محمد الكفراوي
من القراءة الأولى لديوان “غرب الحب الميت” للشاعر أحمد سراج، الصادر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب، يتجلى التنوع في مصادر الإلهام بين التاريخ والواقع، بين الأسطورة والحياة اليومية، وكأن كلاهما يكمل الآخر بطريقة غامضة، وتتداعى الصور والتشبيهات والرؤى في إطار من التوافق حول معنى عام يريد الشاعر توصيله للمتلقي تدريجيا، وهو مقاومة اليأس وعدم الاستسلام لشروط الحياة الضاغطة، والتوجه إلى داخل الإنسان، لمعرفة حقيقة القدرات التي يمتلكها ويمكنه من خلالها تغيير الكثير من ملامح الوجود المادي والروحي معا، سواء عن طريق اكتشاف قدراته الذاتية أو تطويع طاقات الوجود لصالحه.
بداية من العنوان “غرب الحب الميت” تنهال المفارقات اللغوية والدلالية في القصائد لتصنع حالة من الحوار الذهني بين المبدع والمتلقي، ما يثري النص ويمنحه بعدا حيويا، ربما بقصد مشاركة المتلقي في النص، كأن الشاعر يصنع نصا تفاعليا، وهو ما يمكن اعتباره امتدادا لمفردات الحياة الحديثة أو وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها على الإبداع.
الديوان الذي ينتمي للشعر الحر أو قصيدة التفعيلة يتضمن عدة قصائد تتناول الأساطير التاريخية والحكايات القديمة سواء قصة أوديسيوس وحبيبته بينلوبي أو أسطورة ميدوزا أو ملحمة جلجامش أو غيرهما من الروافد التاريخية المثيرة للخيال، خاصة ما تمثله قصة جلجامش الباحث عن الخلود من معنى فلسفي عميق وهم إنساني مقيم.
تبدو المعالجات الفنية للقضايا المختلفة في الديوان مغلفة بالتشاؤم والحزن أو النظرة المأساوية الناتجة ربما عن شعور مسبق بالهزيمة أو الياس أو الحزن المسيطر على روح النص، ما يعطي انطباعا عاما بأن الديوان يعالج قضايا فكرية أو روحية او فلسفية يحاول إعطاءها الطابع المادي من خلال إسقاط معانيها على قصص بعينها، سواء كانت قصصا لها روافد وأبعاد تاريخية أو أسطورية، أو كانت قصصا من وحي الحياة اليومية المعاصرة.
منذ بداية الديوان يطرح الشاعر رؤية أخرى للأسطورة أو للحكاية التاريخية بأبعاد جديدة وكأنها يعيد صياغتها شعريا أو ينبه إلى ما يمكن أن تكون عليه الأسطورة من وجهة نظر أخرى، فالقصيدة الأولى “لا عودة” تم تذييل الجملة الافتتاحية لها بأنها من رسائل أوديسيوس التي لم تحملها الطيور، فهو إذن يطرح المخفي والمسكوت عنه، أو ما كان يجب أن يحدث أو يقال ولم يتم ذلك في الحقيقة، وفي هذه القصيدة يبدو الحس الرومانسي والطابع العاطفي هو الأكثر وضوحا:” سأفرّ كثيرا ولا بيت لي/ غير عينيك / بئر نجاة/ وحضنا وسيعا/ ومرسى أخير.” كأن أوديسيوس يلجأ لحبيبته بينلوبي باعتباره الحصن الأخير الذي سيحميه من الفناء.
وتستمر الطريقة نفسها في طرح المسكوت عنه او إعادة صياغة الملاحم الكبرى، فيتم تذييل الجملة الافتتاحية لقصيدة على مذبح الخلود بجملة “مما كتبه أنكيدو لجلجامش ولم تثبته الملحمة” في محاولة أخرى لإعادة صياغة الملحمة بطريقة شعرية يسرب من خلالها الشاعر معان وأفكار مختلفة تتعلق بالخلود: “لا تعطني دمع الوداع/ لا تعطني ملح السلام المستعار/ لا تعطني/ خيباتنا الكبرى لترعى في بقاء / لا يكون.”
وينتقل الشاعر إلى مستوى آخر من التصوير، من خلال طرح الأسئلة الوجدانية بالدرجة الأولى والأسئلة الدائرية كما في قصيدة “آسف جدا التي يقول فيها “ما جدوى الدمع بلا حزن؟ / ما جدوى الحزن بلا فعل؟/ ما جدوى الفعل بلا وقت؟ / ما جدوى الوقت بلا حال ؟/ ما جدوى الحال بلا قلب؟ / ما جدوى القلب بلا دمع ؟ ” فالأسئلة تبدأ بالدمع وتنتهي به وكأن السؤال الأول تكمن في طياته الإجابة الأخيرة، ما يعطي للحزن والبكاء مساحات كبيرة في عمق النص لتعبر عن طبيعة الحالة الشعورية للكاتب.
وفي قصيدة طللية يستعيد الشاعر التراث العربي والشعر القديم وتحديدا معلقة امرئ القيس كبكائية على الحال العربي بشكل عام فيقول في نهاية القصيدة “لماذا نجمنا العربي غاض نواره / لماذا حزننا العربي فح أواره / لماذا طفلنا العربي يتلو / قفا نبك / قفا نبك.”
وفي قصيدة “معارك عدم” تتداخل الأساطير مع الواقع مع الخيال مع الحس المأساوي الذي يسيطر على الكثير من قصائد الديوان: “جلس الحكاء الموهن/ غرب الحب الميت / يذكر أخوته الهلكى / يبكي / فتجيب الأمواج / منحورة.”
كما تستدعي بعض القصائد بكائيات للتراث العربي والتراث الإسلامي وخاصة بكائية للحسين، وتتداعى الأفكار التي تشير إلى تلك البكائيات بطريقة عفوية وكأنها تتحدث عن أمثولات راسخة في الأذهان.
ويبرز الحس الصوفي في قصائد الديوان الأخيرة ومنها “مدد” التي يبدأها الشاعر بعنوان فرعي “حال” وهي مفردة دالة على احوال الصوفية وتجلياتهم على مر الأزمان، ويقول فيها:” متراقصا / لا لحن يتبعه ولا / نغم / متراقصا / لا زجر يردعه ولا / ألم / متراقصا / في الروح منك أثارة/ تنحو بها فوق / العدم.”
وكأنه يصف حال صوفية بمراحلها لامختلفة حتى تصل إلى درجة من الوجد والسمو الروحاني والتجلي النوراني يجعله يرقص بلا نغم و ولا يشعر بألم وفي النهاية هو يطوف فوق العدم.
يراهن الشاعر في هذا الديوان على عناصر بلاغية ومفردات لغوية فريدة وقد تكون مهجورة أو منحوتة، ما يعطي للصور التي تحملها تلك المفردات والعناصر البلاغية والسمات الأسلوبية طابعا خاصا يرتبط بالدرجة الأولى بروح النص الشعري وبوعي الشاعر وقدرته على توصيل الأفكار بطريقة تتداخل فيها الأسطورة والتاريخ والملامحم الكبرى والميراث اللغوي والبلاغي الفريد.