شددت على يده يومها وقلت: لا تجعل الحزن يتوغل فيسحب روحك معه إلى ذلك المكان الموحش الذى أخافه، اعتدتك تقاتل وجسدك ينزف، تبتسم وقلبك تُدميه الجراح، ترقص ويديك مكبلتين، تساعد وظهرك تثقله الهموم، تداوي وقلبك تنهكه الحياة، لا أحد يَعلم ما أصابك فى معركتك الأخيرة، حتى أنا لم تخبرني بكل ما حدث بها، تلك الليلة التى قُتل بها أحد الصعاليك وهو يسرق بعض الخبز الجاف من حظيرة أحد الأثرياء ولم تستطيع إنقاذه، الأمر الذى حول أمانك إلى أرجوحة تطيح بك فى الهواء، وقتل البهجة فى قلبك، وسرق بريق عينيك ورسم هذا الحزن على جبينك، كم طُعنت وكم خسرت، لا أعلم حجم ما يؤلمك، لكن أيقن أنه لو حمله جبل لدكه دكًا، أعلم من أنت وأنك لن تُهزم، لكل نبي محنة ينفض فيها عنه الكثيرون ويبقي من يؤمن به فقط، وكذلك البشر لكل منا محنة، تلك محنتك وأنا أؤمن بك.
كنت أراقبك ليلة أمس كعادتي، من خلف نافذة حجرتنا التى تغطي عليها شجرة التوت التي زرعتها بيدك عند زواجنا لنتسابق عندما تثمر، من منا سيجمع منها أكثر من الآخر، وكنت أنت من يفوز كل مرة وبعدما أغفو تضع التوت الذى جمعته فى إنائي وفى الصباح تخبرني “أنك فقط تعلمني الحرب لا يهم من يفوز ولكن الأهم خوضها دون خوف ليس الهدف هو التوت لأنه سيأتي حتمًا ولكن الفوز هو السعادة التى نحصدها ونحن نلهو في جمعه”.
كنت تسير تلك الليلة ببطء وعباءتك تمحو التراب خلفك، لم يمنعك تعبك من الخروج لإغاثة الفقراء الذين يجلسون أمام البيت فى انتظار خروجك، وعندما رأوك صاحوا “يا أبا الصعاليك أغثنا”، نعم فهم ينادوك مثلما كانوا ينادون عروة يقولون أنك خليفته، فارسهم، وأباهم وأبي أنا أيضا لا حبيبي فقط.
عندما عدت قبيل الفجر متعبًا تفرك الحصى العالق بعباءتك، قلت لك “سَيُفْزِعُ بَعْدَ الْيَأْسِ مَنْ لاَ يَخافُنَا، ويركضون كالماشية المذعورة” ابتسمت أنت وقلت لي: “ألن تكفي عن تحريفك للشعر عند نسيانه، الشطر الثاني ياصغيرتي: ” كَوَاسِعُ فِي أُخْرَى السَّوَامِ المُنفَّرِ”
جادلتك كعادتي قائلة بضجر الأطفال وأنفي تلونت بالأحمر كما يحدث عند خجلي:
أليس ما قلته يحمل نفس المعنى؟
قلت لي: بلى ولكن لا تجرحي شاعرًا فى قصيدته فيحزن قلبه وأنتِ أطهر من أن تأذى أحدًا.
نزعت عنك عباءتك وبدأت فى فرك الحصى بدلًا منك، سألتني: هل ستقومين بجمعه لتقومين بمشاكستي به عندما تسرقني كتبي منك.
نظرت إليك راسمة تلك الملامح البلهاء التى تحبها على وجهي حتى لا أضحك وأظهر بعض الجدية ولكني فشلت وغرقت فى الضحك وتبعثر مني الحصى وبدأنا نلملمه معًا، وقلت لك: أحبك وأنت تجمع لي الحصى الذى سألقيه عليك عندما أغار، فضممتني إلى صدرك وكأنك تخبئني به.
استلقيت بجوارك لنغفو قليلًا لم تحكِ لي كعادتك ما فعلته فى ديوان الملك لتحضر الطعام للفقراء هل أعطاه لك، أم قمت بسرقة مطبخه لتشبع بطون الشيوخ والمرضى والنساء وتسكت صراخ الأطفال، وهل كان الأمر سهل أم واجهك حراسه كما يحدث فى مرات كثيرة توشك أن تُقتل بها، هذا الأمر أحزنني كثيرا لأن تلك المرة الأولى التى لا تقص لي ما سأحكيه لأطفالنا في الكبر. أعلم أنك جريح وأن المعركة الأخيرة تركت ندوبًا بروحك، ولكن أريدك أن تتمسك بيدي لنعبر سويًا، تقول لي جملتك التي أحبها “أنتِ جيشي الذى لا يفر مهما اشتدت المعركة.. كلما اقتربت الهزيمة أراكِ تهمسين لي تشبث بعيني.. وقتها لا استسلم وانتصر”، لتعود لي نلملم الحصى وتخبرني أني جميلة كما كانت تقول لي أمي، وأني قوية كما كان يخبرني أبي، وطاهرة كما وصفتني جدتي، ألا تعلم أنك وطني، وإن ضاع الوطن، ضاع أهله.
تنهدت كطفل محموم، وقلت لي: أشعر بالغضب والسكون، الصمت والضجيج، السعادة والشجن، القوة والضعف، عربيد وقديس، ناعم وحاد، مذنب ومجني عليه، ظالم ومظلوم، حالم وبائس، مقاتل وهارب، وكأن الكون يتصارع بداخلي، ثم ضحكت ساخرًا، كيف أقاتل من أجل الصعاليك وأنا أصبحت قاسيًا كالموت؟ نظرت في عينيك المتعبتين بضع لحظات، ثم همست: تلك المرة الأولى التى تكذب فيها، اتسعت عيناك وقلت لي: عن أي كذب تتحدثين؟! قمت بلف يدي حول رقبتك برفق ولامس حبيني جبينك ثم قلت: لم يختفي النور من عينيك، والقسوة ظلام والعين مرآة القلب، وضعت يدي على قلبك وقلت: “طالما مازال هنا قنديلًا ملونًا لن تغرق فى الظلمات”، أسمع حسيس الألم بقلبك وأتحسس جراح روحك ولكن أريدك أن تقاتل ليس من أجلك فقط، بل من أجل الصعاليك الذين يختبئون تحت عباءتك من برد الحياة، وأنا منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصريّة