ترجمة: سعيد بوخليط
قد تبدو مسألة دراسة خيال مفكر مثل نيتشه،كما لو أنها عدم معرفة بالدلالة العميقة لنظريته.ذلك ، أن التحويل النيتشوي للقيم المعنوية،يتعلق بالكائن في كليته،ويتطابق بشكل دقيق جدا مع تحول للطاقة الحيوية.دراسة،سياق كهذا،من خلال اعتبارات حول ديناميكية المتخيَّل،يعني أخذ الصدى كصوت،ثم الصورة بدلا عن القطعة النقدية.
مع ذلك،اقتنعنا شيئا فشيئا نتيجة فحص عميق للشعرية النيتشوية،وقد دُرست بوسائلها التعبيرية،بأنّ الصور التي أثارت بطريقة منفردة جدا أسلوب الفيلسوف،لها مصيرها الخاص.بل اتضح لنا،تطور بعض الصور وفق مسار دون تنميق، وبسرعة مذهلة. ربما انطلاقا من ثقة مفرطة بأطروحتنا عن القوة الأولية كليا للخيال الديناميكي،أعتقد بكوننا تمثَّلنا نماذج يتأتى وفقها الفكر نتيجة سرعة الصور تلك.
إذن،وقد انحصرت تقريبا بكيفية استثنائية عند دراسة قصائد العمل الغنائي :هكذا تكلم زرادشت، سيتبلور الدليل حسب تصوري ،في أن الشاعر لدى نيتشه يشرح في جانب منه، المفكر،وأيضا يعكس نيتشه نموذجا للشاعر العمودي،شاعر القمم والصعود.بشكل دقيق جدا،مادامت العبقرية صنفا يؤسسه فرد واحد،فسنوضح أن نيتشه أحد الأنماط النوعية للخيال المادي،وأكثرها جلاء.لاسيما،حين مقارنته ببيرسي شيلي،ندرك حينها بأن الانزياح صوب القمم،قد يكشف عن مصائر مختلفة جدا.
يجسد شاعران، مثل شيلي ونيتشه– سنوضح ذلك- نموذجين متناقضين ، رغم استمرار وفائهما المطلق للديناميكية الهوائية.
لنبحث أولا في السمة الهوائية، التي ننسبها إلى خيال نيتشه.من أجل هذا، وقبل الوصول إلى البرهنة على أطروحتنا،التي تستعرض حياة الصور الهوائية،وقوتها الخاصة،ضمن قصيدة نيتشه،سنقارب أولا عن الميزة الثانوية لصور الأرض والماء والنار ضمن شعرية نيتشه.
* نيتشه والأرض :
نيتشه ليس بشاعر الأرض.فالتربة العضوية والصلصال،وكذا أتربة الحقول المفتوحة والمحروثة،لا توفر له صورا.تلك المواد التي يعشقها ”الأرضي” في ثرائها الباطني مثل الفولاذ، المعدن، والأحجار الكريمة،لاتمنح نيتشه تأملات شاردة حميمة.يتواتر في الغالب الحجر والصخر، بين صفحات كتاباته، لكن فقط كرمز وحيد للصلابة؛ ولاتستدعي شيئا من تلك الحياة البطيئة، الأكثر بطئا قياسا لمختلف الحيوات – الحياة المتفردة ببطئها- التي يضفيها عليها التأمل الشارد للأحجار الكريمة.لايمكث الصخر،عند نيتشه،مثل مطاط فظيع منبثق من منافذ الأرض.
الأرض اللينة لدى نيتشه،موضوع يثير الاشمئزاز(هكذا تكلم زرادشت،ترجمة ألبير ص 188،”الوقائع الكبرى”)،مثلما يحتقر “الأشياء الإسفنجيَّة، الخاضعة والمنحصرة!” ، سيعترضون علينا،بخصوص هذا المثال،الذي يستحضر أشياء،بينما يتطابق مع أفكار بناء على الحقيقة النفسية؛ نظنها فرصة جيدة بغية البرهنة فورا على ابتذال دراسة حول مجازات منفصلة عن غاياتها.
