطأة قهر ما يقع عليه, وأنه بداخله لا يكتب من أجل الكتابة, أو الشهرة, أو جذب انتباه الفتيات, أو أن الكتابة بالنسبة له تعني الحياة, كل هذه الأشياء لا تعنيه, ولم ترد بخاطره ذات يوم, الأمر ببساطة شديدة, أنه يكتب لكي ينتقم. نعم. الانتقام هو الشهوة المحركة للكتابة, الانتقام من كل شيء, ومن أي أحد, بدءاً من محصل فواتير الكهرباء, وبائع الفاكهة الغشاش, ومخبر الحكومة, إلى الأتوبيس (الباص) الذي يتعمد التأخير عندما ينتظره في المحطة, وتصريحات الوزراء في الصحف, وأيضا البنات مشعلات الحرائق”.
ثمة تصور ذهني إذن من قبل الشخصية المركزية (الولد/الكتاب) تجاه فكرة (الكتابة) يتسق في رأيي مع الرؤية الكامنة في الرواية, اذ لا تأتي الأشياء هنا زائفة, أو مرتدية لقناع يحول بينها وبين “الجوهر”, الذي يظل حلماً مراوغاً كلما استشعر الكاتب إمكان القبض عليه, إذا هو يلهث خلفه من جديد.
يتخذ الكاتب من الحكي بضمير الغائب صيغة سردية له, وبما يتيح له قدرة واعدة على حدوث هذا الكشف المتتالي لعوالمه, وأشيائه, ولذا فهو يبدأ الحكاية من “قدم” الفتاة التي تصير بمثابة نقطة الانطلاق داخل الرواية, ثم يحكي في الفصل السردي الثاني عن “الفتاة” ذاتها: “إنها البنت النحيفة, ذات الملامح الهادئة, المحبة في معظم الأوقات لارتداء بنطلونات الجينز, والتي ما إن تظهر في الشارع, حتى تلاحقها في صمت, عيون الباعة وعساكر المرور, يتابعونها وهي تحمل صندلها في يدها, وتمشي حافية على الرصيف, حتى تختفي في الزحام”.
ويكشف المقطع السابق عن أن الكلام على نية الوصل لا الفصل- باصطلاح البلاغيين – فعلى رغم أنه استهلال لفصل سردي قائم ومستقل بذاته, غير أن البداية حملت إشارة دالة إلى المحكي عنه المركزي في الرواية (الفتاة), لذا فمرجع الضمير في مفرده (أنها) يعود إلى الفتاة موضع الحكي والإدهاش في آن.
ثمة دوال مركزية في رواية “فانيليا”: (القدم الصغيرة/ الفتاة/ الولد) تتوزع على الفصول السردية المختلفة, وكأن ثمة وعياً عميقاً بآليات النوع الأدبي, فالفصل السردي الأول تبدو فيه (القدم) حاضرة بقوة ومُمثّلة “الدال المركزي” الذي تتفرع منه الحكايات, وتدور حوله الأحداث, وفي الفصل السردي الثاني ينتقل الكاتب إلى (البنت) وفي الفصل الثالث ينتقل للحكي عن (الولد), وهكذا.
لم تكن البنت ذات القدم الصغيرة فتاة “عادية”, بل كانت تتوهم مصادقة الحيوانات, فهي تحب “الديناصور الأخضر الصغير” ومن قبل عاشت مع “الخرتيت”, ليحيلنا الكاتب إلى عالم غرائبي, هو وحده الذي استوعب نزق الفتاة, بعد أن لفظها الواقع المادي, حين صرحت بأمانيها البسيطة, لتحدث مراوحة بين “الواقعي” و”المتخيل” تفتح أفقاً واعداً في القراءة والتأويل.
ثمة وجه آخر للفتاة يبدو حزيناً, مسكوناً بالأسى, انه أسيان على حاله, تلاحقه خيبات متعددة, وإحساس عارم بالفشل.
“أحست البنت في تلك اللحظة, بثقل الصناديق الصغيرة, المعبأة بأحلامها الموءودة, وخيباتها المتعددة, والدموع التي سفحتها في السر, لتبدو السعادة – ومن ثم – بمثابة الفعل الاستثنائي الذي ترغب الفتاة في أن تموت فور تحقيقه!
