حوار: إسـراء النمر
لم أكن أعرف إلى أي مدى كانت ستتقبل الشاعرة فاطمة قنديل فكرة أن أزورها في البيت. لم أكن أعرف كيف أفتح معها كلاماً. هل أقول لها هكذا بدون مقدمات أنني أريد أن أرى هذا البيت الذي له بابان، ثم أصمت، كما لو أني أنتظر حكماً عليّ بالبلاهة. لم أكن أعرف أيضاً بم سأجيب عليها إن سألتني عن السبب. هل أبرر قائلة إنني أريد أن أتأكد إنكان الباب الخارجي لا ينغلق بإحكام، وإن كان الباب الداخلي هشاً وجميلاً. وإنني أريد أن أطمئن على أن العشب البري لا يزال ينمو في حديقتها. لكنني لم أجرؤ. لم أجرؤ لأن المسافة التي بيننا أكثر من المسافة التي بين البابين.
وحين هاتفتها، لنحدد ميعاداً ومكاناً للقاء، حاولت أن أنسى ما أرغب فيه، وتركتها تختار ما يناسبها. قالت بصوت مبحوح: مبدئياً لن نلتقي قبل الخامسة مساءً، لأنني أصحو متأخرة. فوافقت. وقبل أن تضيف شيئاً بخصوص المكان. أخبرتها أننا نحبُ أن نصورها صوراً تُشبهها. فردت مسرعة: ليس هناك إذن سوى أن تأتي إلى بيتي.. فيه أكون على طبيعتي. ابتسمت. ظللتُ مبتسمة نحو عشر دقائق. وقلت لنفسي: سوف أطمئن أيضاً على الصحراء التي تحيط بالبيت، وعلى الوحدة التي تسكنه. الوحدة التي لا تشيخ، والتي لا تشعر بالحرج كلما بكت أمام أحدهم.
في الطريق إليها، انتبهت إلى أنني لم آخذ معي شيئاً، لكن ماذا بإمكاني أن آخذ لشاعرة مثلها تحيا في ليل دائم؟ فتذكرت فروغ فرخزاد وهي تقول “أيها الرفيق/ إن كنت تقصد بيتي/ فاحمل لي معك مصباحاً/ ونافذة/ كي أرى صخب الشارع السعيد”. وتمنيت لو أن المجاز يصير رحيماً ولو مرة واحدة. حين توقفنا أمام البيت، لم نكن متأكدين بالضبط أنه هو. رغم أنه يحمل الرقم الذي أخبرتنا به. لكن شيئاً ما فيه يربكك. ربما بابه الخارجي الذي وجدناه ينفتح ببطء. إذ كان حارس الحديقة في انتظارنا. بينما حارسة النهار لا تزال في الداخل، تحاول أن تفيق.
كل شيء كما وصفته؛ البابان والحديقة والممر الحجري، عدا القطط، التي لم ترد ذكرها في نص (بطاقة هوية). لم يحدث يوماً أصلاً أننا وجدنا أحداً يكتب في بطاقته أن له كلباً، أو قطة. خرجت فاطمة قنديل على سهو. خرجت بذراعين مفتوحتين، وبضحكة رائقة. وحين وجدتنا مبتهجين بالقطط. وقفت معنا تحدثنا عن شقاوتهم. ثم اصطحبتنا إلى الداخل. إلى عزلتها الدافئة.
بمجرد أن تتجاوز عتبة البيت، تشعر أنك انفصلت عن الزمن. حيث الإضاءة البُنية الخافتة، والأثاث الفلكلوري البسيط. رحنا نتجول في الصالة الواسعة لنتعرف على فاطمة أكثر. ثلاثة أشياء كانوا لافتين للانتباه. الكمان المُعلق على الحائط المواجه للباب، والمنضدة الصغيرة التي رصت عليها الكتب التي بإمكان أي أحد أن يسرق منها، والصور المُعلقة بعشوائية منظمة، التي كانت غالبيتها صوراً شخصية بالأبيض والأسود، أما الباقية فتحمل وجوهاً نعرفها، مثل: سعاد حسني، وصلاح عبد الصبور، وفرجينا وولف.