مع ذلك، فنعت إسفنجي صورة موحية جدا عن أعماق الخيال، يكفي فقط تشخيص الخيالات المادية.إنه اختبار حقيقي، لأكثر الأشياء يقينية :وحدها روح شغوفة بالأرض، وحده أرضي لامسه المائي قليلا،يفلت من خاصية مُحَقِّرة على نحو آلي لمجاز الإسفنجي.
أيضا، نيتشه ليس بشاعر ”المادة”، بل الحركة، أو بالأحرى مثل تجلٍّ للخيال الديناميكي، بدل الخيال المادي الذي نتوخى تفحصه.ستمنحه إذن الأرض، في كتلتها ولاسيما عمقها، تيمات للفعل، لذلك نعاين بين طيات عمل نيتشه،كثيرا من الإحالات على حياة تحت أرضية.تمثل في نهاية المطاف، فاعلية تحت- أرضية. ليست اكتشافا حالما،أو سفرا مذهلا كما الحال بالنسبة لخيال نوفاليس Novalis . حياة فعالة، فقط ديناميكية، ذات شجاعة وتهيئ طويلين،تعكس رمزية صبر مهاجِم، ثابت ويقظ.هكذا ،يدرك نيتشه غايته حتى في العمل التحت-أرضي، بحيث لا ينقاد سلبيا وراء تلقين معين، بل يظهر مباشرة فعالية في مواجهة الأرض.
في خضم أحلام كثيرة، يدور الحالم القلق وسط متاهات. نقف على أمثلة كثيرة، بخصوص تجربة المتاهة،في الرواية المعنونة ب (Das Heinweh)،لمؤلفها يونغ ستيلينغ. نص سيحظى بمكانة ضمن اختبارات العناصر الأربعة،نحو وجهة هذا العنصر أو ذاك. مثال جيد، عن قاعدة المبادرات الأربعة، من خلال )النار، والماء، والهواء، والأرض(،نود إضافته إلى تنوعات رباعية الخيال المادي التي عملنا على تجميعها في دراساتنا السابقة.
غير أنه بخصوص نيتشه،لا يمكن إخضاعه لتوجيه معين،بحيث يظل دائما المعلم الأول والمطلق،ولا يتعلم شيئا من أيِّ شخص.
تحت الأرض، متاهته مستقيمة، قوة سرية تتقدم، تصنع مسلكا خاصا بها. لا شيء ينعرج، أو يتأتى بغير تبصُّر.لذلك، سيحتقر نيتشه حيوان الخُلْد، بشكل مضاعف.
لقد أدرك نيتشه،سلفا في جوف الأرض،وبناء على معطيات تأويله لما هو تحت الأرض :”صيغة سعادته :نعم، لا، خط مستقيم، ثم هدف”(1).
*نيتشه والماء :
ليس نيتشه بشاعر الماء.حتما،لا تغيب عنه صور الماء،مادام يصعب على أيِّ شاعر عدم الاهتمام بالمجازات السائلة؛ غير أنها تتسم عند نيتشه، بكونها عابرة؛بحيث لاترسم تأملات شاردة مادية.أيضا، يعتبر الماء ديناميكيا متذللا جدا؛ بحيث لايمكنه أن يشكل عائقا حقيقيا، وخصما عنيدا أمام محارب نيتشوي.
هكذا سرعان،ماتغلب نيتشه على عقدة زركسيسXerxès،والتي لا يمكنها قط أن تخلِّف أثرا عند شاعر كوني جدا مثله:
تشعرين أيتها العواصف المتقلِّبة
بفورة غضب نحوي؟
تبعثين كثيرا من الحنق؟
سأضرب، بمجدافي رأس جنونك.
كم هي صلبة وهادئة، “ضربة المجداف” ضد الانفعالات الثانوية، والبواعث المضطربة، وزَبَدٍ لاطائل من ورائه!مجرد ضربة مسطرة على أيادي متمردة، تعيد التلميذ إلى الطريق القويم.باللغة نفسها، يخاطب على الفور، نيتشه سيد ذاته والعالم،الواثق من مصيره، تلك العواصف المتمردة والصاخبة :
ستقودين هذا القارب صوب الأبدية.
