محمود عبدالهادي
في الضحى، ومثل كل يوم، خرج جودة الخياط من بيته بمدخل حارة المبيضة في حي الجمالية. وقف تحت بوابة الحارة الأثرية المتداعية ونظر إلى ساعة يده وتمتم: يبدو إني تأخرت. وبخطوات صغيرة متمهلة تحرك صوب ميدان باب الشعرية حيث تقع ورشة الخياطة خاصته. لكنه وقبل أن يصل لابد أن يعرج إلى بائعة الجرائد، يبحث عن عدسات القراءة في جيوب بدلته الصيفية التي لم يعد يرتديها أحد غيره، ثم يبدأ جولته الطويلة في تفحص العناوين الرئيسية لكل جريدة. أحيانا تؤلمه ركبتاه من طول الوقفة، فيجلس على الرصيف جوار البائعة التي يبدو إنها اعتادت على ما يفعله فلم تعيره أي اهتمام. وحين ينهي تفحص معظم الجرائد اليومية، يقول بخيبة أمل بادية: الأخبار لم تعد مثل السابق. ويضع أمام البائعة ثمن جريدة لا يأخذها. وبحذر، يشق طريقه إلى الناحية الأخرى من الميدان بين زحام السيارات والضجيج الذي لا ينتهي.
تحتل ورشة عم جودة الدور العلوي لبناية صغيرة من دورين، حجرة بسيطة مربعة الشكل، جدرانها سمنية الطلاء مطعمة حوافها ببروز خشبية ذات لون بني داكن. في الجدار المقابل لمدخل الحجرة يوجد شباك مرتفع قليلا، يُفتح في الصيف استجلابا لنسمات الهواء الباردة ويُغلق في الشتاء لمنعها، تحت الشباك وضع عم جودة ماكينة الخياطة السنجر خاصته، يجاورها رف خشبي رُصت عليه بكرات الخيط ومبخرة عاجية ومتر ورقي صغير.
يبسمل عم جودة وهو يفتح الشباك فتضئ الحجرة كاملة بنور الشمس دون الحاجة إلى إنارة صناعية، يخرج من جيب بنطاله ولاعته العتيقة ليشعل عود بخور ويثبته في المبخرة لتختلط رائحة البخور برائحة النفتالين المنبعثة من أتواب القماش المكومة في ركن الحجرة، وبحركته الحذرة البطيئة يشرع في تنظيف الحجرة بشكل مبالغ فيه، يمسح التراب عن كل الأسطح النظيفة بالفعل، يكنس الأرضية مرتين وأحيانا ثلاثة، ويعيد ترتيب أتواب القماش وبكرات الخيط مرات لا تنتهي حتى يسمع أذان الظهر فيكف عما يفعل وينظر إلى الحجرة برضا ويقول: كده كل حاجة بقت تمام.
بعد أن ينهي صلاة الظهر في المسجد الصغير المقابل للورشة، يجلس على الكرسي الخاص به أمام ماكينته، يضع حول رقبته المتر الورقي، وخلف أذنيه الكبيرتان يثبت قطعة طباشير صغيرة يستخدمها ليضع العلامات على القماش.
بعد أن يستقر في مكانه ويشعر بتمام الأمور، يحاول أن يشغل راديو ناشونال في حجم كف اليد لكنه يرفض أن يستقبل أي إشارة أو أن يصدر أي وشوشة، بملل واضح أخرج الحجارة من ظهر الراديو، الحجارة أوشكت أن تصيح شاكية من كثرة العض الظاهر عليها، لكنه لم يبالي وقرص عليها بضروسه القليلة وأعادها مرة أخرى إلى ظهر الراديو، فأنطلق صوته عاليا مما أفزعه، وكانت أم كلثوم على إذاعة الأغاني تقول: ما ليش غير الدموع أحباب معاها بعيش بعيد عنك.
انفرجت أساريره، أخفض الصوت قليلا ووضع الراديو جانبه وجلس ينتظر.
تمر الساعة في أثر الساعة ولا يدخل زبون واحد إلى الورشة، تنتهي أغنية وتبدأ أخرى ولا يتحرك عم جودة من مكانه، ينظر إلى الباب المفتوح ويستمع إلى الأغاني، يدندن مبتسما مع أغنية ويصمت واجما مع أخرى. لكنه انتبه فجأة إذ سمع وقع أقدام ثقيلة تصعد السلم، تملكه التوتر والارتباك من أن يكون زبونا، وتظاهر بالانشغال بقطعة قماش أمامه، حتى جاءه الصوت مناديا من على السلم: محصل الكهربا يا عم جودة، فتنهد تنهيدة من خرج من مأزق لتوه، لكن ضاقت ملامحه حين رآه يشغل بجسده الضخم فضاء الحجرة الصغيرة وهو يقول: إيه الأخبار؟
دون أن يرفع نظره عن قطعة القماش: أي أخبار؟
بنفاذ صبر قال المحصل: هتدفع النهاردة يا عم جودة ولا لا؟
– ممكن تديني فرصة لبكرة وأحاول أتصرف؟. قالها بصوت لا يكاد يسمع من شدة الحرج.
– يا عم جودة افهمني، الموضوع مش في ايدي، لازم تدفع المبلغ عشان الشركة متجيش تشيل العداد من الورشة ويفصلوا عنك الكهربا خالص. أنا والله عملت اللي عليا وآخرتهم على قد ما أقدر، بس أكتر من كده محدش هيعرف يفيدك.