بعد أن انتهينا من حصر التفاصيل، جلستُ أنا ومُنى عبد الكريم على الكنبة، بينما أحضرت فاطمة قنديل علبة سجائرها، وكوباً من القهوة الغامقة، ثم غاصت في كرسيها المفضل، قائلة لنا بمرح: “ها.. ما الذي تريدونه مني؟”.
–من يدخل بيتك، يشعر كما لو أنه دخله من قبل، ربما لأنه حاضر في نصوصك، وربما لأنه يشبهك. هل تؤمنين أن البيوت تأخذ من أرواحنا، وتصير نحنُ؟
البيوت هي نحنُ بالفعل. هي أرواحنا، ووحدتنا، وقلقنا الدائم. وهو ما يفسر لك، لماذا ترتاحين في بيت عن غيره. لماذا حين تدخلين بيتاً تشعرين فيه بالأمان، أو تشعرين بقبضة في القلب. أنا حين دخلتُ هذا البيت أول مرة، وكانت معي صديقتي الراحلة سها عصفور، أحسستُ أنه بيتي. أني عشتُ فيه من قبل. أني أعرف حوائطه، وغرفه، وتفاصيله الصغيرة. أحسستُ أن أبوابه تُشبهني، وأن حديقته تُشبهني، وأن مطبخه يُشبهني. ورغم أني كنتُ آتية إليه مُرغمة لأتخلص من زن السمسار، إلا أنني أدركتُ على الفور أنه المكان الذي أود أن أموت فيه. هو لا يختلف كثيراً عن بيتي القديم الذي عشتُ فيه أربعين عاماً. صغيرٌ مثله وله بابان. لكن هذا ليس سبب اختياري للبيت، لأنني لم أكن أتخيل أن أكون قريبة من الصحراء، وأن أنعم بهذا الهدوء. إذ كنتُ قد تأقلمت على الحياة في مصر الجديدة، التي لم أكن أحبها بالمناسبة. كما أنني لم أكن أريد أن أعيش مجدداً في الدور الأرضي. كنت أريد أن أعلو. أن أسكن في الطابق السادس، أو العاشر. كنت أريد أن أطل من شرفة على العالم، لأراقب الناس وهي تمضي.. الزمن وهو يمضي.
–لماذا تركتِ بيتك القديم؟
لم يكن قراري، كان قرار مالك البيت الذي أراد بيعه. وكنتُ متأهبة لهذه اللحظة. إلى الخروج. إلى التخفف من العبء. عبء البقاء في بيت ليس بيتي. إنه بيتهم. بيت أمي وأبي. بيتهم الذي حمل تفاصيلهما وحياتهما. مازلتُ مثلاً أذكر الكرسي الذي كان يجلس عليه أبي. مازلتُ أذكر الحائط الذي كانت تسند عليه أمي. أمي التي كانت قريبة مني، وكنتُ قريبة منها. البيت بالنسبة لي هو أمي. حين تضحك يضحك البيت، وحين تغفو يغفو البيت. وفي سنواتها الأخيرة مرضت، فمرض معها البيت. أمي لم تكن فقط البيت، كانت الكون، وما فيه. أنا أؤمن، رغم أن الحياة لم تمنحني فرصة أن أكون أماً، بأن فكرة الأمومة مأخوذة من فكرة الكون. أن تصبح أماً يعني أنك صرت كوناً، وبحراً، ونهراً لا ينضب. هكذا. وحين ماتت أمي أحسستُ أن البيت يضيق عليّ، أن الجدران تحاصرني. لكنني رغم ذلك لم أملك حرية تركه، وبقيت فيه – وحيدة – قرابة 15 عاماً. في هذه الفترة لم أكن سعيدة. لم أكن مطمئنة. كأن البيت غريب عني. كأني لم أكبر فيه. لم أبك فيه. لم أغن فيه.