أي نحو السماء، لكن ليس وفق الانعطاف المطمئن للحالمين المُهَدْهَدين،الذين ينتقلون بلا إحساس من الماء إلى الرياح؛بل ينطلق هنا النظام والحركة مثل إشراقات.
ستظهر خلال أيام الاسترخاء- النادرة- الصور الكبرى للأمومة الكونية.تمثل فواصل زمنية، قياسا للصور الديناميكية التي ينبغي لنا تمييزها.إذن، يعكس الماء،بالنسبة لشخص كوني، لحظة سكينة وحليب منعش.في هذا السياق، جاءت التسمية التي وظفها نيتشه : ”أبقار السماء”،كي يستخلص منها حليبا مغذيا ونافعا للأرض.
الحاجة إلى نعومة الماء وكنفه، تضمنتها القصيدة الأخيرة للمجموعة الشعرية،التي تحمل عنوان : (apud Ecce homo)(ترجمة ص 287).
انسابت عشر سنوات
ولم تلمسني قطرة ماء،
لاهواء رطبا،ولا ندى للحب
أرض محرومة من المطر
………………….
أرض محرومة من المطر.
لقد ولَّت عن جبالي
ثم أجذبها اليوم كي تأتي :
أحيطيني ظلمة بضروعكِ !
سأحْلُبُكِ يا أبقار المرتفعات
حكمة دافئة كالحليب،وندى عشق عذب، سأصُبُّكِ سيولا فوق البلد.
يفيد هذا الاسترخاء،وبالتالي المكافأة الأنثوية – بعد عشر سنوات من البرد والعزلة الخاصة – في بلورتها نقيضا لدراما التوتر.إنها ليست بتأمل شارد ديناميكي أولي.
عندما نفهم جيدا،بأن الكون النيتشوي، فضاء للمرتفعات، سندرك أيضا بأن السماء مأوى هذا الماء المهدِّئ. عند نيتشه، مثلما التصور بالنسبة للأسطورة الأولى،يجسد بوسيدون(إله البحر والعواصف) السماء. ف”الأصول”،نادرة داخل الكون النيتشوي.
لم يتجاوز قط، عنصر الماء، سلطة الانفراج.بمعنى ثان ،لم يكن أبدا إغواء نحو الموت والتحلُّل.كم كان واضحا،رفض نيتشه للكون السوداوي!كون غائم بالسحب والمطر!” اللعبة الرديئة لسحب تنتقل، عبر السوداوية المبلِّلة، السماء الغائمة، والشموس المسروقة، ورياح الخريف المزمجِرة”.
“اللعبة الرديئة لصيحاتنا وكذا صرخات معانتنا”. (2)
كيف لانرصد هنا،ونستحضر ونفضح،تلك السوداوية الفظَّة وقد أبانت الشفة السفلى، الرطبة والقلقة، عن ازدراء سلبي، وبلا هوادة، لعالم تراخى كلية. لقد كتب نيتشه ، ضد السوداوية الأوروبية(ضمن فتيات الصحراء،هكذا تكلم زرادشت) :
”لأنه انبعث بجوارهن، من الشرق هواء نقي ومضيء.هناك،كنت أكثر بعدا عن أوروبا الشائخة، الغائمة، الرطبة والسوداوية”.
نتبيَّن على امتداد صفحات عديدة، احتقارا للمياه الراكدة.مثلا، سيقول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت،عن كائن المستنقع: “ألا ينساب حاليا، بين أوردتك الخاصة،دم المستنقعات الفاسد والرَّغْوي”.