– طيب، شكرا يا بني، اقعد أشرب حاجة.
– تسلم ورايا شغل متلتل، مفيش جديد في موضوعك؟
شوح عم جودة بيديه وقال: على حطة ايدك والله.
– لعله خير، همشي أنا وأفوت عليك بكرة يمكن ربنا يكون فرجها.
أصاب عم جودة كدر شديد بعد زيارة ذلك المحصل، أطفأ الراديو وظل ساهما يفكر من أين يمكن أن يأتي بذلك المبلغ الكبير، فكر طويلا دون الوصول إلى حل، ثم تنهد بعمق وقال بصوت منغم: عودي يا ليالي العز عودي.
كان الوقت بعد آذان العصر بقليل، وهو الوقت الذي تأتي فيه الحاجة سعاد بالغداء لزوجها، وكانت –الحاجة سعاد- رفيقة عم جودة في حياة زوجية استمرت ما يقرب الأربعون عاما، رزقوا خلالها بولدين في بطن واحدة، وسرعان ما كبر الأطفال وأظهروا تفوقا دراسيا ملحوظا بناءا عليه حصلوا على منحة للدراسة بالخارج، لكنهم لم يعودوا أبدا، وكان ذلك بمثابة موت بطيء لعم جودة وزوجته الذي كان يقول لها دائما: ضيعنا عليهم عمرنا واستخسروا فينا يوم. لكن ذلك لم يمنعه من التفاخر بهم كلما جاءت مناسبة لذلك.
قالت الحاجة سعاد لزوجها ممازحة: جيبالك الأكل سخن أهو مش زي إمبارح.
– مش جعان، مليش نفس.
– ليه؟ حصل حاجة؟
– محصلش، هو نفس حوار شركة الكهربا.
– لعله خير، مفيش جديد في موضوعك مع الوزارة؟
رد باقتضاب راغبا في انهاء الحديث: لسه معرفش.
سكتت الحاجة سعاد، وسكت عم جودة، وخيم على الأجواء صمت كئيب سرعان ما قاطعته الحاجة سعاد: كنت هنسى! عملتلك الشاي بالقرنفل اللي بتحبه.
وأخرجت ابريق حراري وبدأت تصب له ولها.
في موعده اليومي بعد آذان المغرب أغلق عم جودة الورشة وتحرك هو وزوجته عائدين إلى المنزل، وفي شارع الجمالية وقبل أن يصلوا إلى مدخل حارة المبيضة، توقفوا أمام محل يحمل اسم “القمر للفيديو فيلم” وهو ملك الشيخ قمر صديق العم جودة القديم، وكان فيما مضى رائدا في تأجير وبيع شرائط الفيديو بمنطقة الجمالية قبل أن تندثر تلك المهنة رويدا رويدا.
قال عم جودة لزوجته: اسبقيني أنتي هدخل أسلم عليه وأحصلك.
قالت: بإذن الله خير. وودعته ومشت.
كان الشيخ قمر جالسا ينتظر قدومه بالفعل، أول ما رآه قام مرحبا وقال: مش راضي أقفل المحل غير لما تيجي.
بتوجس تكلم عم جودة: خير؟ عملت إيه؟ سألت لي الراجل قريبك اللي في وزارة الحربية عن القانون الجديد؟
قال الشيخ قمر مترددا: والله يا جودة أنا سألته بس الإجابة مش زي ما إحنا كنا عاوزين.
كان عم جودة في غاية القلق لكنه تماسك وتساءل: مش زي ما إحنا عاوزين إزاي يعني؟
– قال إنك غير مستوفي..
– غير مستوفي!
– أه، غير مستوفي.
بنفاذ صبر وبنبرة حادة: غير مستوفي إيه يعني يا شيخ قمر!
– الشروط!
ولما لاحظ عدم فهم عم جودة ما يعنيه استطرد قائلا: قالوا إن البتر لازم يكون حصل نتيجة إصابة معركة عشان يقدروا يتكفلوا بمصاريف الطرف الصناعي ويدفعوا لك المعاش، أو الإصابة تكون حصلت وقت الحرب على الأقل، لكن أنت حالتك مختلفة، إيدك راحت جوة المصنع وبعد الحرب ما انتهت بسنة!
نزل الكلام على عم جودة كالصاعقة، فلقد امتلئ بالأمل بعد أن سمع بالقانون الجديد وما يمكن أن يفعله لأمثاله ممن دهسهم الميري في الزمن البعيد. لكن ها هو الشيخ قمر يحطم كل آماله بأن يعود كل شيء إلى سابق عهده، الورشة والشغل والمال، مهارته في الخياطة التي قضت عليها الإصابة منذ زمن بعيد.
قاطع الشيخ قمر أفكار عم جودة: تقعد نشرب حاجة ولا أقفل ونمشي سوا؟
بعقل شارد قال عم جودة: لا، هروح أنا عشان مستعجل.
في البيت استقبلته زوجته بفضول لم تستطع أن تحبسه طويلا إذ انهارت عليه بسيل لا ينتهي من الاسئلة وهي تعينه وتساعده في تغيير ملابسه، لكنه تجاهلها تماما، ارتدى ملابس النوم، توجه إلى سريره، نام وغطى رأسه وقال لها بلهجة لم تتبين جديتها من سخريتها: متنسيش تصحيني الصبح بدري عشان ألحق الشغل من أوله.