مصطفى معاذ
الكتابة ـ أي كتابة ـ متى كانت مهمومة بالإنسان فاضحةً لواقعه القاسي ساعيةً لتحريره هي ولا شك كتابة عظيمة.
محض الانطباعات المتواضعة التي لا أدعي لنفسي أكثر منها هي قراءة في شعرية مختلفة يقدمها الشاعر محمود خيرالله في ديوانه الأول فانتازيا الرجولة ـ الصادر مؤخراً عن هيئة قصور الثقافة ـ الذي يضم قصائد هاضمة ومستوعبة للتطور السريع والمذهل للكتابة الشعرية، ولعل هذا ما جعل الحداثة في “فانتازيا الرجولة” ليست تقليداً لحداثة الآخرين.
شعرية محمود خيرالله ـ إذن ـ مهمومة بأشياء جادة وتحمل خصوصيتها، كما أن شكل الكتابة في مجملها جاء متفرِّداًإلى الحد الذي يسمح لها أن تتيه على تيارٍ كامل من المقلدين، فقصائد اليوان تشبه سيخاً حديدياً وضعه الشاعر في مجمرة الواقع لتلهب الكلمات بالبساطة والحساسية مشاعر القاريء، في محاولة شريفة لفضح الزيف والانهزام الإنساني والخدع الكبيرة.
ولأن الموهبة وحدها لا تكفي، خصوصاً في الشعر، فقد بات الشاعر مطالباً ـ الآن تحديداً ـ بأن يُغني موهبته بالثقافة وأن ينفخ فيها من روح المعرفة قدر ما يستطيع، وقصائد فانتازيا الرجولة تؤكد بأنها تقف على أرض ثقافية مكَّنتها من الكتابة بغواية خاصة للمضمون والشكل، والحقيقة أنهما كل لا يمكن أن يتجزأ، في الفنون عموماً وفي الشعر على وجه الخصوص، وفي الديوان الذي نقرأه الآن بالتحديد.
الديوان كله مشغول بالتأكيد على حس جمالي ورؤى مضمونية جديدة على خريطة الشعر العربي، كأن الشاعر يريد أن يقول إن الشكل القديم بات نوعاً من الوهم الجمالي، خصوصاً حين يبني إهداء الديوان على مجموعة من المفارقات الاجتماعية، بعدما أخبرنا أنه مهدى إلى حبيبته، يقول:
“إليها رغم أنف هؤلاء…
مدخنو المارلبورو، رجال الأمن في المؤسسات، شحَّاذو كورنيش النيل، عشرات السلالم إلى الدور السابع، آباؤنا الطبقوسطيون وآباؤهن البرجوازيون، بائعو الهامبورجر في الجامعة، العاطلون عن العمل في الحدائق العامة، مُخطِّطو الإسكان الفاخر، فمٌ ينصح وحوله لحية سوداء وفم ينصح وفوقه شعرٌ أبيض..”
وبهذه البداية يريد شاعرنا أن يقول إن الشكل بات نوعاً من الترف والوهم الجمالي وأن هناك من ما يجعل المضمون أغنى وأهم من الشكل بل أولى لاستخدامه طريقاً وهدفاً يضيف إلى الشعر أبعاداً جديدة.
أمام واقع يتوحش لابد أن يُعمل الشعراء أقلامهم ـ التي لا تختلف في حالة محمود خيرالله عن الإزميل ـ في حفر رؤى كاشفة لمجتمعها ، ذلك أنه متى تم ذلك تأتي لنا أن نرحِّب بالصدق في قصائد فانتازيا الرجولة، وفي القصيدة التي لا تريد أن تغفل وهي تقتنص اللحظات الشعرية.
في أكثر من قصيدة بالديوان لاحت هذه الرؤى الكاشفة التي تشي بوعي الشاعر ـ إن كان لنا أن نتحدَّث عن سلطة الكاتب لا سلطة النص ـ إلى الدرجة التي وصل فيها الواقع المعاش من تفسخ وانسحاق، يقول في قصيدة عنوانها “هنا”:
“مثلما يذوب السكر
في مؤخرة الكوب
يذوب في مؤخرة كل شهر
شاعر من مصر”
ولأن الطبقة الوسطى هي المنوط بها السعي الدائم إلى الحفاظ على مكتسباتها ضد تغوُّل الطبقة المسيطرة، نجد أبناء الطبقة الوسطى دائما على قلق يجعل قدرتهم على الرصد أكبر وأكثر غزارة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالإبداع الشعري، ولذلك لا يتوقف محمود خيرالله عن مزج الانحياز إلى الفقراء بمشاعر الحزن والأسى والسخرية، يقول في قصيدة” أخافك يا رئيس العمل”:
“يا أبي سوف تشرح لي الفاعل والفعل
ولم تشرح أبداً
كيف يبتسم المفعول به
أمام رئيس العمل“
كما يقول في قصيدته الأخيرة “حفرتان من ضحك”:
“كنتُ جندياً تعيساً، صفعتني رتب ونياشين ونجومٌ كثيرة، وكان طبيعياً أن أغرق في بكاء مريرٍ ودام، وصار عليّ وحدي أن أنظِّف حذاء القيادة وأغسل ملابسها الداخلية وأنصح الفارين من سطوتها باحتمال المصير..”
أظن أنم قصيدة “الحقد على صلاح حامد” هي أنضج نصوص فانتازيا الرجولة، بقدر انغماسها في الهمين العام والخاص، فهي تجسد الانهزام الإنساني كاملاً بعيداً عن الغموض الشعري والادعاءات الميتافيزيقية، التي ترضخ لسطوة المجاز واللغة المتقعِّرة، يقول :
“يعيش المرتشون عمراً أطول
يستطيعون شراء أطعمة فوقها المايونيز
دون أن يختل نظام الله على الأرض،
عرباتهم تجدد مِن نفسها تلقائياً
وليس سواهم من يستصْلِحُ الأرضَ،
يتصالحون دوماً مع أبنائهم
وقد يشربون معهم أيضاً،
يجلسون في الأماكن المخصصة للعبادة،
حيثُ يسرعون لحفظ الآيات
فربما طُولبوا بتَسْميعِها صباح يوم القيامة،
وهي أبداً لا تقوم،
كأنها تنتظر عدداً من أخطائنا،
لتكون مبررات تعذيبنا أقوى“
محمود خيرالله في هذا الديوان يهجم على زيف العالم من أجل فضحه وإصلاحه، ولكي يجد فيه المسحوقون مكاناً لهم، على هذه الأرض، التي كانت الفضيلة في هذا الديوان أن أعاد الشعر إليها، كأنه يردد مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش على هذه الأرض ما يستحق الكتابة.
…………..
*نشرت في أخبار الأدب