يمكننا بالتأكيد، أن لانرى هنا سوى تعابير مشتركة،دون التساؤل لماذا تحتاج الأفكار لهذا التصوير الملموس، وتختار هذه الأشكال.بمعنى ثان، نرفض أن نعيش الخيال المادي، ضمن وحدة صوره المدهشة. نخطئ إذن، بخصوص نبرة الصفات.لنستدل على ذلك :ضمت أوروبا الشائخة، بلدانا مضاءة، جافة وسعيدة.في المقابل،تعبر سحب صحراء الشرق،لكن المفكر المتأمِّل حكمة مناقضة لمثيلاتها الأوروبية، شرقية أو بشكل دقيق حكمة شرق جديد، يدرك مع تحيزه الفعال إلى الخيال المادي،بأنها سحب ليست غائمة لصحراء تعيش وسط هواء نَيِّر ومعشوق.
أيضا،الماء الذي يهطل على القمم النيتشوية، ليس مائيا؛ والحليب المستخلص من أبقار السماء، ليس لَبَنِيّا ولاحليبيا ،فهي أبقار ديونيسوس. نتناول هنا تحديدا،نموذجا يبدو لنا جديرا للغاية كي يجعلنا نفهم أطروحاتنا العامة.
ما نريد البرهنة عليه عموما،ضرورة قياس مادة صفة كي نكتشف حياة اللغة المجازية،مع وجوب الاحتراس،من الاعتقاد بأن خيال الصفة كما تبدو ظاهريا،يقود آليا نحو خيال الموصوف.ينبغي،حتى ننتقل من إحساس بالرطوبة إلى ماء متخيَّل، الامتثال للخيال المادي،لكن لدينا في هذا الإطار ألف دليل على أن الخيال النيتشوي، لايمنح انتسابه الجوهري إلى صفات الماء،و لا يرتشف الحليب المغذِّي، ويحتقر جدا : ”الذين تأتت روحهم من مصل اللبن”.
تمكننا وجهة نظر الخيال الديناميكي،كما الخيال المادي،من استبعاد كل امتياز يمنح للخيال المائي.كي نرى ذلك،يكفي تأمل الاعتراضات،التي وجهها نيتشه إلى موسيقى ريتشارد فاغنر(نيتشه ضد فاغنر، ترجمة. ألبير، ص 74) ،منتقدا بهذا الخصوص،مسألة: “قَلْبها شروط الموسيقى الفيزيولوجية “.بدل السير والرقص – تطلعات نيتشه – نُستدعى هنا، كي نسبح ونحلِّق.. ،مع :”لحن فاغنر اللانهائية… نلج البحر،تضيع رِجْلنا شيئا فشيئا،غاية استسلامنا إلى رحمة العنصر :ينبغي أن نسبح.يجدر البحث عن شيء ثان، بسبب الإيقاع الخفيف، والاحتفالي وكذا المحتدم للموسيقى القديمة من خلال حركتها، المتوقدة والبطيئة في الآن ذاته، يلزمنا أن نرقص”.
يضيف كذلك، المَشَّاء،رجل الارتقاء :” قبل كل شيء، تلتمس أطرافي السفلى من الموسيقى، نشوات توفرها مشية جديدة، خطوة، وثبة تم استدارة”.ينعدم مختلف ذلك،في مباهج الماء،وكذا رمزية الخيال السائل. بالتالي،يحتفظ خيال نيتشه المادي بحقه،كي يعطي جوهرا إلى صفات الهواء والبرد.
نصل كذلك،فيما يتعلق بهذه النقطة الخاصة، إلى خلاصة سجالية نود صياغتها بشكل عابر: بخصوص من يعترضون علينا، لأننا نمنح أهمية كبرى للخيالين المادي والديناميكي، نتحول إليهم بعبء الإثبات ثم نستفسرهم لماذا، أمكن لفيلسوف حين مقارنته بين موسيقتين، مقارنة السباحة والمشي،الاستسلام إلى لانهائية البحر وكذا استدارة راقص.بالنسبة إلينا،لاتتجلى أية صعوبة :مادام يخضع كل شيء،لتلك الجدلية بين المنساب والمتدفِّق،إنها جدلية ماء لانهائي ثم نَفَس حي وساخر. تمنحنا الموسيقى لدى نيتشه، حياة هوائية نوعية يفرزها هواء صباحي وضَّاء، موسيقى تسمو بكيفية لا تقبل المقارنة مع أخرى تستسيغ مجازات السائل، والأمواج، وكذا البحر اللانهائي.
