حاوره : محمود بركة
في ظلّ حرب الإبادة على غزة منذ أكتوبر 2023، تحضر اللغة عاجزة عن استنطاق الفكرة والحالة، وإدراك المعنى يكون حاضراً، الفن في معناه يجعل العالم مختلفا، وكيف بيوميات ولوحات فنان تشكيلي في غزة ومنها، فيها ولد وعاش حياته فناناً تشكيلياً على أوراق اختلفت مقاساته.
صوت من غزة منفرد بلوحاته وعالمه الفني التشكيلي يكتب اللوحة ويرسمها بالأبيض والأسود، وبالألوان قبل الحرب، وبعد الحرب على غزة صارت اللوحات: حبر وورق ويوميات تشكيلية يرسمها الفنان ميسرة بارود، قبل النزوح من مكانه بعدما قصفت قوات الاحتلال بيته ومرسمه الذي يضم لوحات قديمة وثمينة ونادرة، ظلت غزة في يومياته هي الحياة والأمل رغم الحرب المستمرة والإبادة غير المسبوقة.
الفنان التشكيلي ميسرة بارود: أستاذ ومحاضر جامعي في كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى والكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا بغزة، فنان تشكيلي له العديد من المشاركات الدولية والمحلية والأعمال الفنية والمشاريع التي قدمها في ستة معارض فردية خاصة، يعيش بقلب فنان يرسم ويشكل وجدانه وما يحيطه وما تلمسه الحواس والمشاعر، يرسم رغم الحصار والنزوح والتهجير المستمر.
1- البدايات الأولى وصولاً إلى لوحات شاركت في العديد من المعارض العالمية والمحلية؟ كيف كانت النشأة والانطلاقة التشكيلية؟
البدايات الأولى كانت كشخص اكتشف موهبته وحبه للرسم مبكراً، في المرحلة الدراسية الثانية ولاحقًا بدأت الاهتمام بتنمية هذه الموهبة وصقلها من خلال دورات في جمعية الشبان المسيحية بغزة في العام 1992، ومن ثم الدراسة الجامعية كتخصص حيث التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية عام 1993، وحصلت منها على شهادة البكالوريوس، وأكملت دراستي ملتحقا بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، وحصلت منها على شهادة الماجستير.
البداية من جمعية الشبان المسيحية، وكان أول مشاركة في معرض عام 1992 وتلتها جميع معارض كلية الفنون ومشاركات محلية ودولية عدة تجاوزت الآن الخمسين مشاركة في أكثر من عشرين دولة تخللها إقامة ستة معارض فردية خاصة
2- “لم يكن بيتاً فقد كان وطن صغير لا تقل (ركام) بل حياة وروح وذكريات” هذا ما كتبته في أيام الحرب الأولى، لحظة يتحطم فيها مرسم الفنان وفقدان بيته؟ وما بعدها وأنت تشاهد العالم الخاص بك على شكل ركام، كيف تعبر عن ذلك؟
في اليوم الثاني للحرب قصفت طائرات الاحتلال برج الوطن وفيه مكتبي الخاص، وفي مساء اليوم الثالث قصفت الطائرات بيتي الذي أسكن فيه مع أخوتي، والمكون من خمسة أدوار، وكان يأوينا جميعاً وفيه مرسمي الخاص
اعتاد الجميع على تداول كلمة “ركام” للتعبير عن أنقاض المنازل التي تستهدفها طائرات الاحتلال، أعتقد أن هذه الكلمة تحمل الكثير من القسوة إذا اعتدنا عليها، لا يمكن أن نختصر ذكريات وطفولة وحياة كانت بين جدران هذه المنازل، لا يمكن أن تصبح اللحظات والساعات التي كنت أقضيها في مرسمي بين لوحاتي وأدواتي وكتبي في كلمة “ركام” ، لقد كان عالمي الصغير؛ فيه أحلامي وذكرياتي ومقتنياتي وتجاربي، لقد كان عالمي الواسع في فضاء غزة الضيق، كان ملجأي الآمن الذي فقدته حين قررت طائرات الاحتلال أن تنهيه.