وعلى رغم أن للبنت ذات القدم الصغيرة قتب على ظهرها, إلا أن الرواية لا تنحو تجاه إحداث تعاطف ساذج معها, بل كانت مسكونة بالإيغال الرهيف في سيكولوجية “الفتاة”, متوسلة في ذلك بسرد يحوي نزوعاً تحليلياً لا إخباريا فحسب, وهذا ما يبدو في المقطع التالي مثلاً:
“اشعر كأني طائر يتقافز على الأرض. وأخذت تشرح له مبررات اهتمامها بأن يكون عيد ميلادها مختلفاً عن كل شيء. كانت البنت تعتقد أن احتفالها باليوبيل الفضي حدث مهم جداً, على المستوى الشخصي, فهو بالتأكيد مختلف عن اليوبيل الذهبي, وصارت مثل محارب عجوز, فقد رغبته في المغامرة, وسئم خوض حروب جديدة”.
يختتم الكاتب روايته بعنوان فرعي دال: “ملاحق” يحوي فصولاً ثلاثة يرصد فيها طرفاً من حيوات مختلفة لشخوص متنوعين: (السيدة العجوز الواقفة على أعتاب الذكريات المنقضية, و”رجل الجنازات”, و”المرأة البدينة التي أضحى “الغسيل” الملجأ والملاذ بالنسبة لها).
واللافت للأمر أن هؤلاء الشخوص الثلاثة جاء ذكرهم في المتن السردي للنص عرضاً, لكن الكاتب في “ملاحقه” يفرد لكل منهم فصلاً خاصاً به, وبما يسهم في رأيي في تعميق الرؤية السردية بداخل النص لتشكل (الملاحق) فضاء سردياً منفصلاً ومتصلاً في الآن نفسه مع الفضاء السردي المخلق من المتن السردي للرواية.
ثمة نزوع للسخرية يسم الملاحق, وخصوصاً “حين يتحدث الكاتب عن”رجل الجنازات”: “ظل عدم حضوره لجنازتي عبد الناصر والسادات يؤرقه كثيراً وكان يعتبر ذلك ثغرة في عالمه المتكامل, وجعله هذا – في أحلام يقظته – يتمنى, لو أن الله خلقه قبل عشر سنوات فقط من ميلاده, أو أن أباه تعرف على أمه قبل عقد أو أكثر من تاريخ زواجهما”.
يستخدم الكاتب تقنيات متعددة في روايته “فانيليا” لعل من أبرزها توظيفه لتقنية (كسر الإيهام) المستقاة من المسرح البريختي, وذلك حين يوجه الخطاب السردي إلى (مروي له ضمني) “جمهرة المتلقين” وذلك في سياق الحديث عن الشخصية المركزية (الولد) فيقول مخاطباً المتلقين:” لا تسيئوا الظن به, فهو لا يمتلك ميولاً مازوخية أو اضطراباً نفسيا, من الممكن أن نسمي هذا حافزاً, أو باعثاً على الكتابة”.
ثمة بناء مشهدي يهيمن على مقاطع عدة في النص, متخذا من التوصيفات ذات الطابع البصري صيغة وأسلوباً له: “الوضع كان كالتالي, البنت متربعة على السرير في حجرتها..”. وبعد، يبدو الطاهر شرقاوي واعياً بجماليات اللغة, إذ تنحو لغته – أحيانا – منحى شعرياً, وتظل – في كل الأحيان – محتفظة بعذوبتها وسلاستها الخاصة, خصوصاً بعد أن تخلص إلى حد كبير من تلك “الغنائية المفرطة” التي كانت تشوب نصوصه السردية السابقة (البنت التي تمشط شعرها, حضن المسك, صوت الكمان), مراوحا بين “الواقعي” والمتخيل”, ومجيداً اللعب في المسافة الفاصلة بينهما وغير متخل عن هاجسه وشاغله المركزي ألا وهو الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة, والتعاطي معها بوصفها جديرة بالرصد, ومن ثم بالبقاء, لتصبح “فانيليا” واحدة من التماعات الرواية العربية في السياق السردي الراهن.