*نيتشه والنار :
إنّ البرهنة على أن نيتشه ليس بشاعر النار،أكثر حساسية.مادام الشاعر العبقري ، يستحضر مختلف مجازات كل العناصر.أيضا، تمثل مجازات النار، ورودا لغوية طبيعية. تصادف رقَّة وعنف الأقوال ، نارا تعبِّر عنها.كل فصاحة هائمة، تعتبر ملتهبة.يلزم دائما قليلا من النار،كي تحيا وتنكشف، باقي مجازات العناصر الأخرى.القصيدة،المتعددة الألوان، شعلة تتلوَّن بمعادن الأرض.نراكم إذن بسهولة،وثائق عديدة حول النار النيتشوية. لكن حينما ننظر إليها عن قرب أكثر،سنلاحظ بأنها نار غير جوهرية حقا،أو العنصر،الذي يتخلل خيال نيتشه المادي،ويطبعه.
بالفعل،النار حسب الصور النيتشوية، قوة أكثر منه مادة، ستلعب دورا بالنسبة لخيال ديناميكي نوعي جدا،نتوخى تحديده بشكل خاص.
إن أحد أهم الدلائل،عن الخاصية الديناميكية أساسا للنار النيتشوية، كونها لحظية في جل الأحيان :النار النيتشوية، شعاع صاعق. انعكاس، لغضب إلهي ومرح.غضب، فعل خالص! الضغينة، مادة تتراكم.الغضب، تصرف يتأجل.الضغينة،غير معروفة لدى النيتشوي.على العكس، كيف بوسع فعل أن يكون حاسما، إذا لم يكن نافذا، بمعنى يبعثه غضب صغير،غضب إصْبع.غضب نيتشه مباغت جدا، في خضم سياق تكون خلاله الطاقة أمام مهمة مزعجة، إلى درجة أن النيتشوي ليس مُهَدِّدا. الكائن،الذي تمضي منه الصاعقة،يمكنه أن يخفي بهدوء أفكاره (أشعار ص، 207) :
ذاك من سيشعل خلال يوم ما، الصاعقة
عليه مماثلة سحابة لفترة طويلة.
الصاعقة والنور،بمثابة سلاحين أبيضين حادَّين(ص222.) :
لقد انطلقت حكمتي مثل وميض،
واقتحمت بسيفها من الماس، كل الظلمات.
بدل نور بيرسي شيلي، الذي يغمر ويلج بمادته الناعمة، روحا نيرة، فالنور النيتشوي بمثابة سهم وسيف. إنه يمنح جرحا باردا.
بالتلازم، حينما يتم امتلاك النار كمجرد مادة لمتعة بسيطة ،تغدو حينذاك ثروة فقيرة، يحتقرها الكائن المتسامي :” انطفئ، أيها الأمل المخادِع “،هكذا خاطبت : “الأمازونية العظيمة والخالدة، غير الأنثوية قط ، لكنها ناعمة مثل يمامة” روحا، صارت ليِّنة نتيجة دفء حميمي.
عند نيتشه، تنزع تلك البداهات القابلة للاستهلاك بكيفية ما، كي تمنح بالأحرى طاقات بدل مواد :
لأنهم فاترون، هؤلاء العلماء!
تسقط الصاعقة في غذائهم
حتى يعتاد فمهم على تناول النار!
تمثل هذه الصاعقة الغذائية، بالنسبة لنيتشه، غذاء مقويا للأعصاب. إنها لاتتناسب مع نار مُدلَّلة، في إطار هضم بطيء وسعيد. ينبغي حسب الثنائية الكبرى، للهضم المتخيِّل وكذا التنفس ، رصد التقييم الشعري النيتشوي، تبعا لقصيدة النَّفَس السعيد والمتوقد.
مقطوعة شعرية رباعية الأبيات،تحمل عنوان :صقيع.وردت في الفصل المعنون ب : “دعابة، حيلة وانتقام”،وهي ديباجة كتابه “لذة المعرفة” :
نعم أحيانا أصنع ثلجا :
إنه مفيد للهضم !