3– قلت اللغة عاجزة عن الوصف، في عالم الفنان وروحه اللغة هي حياته وأرضه، مع بدايات الحرب بدأت برسم مجموعة من اللوحات بعنوان “معلش” ماذا تقول اللوحات؟ وكيف يستنطق الفنان ميسرة الواقع على ورق؟
منذ أن بدأت الحرب وفي يومها الأول كنت أتلقى رسائل من الأصدقاء، تسأل عني لتطمئن وكنت عاجزاً عن الرد في البداية لهول الصدمة وحجم الكارثة أولاً.. وحين نزحنا للمرة الأولى وتركنا غزة أصبح الاتصال والتواصل أكثر صعوبة بسبب انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات والإنترنت فلجأت للرسم كنافذة أتنفس منها بعد يوم شاق في تلبية احتياجاتي والتزاماتي الأسرية
كنت أرسم وأنشر ليطمئن الأصدقاء أنني لازلت حيا وكانت مواضيعي من واقع ظروف تمر بنا من أحداث يومية في وداع الأصدقاء والدمار، أطلقت اسم “معلش” على مجموعة من الاسكتشات متأثراً بكلمة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، بعد أن أفقدته طائرات الاحتلال أسرته ، ولم يجد سوى كلمة معلش مختصراً فيها كل الخطابات التي ممكن أن تقال في مثل هذه المناسبة ، ومعبرا فيها عن صبر ممزوج بالقهر والألم، كان للكلمة معنى عميق يحمل الكثير من الدلالات فأطلقت على المجموعة الأولى اسم (معلش)
4- اللوحات التي تقدمها خلال الحرب ممتلئة بالتفاصيل و”الركام” ولعله جزءا يأخذ مساحة من نضوج الفكرة حتى وصولها! عابرة من الأرض والمباني إلى ورق الفنان ميسرة، كيف ترى ذلك الواقع ومساحته في حياتك وأنت تعيش الحرب؟؟
الركام (مع تحفظي على الكلمة) يبدو إنه السمة السائدة في الحرب على غزة، لقد شوهت الصواريخ ملامح غزة الجميلة وغيرت معالمها، وأصبحت غزة من شمالها لجنوبها عبارة عن كومة من الركام التي سقط أسفلها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، لقد صبغت غزة وفضاؤها بلون رمادي فمن الطبيعي أن يكون الركام حاضراً في أعمالي، لأنها تعبر عن أحداث تمر بنا، وواقع محيط فأينما وجّهت نظرك لن ترى سوى الركام..
5- هناك ما يعرف بأدب المقاومة، وأيضاً فن المقاومة، وفي غزة أصوات فنية مختلفة متعددة! كيف ترى شكل الفن التعبيري عن الحرب مابعد انتهائها؟
مما لا شك فيه أن للأدب والفن الفلسطيني دور رئيس في المقاومة الفلسطينية منذ النكبة وحتى الآن، والكثيرين من الفنانين تشغلهم القضية الفلسطينية بشكل خاص والقضايا الإنسانية بشكل عام، ولكن بعض الأعمال الفنية التي تنتج لأصحابها تكون كرد فعل على حدث ما (كحرب غزة)، وأعتقد أن هذا الحدث سيكون فارقا لدى جميع الفنانين، وكل بأسلوبه وأدواته سيتناول المواضيع المختلفة التي تتعلق بحرب غزة والمعاناة الفلسطينية بشكل عام، أعتقد أن الحرب ستكون حاضرة في الكثير من الأعمال الفنية، وسيتم تناولها بمواضيع مختلفة مباشرة وغير مباشرة، أنا أتابع إنتاجات الكثير من الفنانيين الأصدقاء الذين انتجوا اعمالاً متأثرين بما نمر به من كارثة عظيمة، وأرى في إنتاجهم تحولاً كبيراً يعيدنا إلى ما كان ينتجه الفنانيين في سنوات ما قبل أوسلو.