إلى أن أتت الساعة الحاسمة. ساعة التحرر من الماضي، والتاريخ. أحضرتُ حقيبة، ووضعت فيها كل ما يهمني من أورق وملابس وصور. اخترتُ الصور التي أحبها، والتي تعني لي شيئاً، ومزقت البقية منها، لم أكن أريد أن أتذكر ما بها من وجوه، وأحداث. هذه حياة لم تعد تخصني. ثم دعوت أصدقائي وجيراني ليأخذوا ما يريدونه من البيت. وجلست عند الباب، أرى الغرف والمناضد والكراسي وهي ترحل. ذكرياتي وهي تتناثر. جذوري وهي تنخلع من مكانها.
–والحنين، ماذا تفعلين فيه حين يزورك؟
عشر سنوات مرت على خروجي من البيت، ولم أشعر بالحنين إليه مرة. لأنني حين تركته، كنتُ قد تشبعت منه تماماً. لذا أردتُ أن أغادره وأنا خفيفة، خالية من كل شيء، إلا من نفسي. الغريب، أنني لم أعد قادرة على تمييز مكانه. أقول مكانه لأنه لم يعد موجوداً. لقد هُدم البيت، وشُيدت على أرضه عمارة فارهة. الحنين إلى البيت القديم مثل الحنين إلى اللاشيء. لم أعد أتذكره لكنني أتذكر كل لحظة عشتها فيه. أنا أحن فقط إلى شقتنا التي أقمنا فيها حين كنتُ في الخامسة من عمري، بعد مجيئنا من السويس، مدينتي التي ولدتُ فيها. ورغم أننا لم نعش فيها سوى ثلاث سنوات، إلا إنها كانت أسعد ثلاث سنوات في عمري. تقع الشقة في مدينة نصر بشارع خضر التوني، وكلما مررتُ من أمامها،ومن أمام مدرستي الابتدائية عبد العزيز جاويش، ابتسم لحياتي البعيدة، ولا يعني هذا أنني أحنُ إلى طفولتي.
–لكنك وضعتِ صورتك وأنت طفلة – تحتضنين عروسة بلاستيكية – على غلاف ديوانك (أسئلة معلقة كالذبائح)، أليس هذا حنيناً؟
لم أكن أحتضن العروسة، كنتُ أخنقها. في طفولتي، لم تكن العرائس لعبتي المُفضلة، لم أكن أحملها على كتفي، وأهدهدها. لم أكن أطعمها. لم أكن أغير ثيابها مثلما تفعل البنات، وكنتُ أثقب عينيها عادة. وكانت ألعابي كلها ذكورية، لأنني تربيت مع آخين. أذكر أن أول قصة حب فشلت بسبب حبي للكرة، ففي يوم كنت أقف جوناً، وكان الولد الذي أحبه يراقبني من شباكه، وفجأة في لحظة انهماك، زعقت بصوت حنجوري، انتبهت في الحال له، ورأيت على وجهه الانزعاج، فما كان أمامه سوى أن يغلق الشباك في وجهي إلى الأبد. لكنني في المقابل، كنتُ أحب العرائس القطنية ذات الوجه البشوش التي كانت تصنعها أمي للخادمة، ولا أعرف حتى الآن تفسيراً لذلك.
–ربما لأنها كانت تصنعها لغيرك ما آثار بداخلك غيرة ورغبة في امتلاكها..
أنت جعلتيني الآن أنتبه إلى ذلك بعد هذا العمر. لقد عشت أزمة حقيقية بسبب البنات اللاتي كن يأتين لمساعدة أمي في البيت، لأنها كانت تعاملهن مثلي، بل كانت تهتم بهن أكثر، لأنهن كن يتيمات وفقيرات. ولم أكن أعي وقتها لنبل ما تفعله. كنت أفكر في نفسي، أن هناك من يستحوذ على حبها. من يأخذها مني. وكان هذا يشعرني بالخطر، لأن أمي كانت داعمي الوحيد، بالأحرى جمهوري. فهي التى كانت تصفق لي عندما أغني. والتي ظلت تنصت لي بعدما جاء التلفزيون إلى البيت. ومرة حكت أنني دخلت في حالة اكتئاب، لأن العائلة لم تعد تنشغل بموهبتي، فأخذتني إلى إحدى الغرف، وأوقفتني على منضدة، وقالت “غنيلي أنا يا حبيبتي”. اعتقد أن الغناء هو الشيء الوحيد الأقرب لي بعد الشعر.
–ذكرتِ في أحد الهوامش، أن والدتك سعاد الكرداني كانت روائية، وأن لها عملا غير منشور اسمه (العبور فوق الجسر). إلى أي مدى تأثرتِ بحبها للكتابة؟
أنا أشعر أصلاً أني أحقق حلمها في أن تكون كاتبة معروفة. هي التي دفعتني لقراءة الشعر، وهي التي حببتني في صلاح عبد الصبور. وكما كانت جمهوري الوحيد في الغناء، كانت كذلك في الشعر. أذكر أنه كان بإمكاني أن أيقظها في الرابعة فجراً، لأقول لها إنني كتبتُ قصيدة، فتنتفض فاركة عينيها، لتقرأ. لولا أمي لما كنتُ سأصير شاعرة.
–لا أستطيع الآن تفسير حيادك تجاهها في نص (ثمرة لم تسقط/ تعفنت على غصنها) وتعاملك معها كناقدة، وليس كابنة. هل لأنك لا تحبين السقوط في بئر الرومانتيكية، أم أن هناك سبباً آخر؟
كان ذلك ضرورياً، لأنني أكتب شعراً. وفي الشعر، عليك أن تستجيب وتخضع لقانونه، وليس لقانونك الشخصي. الشعر لا يحتمل الانفعال، وليس قائماً على الفضفضة. الشعر حكاية كبيرة. هو عمل جاد، تستطيع من خلاله استدعاء أي شيء، بأقصى ما يمكن من كثافة النص، وكثافة اللغة. هو طبخة لها مقاديرها المُحددة والواضحة. لذا لا أحتمل الاستخفاف به، ويزعجني لو سخر أحدهم من نصي أو من نصوص غيري. دائماً أقول لأصدقائي: “اسخروا من شكلي. من جسدي. من حياتي كلها. لكن لا تقتربوا من الشعر”. إنه وجودي المنضبط، معه أتحول إلى شخص لا يعرف الضحك، إلى شخص قادر على أن يمسك العالم من عنقه.
–لكنك دفعت الثمن غالياً بسبب الشعر..
لم يكن لديّ خيار آخر. إما أن أكون شاعرة حرة، لا تقبل بالهزائم، أو لا شيء. بسبب الشعر خسرت أناسا أحببتهم، واستغنيت عن أشياء كثيرة. إذ كنتُ أتعامل طيلة الوقت بمنطق القصيدة، التي لا تحتمل كلمة زائدة، ولا تقبل كلمة لمجرد أنها جميلة. أنا مثلاً فشلت في الوظائف اليومية، لأني كثيرة التأمل، كثيرة الغرق فيمن حولي. ولا أستطيع أن أقوم بفعل شيئين في وقت واحد. فشلت أيضاً في الزواج، لأني لا أحتمل وجود آخر -الآخر يمثل تهديداً للكاتب لأنه يأخذه من الكتابة ومن نفسه- ولأني لا أقبل أن أكون مُهمشة. ففي الزواج تتحوّل المرأة إلى مواطن من الدرجة الثانية، ويصير إبداعها شيئاً هامشياً عند الرجل. هذا إن لاحظه أصلاً. إنها طبيعة الكتابة. لا تقبل شريكاً، أو نداً. إنها تريدك لها وحدها. وهو المصير الذي اخترته لنفسي: حياة مركبة، وصعبة. الآن أحلمُ أن أنسى الشعر، وأحيا السنوات المتبقية من عمري في بيت يطل على البحر.