إذا كُنْت ستهضم كثيرا،
آه!كم ستحب ثلجي!.
نفهم إذن، هذا الشتم لآلهة النار(زرادشت،عند جبل الزيتون ) : ”لاأفعل مثل المخنثين، بالتضرع إلى إله النار ذي البطن المنتفخ”.
“أيضا من الأفضل أن تصطك أسنانك،عوض الولع بالتماثيل!هكذا طبيعتي. وأريد خاصة امتداد هذا الأمر، إلى كل أوثان النار، المحتدمة، المضطربة، الكئيبة”.
غير أن الخاصية الديناميكية والظرفية في الآن ذاته، للنار النيتشوية ستظهر بلا شك وبكيفية أكثر جلاء، إذا أخذنا بعين الاعتبار، مفارقة غريبة :تبتغي نار نيتشه البرودة.إنها، قيمة متخيَّلة ينبغي تحويلها إلى قيمة كبرى.ينتعش المتخيَّل ذاته، ضمن إطار تحول للقيم. نقرأ هذه المقاطع الموحية تحت عنوان :” إشارة النار” (أشعار ص 272) :
هذه الشعلة بمنحنيات مائلة إلى البياض،
ترتقي نحو الأصقاع الباردة، لغات رغبتها، وأدارت عنقها نحو مرتفعات أكثر نقاء، تشبه ثعبانا يروِّضه التلهف.
النار، حيوان يتصف بدم بارد.ليست النار، باللسان الأحمر للثعبان، بل رأسه الفولاذي. وطنه، البرودة والمرتفع.
حتى العسل، الذي يجسد بالنسبة لكثير من الحالمين، نارا عميقة، وعنصرا بَلْسميا وساخنا، صار مثلجا عند نيتشه (قصائد،ص 248) : “ناولني عسلا باردا، مأخوذا من خلايا ذهبية اللون”.أيضا (الشحاذ المتطوع) :”ستجد عندي عسلا جديدا،عسل خلايا ذهبية، ذات طراوة منعشة،هيَّا، تناوله !”.
يعتبر العسل المُذَهّب، السنبلة المُذَهّبة، الخبز الذهبي، بالنسبة للخيال المادي، آثارا شمسية، وقليلا من مادة النار.يمثل عسل نيتشه، نارا باردة وتمازجا حسيا، يباغت فقط هؤلاء المنطقيين غير المهتمين بتوليفة الحلم.
بوسعنا الوقوف على ذات التآلف بين الساخن والبارد، من خلال صور الشمس الباردة، وسطوع شمس باردة. يقدم، لنا النص الجميل جدا “أغنية الليل”(زرادشت)، هذا المقطع الشعري :”تحلِّق الشموس على امتداد مسارها؛هنا يكمن سبيلها، تلاحق إرادتها الحتمية؛حيث مكمن برودتها”.إذا وقفنا في هذا الإطار، عند سياق ترجمة مجازية لكبرياء هادئ، وأنفة يصعب على أيّ شيء، تحويلها عن مجرى طريقها، فإننا نتنكر لهذه الإرادة الغريبة، بعدم المشاركة في المزايا التي نغدق بها. تمنح، الشمس دفئها باردا. تعتبر بالنسبة للخيال الديناميكي، طريقة العطاء والمقدرة عليه، أفضل مما نعطي.
إنّ نارا، تنزع بشكل عنيف جدا نحو نقيضها، تنطوي على خصائص ديناميكية، أكثر من مجرد ثراء العنصر. يعني وجود النار عند نيتشه، توترا وحركة؛ بحيث لاتعكس هنا هنا،استمتاعا بحرارة، كما الشأن مع نوفاليس. النار شعاع صاعد،إرادة ملتهبة تتوخى معانقة الهواء النقي وكذا برودة المرتفعات. عنصر تتحول معه القيم المتخيلة لصالح قيم خيال الهواء والصقيع.سنفهم بشكل أفضل،هذه الجدليات بين العناصر المتخيَّلة،عندما نظهر بأن الصقيع،خاصية رئيسة للهواء النيتشوي.
