حسني حسن
في تمام السادسة صباح السبت، تحرك به القطار، من محطة القطارات الرئيسة بشارع “محمد الخامس” بوسط المدينة، باتجاه الشمال. لحظِّه السعيد، جاء مقعده المريح، بالطابق العلوي من العربة، إلى جوار النافذة. كانت الرحلة طويلة، أربع ساعات بأقل تقدير، يمضي فيها القطار محاذياً للمحيط، قبل أن يبلغ طنجة. رحلة تتطلب أن يأخذ، جيداً، بأسباب الراحة والمتعة، وما كان ليقصِّر في حق نفسه، أبداً، في هذا الصدد! إنها رحلته الأولى، التي ظل يحلم بها طويلاً، ويؤجِّلها طويلاً. بالطبع، ليست رحلته الأولى لطنجة، بل رحلته الأولى، معها، لطنجة. ابتسم لنفسه، متلذِّذاً، وهو يستعيد إلحاحها المتكرر، طول السنة الماضية، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، بتلك المدينة الصغيرة الفاتنة، معاً، بعيداً عن كل الأماكن المعهودة والبشر الذين يعرفونهم بالعاصمة. أراح رأسه على وسادة المقعد، وراح يتطلع، بشرودٍ، إلى مشاهد القرى والحقول والبيوت الفلاحية الصغيرة، المتناثرة في فوضى خلابة، وهي ترحل متطايرةً كأحلامٍ من سحابٍ مفزوع يطارد بعضه بعضاً. أدار ملفات الموسيقى، المسجّلة على ذاكرة “الآيبود”، محاولاً أن ينتقي منها الأجمل، والأنسب، لرحلة العمر الأخير هذه. ظل يقلِب في الأغنيات والمقطوعات الكثيرة، التي تُضاء أسماؤها على شاشة الجهاز الأعجوبة، حتى استقر، في نهاية المطاف، على “ألبومٍ” قديم لأجمل أغاني “خوليو إيجلسياس”. أسلم روحه، بالكلية، لصوت المغني الإسباني، الهامس الدافئ العميق الحزين الحنون والرجولي، وهو يعد حبيبته بأنه “لا يتغير، وبأنه سيظل دائما ذلك الفتى الغريب الذي يغني الأغنيات الرومانسية لها”. تذكر أنه كان قد أهداها تلك الأغنية، بالذات، قبل عامين تقريباً، في المقهى الصغير الهادئ الذي اعتادا أن يتقابلا فيه بالرباط، بالقرب من مقر المركز الثقافي المصري عند ساحة الزهور. وقتها سألته إن كان يفهم كلمات الأغنية الفرنسية جيداً، فأجاب، ضاحكاً:
-أفهمها، ولكن ليس جيداً.
قبل أن يستدرك، مؤكداً، أن ما لا يدركه بالعلم، يستشعره بالقلب، وأن القلب، نادراً نادراً، ما يخذله! كانت قد رفعت إليه أجمل عينين لوزيتين، رآهما في حياته، على وجهٍ حنطي، بدا له مُنيراً كشمس صغيرة، ومن دون سابق إنذار، مدّت أصابع كفها، الصغيرة البضّة، لتداعب أصابع كفه المستريحة على الطاولة إلى جوار فنجان القهوة. ابتسمتْ:
– لك أصابع فنان؛ طويلة مسحوبة ودقيقة.
بدأ المطر، الخريفي الرفيع، في التهطال على زجاج النافذة، حاجباً، على نحوٍ ما، تفاصيل المشهد الطبيعي الخلاب عن عينيه. شعر بالرغبة في القيام والحركة، قليلاً، فقرر التوجه إلى البوفيه لشرب القهوة. فضَل العودة بفنجان “النسكافيه”، واحتساءه في مقعده، بعد أن انسحبت الغيمات، مولّيةً الأدبار بسرعة، لتسطع الشمس من جديد.
– وهل تيقنتَ من وجودها هناك؟
التفتَ، متفاجئاً ومذعوراً، ناحية مصدر الصوت! كان موقناً أن المقعد المجاور بقي خالياً منذ صعوده لعربة القطار، وحتى رجوعه من البوفيه؛ فمن أين يأتي الصوت؟
أدار رأسه ليراه، جالساً مستريحاً، حيث ظن أن لا أحد هناك. وبالرغم من ضيقه بظهوره المباغت، ذاك، الذي قطع عليه حبل الاسترسال في عذوبة ونعيم أحلام وحدته مع القهوة والموسيقى وقطرات المطر الوانية في خارج، بعيدٍ بعيد، ملاصق له، فإن ما أزعجه، أكثر، إنما هو مضمون السؤال في ذاته! فالحقيقة أنه ما كان ليجرؤ، قبل هذه اللحظة، على التفكير في ذلك، ولا التساؤل بشأنه.