–هل تشعرين باليأس؟
أشعر بالتعب. لم أعد قادرة على أن أراكم على روحي أكثر من ذلك. أكتب كل يوم، وأنشر كل حين، لا لشيء، أكثر من أنني لا أستطيع أن أحمل على كتفي كماً هائلاً من الكتب. كما أن الكتابة عندي شيء، والنشر شيء آخر. الكتابة هي أنت، هي دليلك على بقائك حياً. أما النشر فهو القارئ، وإن لم يكن الكتاب، أو الديوان، سيُحدث فارقاً معه، فلا داعي منه. أنا لديّ قناعة أن علاقتنا بالكتابة، مثل علاقتنا بالأفراد، تحتاج إلى الصبر. لذا لا أفكر في النشر كثيراً، حتى لا تهرب الكتابة من الشباك. وفي السنوات الأخيرة، ظل أصدقائي يلحون عليّ لأصدر ديواناً جديداً، ووجدتني أقول: لا بأس. فكان ديوان (بيتي له بابان)، الذي دخلتُ بعده في اكتئاب، لأني أحس دائماً بعد كل عمل، أنني لم يعد لديّ ما أقوله. هكذا فرحتي بالشعر لا تدوم طويلاً.
–كيف تختارين القصائد التي يمكن أن تخرج في ديوان؟ وهل لديك نصوص خاصة لا تحبين أن يطلع عليها أحد، أقصد هل لديك حسبة ما؟
حسبتي فنية تماماً. العمل على ديوان أشبه عندي بالعمل على صناعة عقد من الفُـل. يجب أن يكون هناك خيط لألضم فيه القصائد. وما إن وجدتُ هذا الخيط، أو الإطار، أبدأ في اختيار النصوص التي تخلق عالماً. ولا أنحاز هنا إلى النصوص التي أحبها، لأنني محكومة بمعايير البناء، التي تلزمني طيلة الوقت باستخدام نوع واحد من الطوب. ففي ديواني الأخير على سبيل المثال كان البناء قائماً على حالة الوحدة، ما جعلني استبعد كل النصوص التي بها آخر، حتى لو كان هذا الآخر هو قططي.
–لا أعرف إن كان هذا هو السبب وراء غياب النصوص الإيروتيكية عن (بيتي له بابان)، أم أنك حاولت الابتعاد عن الانتقادات التي تعرضت لها بعد (أسئلة معلقة كالذبائح)؟
عليك أن تعرفي أن العالم لن يقبلك كإنسان مكتمل، وأنه سيسعي دوماً إلى تشذيبك كما لو كنت شجرة. وهو ما حدث معي. لذا بإمكانك أن تقولي إنني أحاول تفادي الاتهامات. لأن أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الشاعر، أن يُعامل على أساس أنه نصه، فإن كتب نصوصاً عدمية، يصير عدمياً، وإن كتب نصوصاً رومانتيكية، يصير رومانسياً، وإن كتب نصوصاً إيروتيكية، يصير إباحياً. وفي حالتي، كان التصنيف عنيفاً، لكوني امرأة، وأكاديمية، إذ رأوا أنه من غير اللائق أن أتحدث عن الجنس، واعتبروا نصوصي الإيروتيكية نصوصاً حقيقية، وهو ما أزعجني، لأنه ليس من حق أحد أن يأخذ من نصي مذكرة تفسيرية عني. لأنني لا أكتب حياتي، إنما أكتب من واقع تجربتي وقراءاتي ومشاعري، ولكي أكون واضحة، ففي النص الذي أقول فيه “أنفض الملاءة وأسير عارية” أعيد قراءة لوحة سلفادور دالي الشهيرة (زوجتي عارية) التي تأثرت بها، وأحببت أن أترجمها إلى قصيدة. ورغم أنني توقعت ما سيحدث، إلا أنني لم أحذف النص من الديوان، لأنه جزء من بنائه.
–تحبين دائماً أن تكوني بعيدة عن أعين الناس، وتتمنين لو يظل ذلك عند الموت، وهو ما اتضح في “أنا آخر نص سأكتبه”.. لماذا الموت حاضر في غالبية نصوصك، بل أنت لك ديوان كامل عن الموت؟
لأني عايشته كثيراً، لذا أعرف كيف أتعامل معه، وأحسن استقباله. الكتابة أساساً في مفهومها النقدي، هي موت الأشياء. والجماعة التفكيكيون الذين أنتمي إليهم، يرون أن الكتابة شبح، بمعنى أن الكاتب يظل موجوداً وليس موجودا بعد الموت، لأن كتبه تبقي بين أيدي الناس، وتدخل بيوتهم. كما أن أفكاره ومشاعره وهواجسه تجاه العالم تبقي قائمة. وهو ما قصدته حرفياً حين قلت “أنا شاهد قبرك”. الكتاب هو شاهد قبورنا، لذا ليس دقيقاً أننا أحياء الآن. الموت كنهاية منحة كبيرة لنا، لأنه ينهي تورطنا مع الحياة، ولا يجعلنا عبئا عليها. أنا أتمني أن أموت بكامل وعيي، بلا ألم، وبلا عجز. أو كما قال صلاح عبد الصبور “وإن أتاني الموت، فلأمت مُحدثاً أو سامعا أو فلأمت، أصابعي في شعرها الجعد الثقيل الرائحة”.
–ظهور فرجينا وولف في ديوانك الأخير، وصورتها المُعلقة على الجدار، يدفعني إلى أن أسألك: هل فكرت يوماً في الانتحار؟
كأي أحد، مررت بمواقف صعبة، جعلتني لا أحتمل الحياة، وأتمني لو تنتهي. وحين كنتُ شابة، ظل الانتحار يلوح لي من بعيد، وتخيلت أنني لن أعيش للأربعين. لكن ها أنا كبرت، وأرى الموت هو الذي يلوح لي. الغريب أنه عندما يأتي الموت ليأخذني، لن يرى الناس في ذلك ضعفاً. وسيعتبرونه عين العقل. الفرق بيني وبين فرجينا وولف أنها نجحت في أن تضع حداً لآلامها. الانتحار في نظري ليس أن تلقي بنفسك مباشرة في حضن الموت. الانتحار سلوك. أن تُقدم على فعل أشياء لكي تُدمر ذاتك ببطء. وأنا من هؤلاء الذين لديهم سلوك انتحاري، ولا أخجل من قول ذلك. لأن الكتابة تُعلمنا العنف. وحين يكون المرء عنيفاً، عليه أن يوجه عنفه للآخرين، لكنني أفضل أن أوجهه لنفسي.
–وأنت على مشارف الستين، كيف تنظرين إلى الحياة؟
لم تكن الحياة عندي، هي تلك التي يتحدث عنها الشعراء. لم تكن مجيدة، ولم تكن عبثاً. كانت بالنسبة لي محض ماء يطفح من الرئتين. ورغم ذلك عشتها حيوات كثيرة، وليس حياة واحدة. بإمكاني أن أقول أنني عشتها طولاً وعرضاً. لقد سافرت كثيراً، وغنيت كثيراً، وأحببت كثيراً. وحاولت ألا يكون لديّ مرارات، وألا أتقيد بشخص أو بمكان. كنتُ داخل الأتون الذي اسمه الحياة. داخل هذا الفرن. أحيا بقانوني الخاص، وبزمني الذي لا يسير على هوى أحد. أصحو مثلاً في الليل، وأنام حين أتأكد أن النهار لم يخن العالم. كما تمردت كثيراً، وأخطأت كثيراً، وفشلت كثيراً. لكنني لم أندم على شيء، ولم أحاول تغيير شيء. وظللتُ فقط أبحث في هذه الرحلة عن ذاتي، وأنصت لصوتي الداخلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصور لـ منى عبد الكريم
نُشر في أخبار الأدب .. سبتمبر 2017