6- هناك رؤى متعددة للفنان ميسرة داخل فنه! ما هي الرؤية التي ينظر إليها الفنان في الحرب وواقعها اليومي وهي حرب لم تعشها فلسطين من قبل بهذا الشكل وهذا التدمير؟
تناولت في لوحاتي وأعمالي الفنية مواضيع عدة تناقش قضايا إنسانية بشكل عام وقضايا فلسطينية بشكل خاص، إذ أن مواضيع الأسرى وحرية الحركة والتنقل وجدار الفصل وسرقة الأراضي وعلى رأسها قضية القدس والتهويد وممارسات الاحتلال وبطشه اليومي بنا هي التي أدت إلى الحرب أو المقتلة التي نعيشها حاليا، مخطئ من يظن أن الحرب على غزة، أو فصيل بعينه، الحرب تستهدف الكل الفلسطيني، وما يحدث في غزة الآن هو امتداد لما يحدث بشكل يومي في مدن الضفة، منذ عام 1948 ونحن نعيش نفس الظروف، لذا لم تختلف الرؤية في طرح الموضوعات كثيراً سوى ببعض المعالجات لشكل اللوحة ودخول بعض المفردات الجديدة (القديمة)
7- لماذا الأبيض والأسود بالتحديد في العديد من لوحاتك على الرغم من جود أعمال فنية مختلفة بالألوان؟
الأبيض والأسود وما بينهما ربما أصبح هذا ما يميزني عن غيري من الفنانين، ولا أخفي أن لدي العشرات من التجارب والأعمال الملونة التي لم أشاركها سوى مع مجموعة صغيرة جدا ومحدودة من الأصدقاء. الأبيض والأسود هما نقيضان يتصارعان احيانا في فضاء اللوحة وأحيانا ينسجمان، الأبيض والأسود هما حلمك وطموحاتك وما تأمله في الحياة من جهة والواقع المرير الذي تعيشه بفعل آلة الحرب والغزاة من جهة أخرى.
8- لعل التعبير عن مفردات الحرب يحملها كل فلسطيني في غزة، فكيف ترى الحرب بوجدانك التشكيلي؟
أعتقد أن مفردات الحرب سمة سائدة لدى كل فنان يعيش مثل ظروفنا وليست مقتصرة على غزة فقط، ولكن لا يمكن أن نتناسى بان لتلك المفردات مرادفات (السلام والحب والأمل والحرية) التي نأمل أن يعم ونحلم أن نعيش في واقع لا يوجد فيه القتل والدمار وإن ينتهي الاحتلال ويزول
9- كيف ينظر الأبناء في الحرب إلى لوحاتك، وما رسالتك إليهم؟
في البداية كان الاستهجان حاضراً، وكان التساؤل الدائم عن مغزى أن أقضي ساعات في الرسم، وكيف أستطيع التركيز في الرسم في ظل الأجواء الصعبة التي لم نعتد عليها، كيف أستطيع الرسم وأنا لا أمتلك سوى قلما وورقة، ولا حقا أبنتي ريتا قالت لي “أنا بحسدك على اللي بتعمله وقدرتك على الفصل والغرق في الرسم” كنت أرسم وهم نيام كحارس ليلي، وفي الصباح أعرض عليهم ما قمت بعمله أثناء نومهم، كنت أشاركهم لوحاتي وانتظر تعليقاتهم، وكانت رسالتي لهم بأن لا يتنازلوا عن أشياء أحبوها وأن أصعب الظروف لا يمكن أن تنتزع منهم هذا الحب.
كلمة أخيرة من واقع غزة إلى العالم
غزة مدينة جميلة، وستظل كذلك رغم ما حل بها من دمار وقتل، غزة مدينة عصية وأهلها يحبون الحياة، ويسعون لنيلها كريمة وأطفالها يستحقون أن يعيشوا في سلام كغيرهم، وعلى جميع أحرار العالم أن يسعوا لإيقاف المقتلة ولجم المحتل..