– هاتَفتني من هناك ليلة أمس، قُبيل نومي مباشرةً، اتفقنا على كل شيء، وسبَقتني هي لتكون في استقبالي عند الوصول.
– إذاً! تهانيّ القلبية برفقةٍ ممتعة!
همس، قائلاً، من بين شفتيه المضمومتين اللتين تلوكان ابتسامةٍ هازئة عقفت زاوية فمه. راح يحدّق في عينيه، الصغيرتين المتلامعتين الماكرتين، عاجزاً، و لسببٍ لن يفهمه أبداً، عن النهوض وتوجيه لكمة، قوية مباشرة، إلى أنفه الضخم الكريه، وإلى تينك العينين، على وجه الخصوص. بدا محدثه وكأنه مطلع على كل ما يعتمل بداخله من رغبات، وكل ما يدور بعقله من أفكار مؤذية. وبالرغم من هذا، فقد حافظ على هدوئه المثير، نبراته المتجردة اللا مبالية. قال، وكأنَما يسخر منه:
– وصلنا العرائش، المحطة التالية أصيلة، لا تزال أمامك أربعون دقيقة لمعانقة الأفراح!
خيّم الصمت، لثوانٍ طويلة ثقيلة، قبل أن يواصل الكلام، عابساً، أو حزيناً، هذه المرّة:
– لكن لو شئت الاستماع لنصيحتي، فإني أدعوك لتهيئة نفسك لاستقبال كل شيء.
نعم، استقبال كل شيء، ولا شيء. فكّر لنفسه! أليس كلُ شيء يساوي كلَ شيء غيره؟ ما يعني أن كل شيء هو، في حقيقة الأمر، اللا شيء! ولكن من أين يأتي الصوت؟ لعلّه يجئ من الصمت، أو لعله هو نفسه الصمت! الصوت والصمت متطابقان، لا يختلفان إلّا في حرفي الواو والميم، الواو حرف حركة والميم ساكن، لكن الميم تسبق الواو في ترتيب الأبجدية، تماماً، كما يسبق الصمت والسكون الصوت والحركة، لا ليست مجرد أسبقية، وإنما تبعية أيضاً، سيتبع الصمتُ الصوتَ، بالضبط، وبنفس المنطق اللا منطقي، الذي سينبثق فيه الثاني من الأول، مرّة ومرّة ومرّات، بلا عد!
على رصيف محطة قطار طنجة، الأنيقة النظيفة، وقف حاملاً حقيبة ملابسه الصغيرة، يفتِش عنها بعينيه. كانا قد اتفقا على أن تكون بالانتظار، هنا والآن. راحت الدقائق تمضي على انتظاره، بطيئةً متثاقلة، ولا أثر يُنبئ عن وجودها في الفضاء، الضيق الشاسع، لساحة الترقب والرجاء هذه. أخرج هاتفه المحمول من حقيبة يده . ظل الهاتف يرن، على رقمها المسجل بقائمته، طويلاً من دون رد، حتى انفتحت علبة التسجيلات الصوتية برسالة مسجلة، ودائماً بالفرنسية، كما أغنية “خوليو”، تطلب منه ترك رسالته. بدأ يشعر بقلقٍ غامض يخالطه نوعٌ، غريب وسري، من الراحة، بل وربما الابتهاج. فكّر أن شيئاً ما، لابد وأنه، قد عطَل مجيئها لاستقباله بالمحطة، وأنها لابد وأن تكون بالفندق. أخذ قراره، من دون تردد، وخرج إلى الشارع. نادى على أول تاكسي عابر. ركب في السيارة “الفيات” التي تشبه ألعاب الأطفال. قال لسائقها:
– “أوتيل المامونية”.
– “المامونية؟!”
تساءَل السائق بدهشة، قبل أن يتابع:
– هل تعرف العنوان، أستاذ؟
– المدينة القديمة، على البحر مباشرة.
– لا أظن أن طنجة كلها فيها فندق بهذا الاسم، أستاذ!
– قلت لك في المدينة القديمة، خذني لهناك، عند الميناء.
بدا وكأن السائق قد صدع لأمره، مجبَراً، وإن غير مقتنع، فاندفع يقود سيارته، بسرعةٍ بالغة، باتجاه الميناء والمدينة القديمة، فيما أسلَم نفسه، هو، لنزوةٍ طارئة ألحَت عليه، داعيةً إياه، للضحك بهستيرية، أخافت السائق المدهوش من غرابة حال راكبه. أوقف الرجل السيارة أمام الفندق الكبير، ذي الطابع “الكولونيالي”، الرابض على منحدر تلة المدينة القديمة، وعند قدمي الميناء. أدّى لقائد التاكسي حسابه، وغادر من غير نقاش. لم يكن الفندق يعلق لافتة مكتوب عليها اسم “المامونية”، بطبيعة الحال، لكن لا ضير. حجز لنفسه غرفة “سنجل”، بشرفة تطل على الميناء، لليلة واحدة. أخذ حماماً دافئاً منعشاً، وبدَل ملابسه بأخرى، نظيفة وثقيلة، لبرودة الجو النازلة مع اقتراب ساعات العصر. غادر الفندق من دون أن تكون في ذهنه خطة محددة لقضاء الأمسية. أحسّ بالجوع والإنهاك، فيما كان يصعد درجات السلم، الحجري العتيق، للمقهى الشعبي الرخيص المعلق أعلى الرابية المشرفة، مباشرةً، على الميناء الصغير. جلس إلى ذات الطاولة، الخشبية العريضة، التي اعتاد الجلوس إليها في زياراته السابقة للمقهى. شرع في التهام فطائر الرغايف، وارتشاف الشاي الأخضر بالنعناع بتلذذ ونهم. قالت:
– أكون لك بالكامل؛ روحاً وفكراً وجسداً، في طنجة، لا في الرباط، ولا في أي مكان آخر.
ابتسم، وراح يربت على خدها، بحنان وشوق، بباطن كفه. كان يود لو يقطف قُبلةً من ثغرها، لو يمتص شفتيها الممتلئتين بين شفتيه المتيبستين الشائختين، لكنه، وعِوضاً عن ذلك كله، سألها بتجرد وفضول معرفي تافه:
– ولماذا طنجة بالذات؟
– انظر، إنها المدينة المسحورة التي تزوجت بالعالم كله؛ شرقه وغربه، وشماله مع جنوبه. تجلس على شاطئها، وقد يسعدك الحظ وتكون السماء صافية، فترى بالعين المجردة إسبانيا، ومن ورائها فرنسا، أوروبا يا عزيزي! تدير وجهك للجنوب، فترحل باتجاه أفريقيا، الصحراء والأحراش! أما ناحية الغرب، فتلك حكاية أخرى؛ صخرة هرقل وبحر الظُلمات، نهاية العالم ومبتدأ الضياع، والبعث الذي دشّنه “كولومبوس” للبشرية!
– وحين تزوجت العالم، ماذا أنجبت؟
رد عليها، مداعباً ومناكِداً. أغرقتْ في الصمت لدقيقة، أشاحت فيها بعينيها بعيداً عن عينيه، ثم همست بعمق، وبصوتٍ يأتي من طبقة القرار:
– أنجبَتني أنا، فهل أعجبك؟
شعر بحاجةٍ ضاغطةٍ إلى البكاء، إلى الانخلاع من جاذبية المكان والزمان، وإلى الانفلات من ثقل الوجود بهشاشته المؤلمة. لو يقدر لاختار أن ينسرب متخارجاً عن المجرة، بل عن الكون الذي يبتلع المجرة بين شدقيه، ويرعد طالباً المزيد، لكنه قدر الإنسان أن يغطس، حتى عقبيه، في حَمَأة التمسرح الكوني، المُبتَلى بغواية الصورة والرمز، لآلهةٍ لمّا تبلغ، بعد، سنَ الرشد!
من بعيد، بلغت أذناه جملة موسيقية كان يعشقها، ويمقتها، منذ صباه، منذ رحيل أبيه عن البيت الكبير، بكاء أمه، المستتر، على بختها وقسمتها. في مقهى على رابية صغيرة، عند الطرف الأقصى، الغربي الشمالي، للقارة، شرعت “أم كلثوم” في الغناء الحزين، مؤكدةً أن الميعاد قد فات. ارتسمت ابتسامة، مُرّة، على شفتيه. أخرج هاتفه من جيبه عازماً، لآخر مرَة، أن يطلبها . راح يفتش في ذاكرة الموبايل بإصرارٍ، ومن غير استغراب. لم يجد في القائمة، لا اسمها، ولا الرقم!