لننتقل إذن،إلى الجزء الايجابي لاستدلالنا،كي نبرهن على أن الهواء،جوهر حقيقي بالنسبة للخيال المادي عند نيتشه.
نيتشه والهواء :
يحدد نيتشه نفسه باعتباره هوائيا(قصائد، ص232) :
سحب عاصفية، ما شأنك بهذا الخصوص؟
إنه مجال أفكار أخرى حرة،هوائية وسعيدة.
في الواقع، هواء نيتشه، ماهية حريتنا، جوهر سعادة فوق بشرية. مادة تعلو، مثلما السعادة النيتشوية، بمثابة سعادة بشرية تعلو .السعادة الأرضية، ثراء وجاذبية.السعادة المائية، رخاوة واستراحة.السعادة النارية، حب ورغبة. السعادة الهوائية، حرية.
إذن، الهواء النيتشوي ، عنصر غريب : مادة تفتقد لخاصيات أساسية. بالتالي، يمكنه تمييز الكائن باعتباره ملائما لفلسفة صيرورة شاملة. يحررنا الهواء، في إطار سيادة الخيال، من تأملات شاردة ملموسة، حميمة، وهَضْمِيَّة، وكذا ارتباطنا بالعناصر: إنه مادة حريتنا.
هواء نيتشه،لايوفِّر ولايمنح شيئا معينا،لذلك يجسد مجدا هائلا للاشيء . لكن، ألا يمثل في الوقت نفسه، عدم إعطاء شيء، أكبر أنواع العطايا، بحيث ينتشلنا المانح الكبير بأياديه الفارغة، من وضعية رغبات اليد الممدودة، فنعتاد جراء ذلك على عدم التطلع نحو تسلم شيء يذكر، بالتالي توخي الحصول على كل شيء.يتساءل نيتشه :” ألا يجدر بالمانح، إبداء شكره لمن أراد حقا أن يأخذ؟”.سنرى فيما بعد، وبتفصيل أكثر، كيف يترك الخيال المادي للهواء،عند نيتشه، مكانه لخيال ديناميكي للهواء.لكن، خلال اللحظة التي نستوعب معها، بأن الهواء يبقى موطنا حقيقيا للصقر.
الهواء، الجوهر اللانهائي، الذي نَعْبره كإشراقة، في إطار حرية مُقتمة ومُنتصرة، مثل صاعقة ونسر وسهم، وكتلك النظرة الملحَّة والمتسيِّدة. تُقتاد الضحية صوب الهواء، في واضحة النهار، دون مواراة أبدا.
لكن قبل التطرق، إلى مظاهر ديناميكية كتلك،لنبرز السمة المادية الخاصة بالهواء النيتشوي.عادة، ماهي خاصيات الهواء، الأكثر جوهرية، بالنسبة للخيالات المادية؟إنها الروائح.يمثل الهواء أولا وأخيرا، بالنسبة لبعض،الخيالات المادية، دعامة الروائح.تصير، الرائحة لانهائية في الهواء.بالنسبة للشاعر شيلي، الهواء وردة ضخمة، وماهية وَرْدِيَّة بالنسبة للأرض قاطبة.
في غالب الأحيان، نحلم بنقاء الهواء كما لو يتعلق الأمر بعطر بَلْسمي وكذلك رائحة الشِّيَاط؛ نحلم خلال الآن ذاته، بدفئه مثل لقاح صمغي، أوعسل حلو دافئ.بينما لايحلم نيتشه في الهواء، سوى بقوة انقباض العضلات :الصقيع والخلاء.
بالنسبة إلى نيتشوي حقيقي، يتحتم على الأنف إضفاء يقين سعيد على هواء بلا رائحة.ينبغي له، أن يكون شاهدا على السعادة العارمة، وكذا الوعي المغتبط بعدم اختبار أيِّ شيء. الأنف ضامن على عدمية الروائح. حاسة الشم، التي احتفى بها نيتشه غالبا،لاتمتلك خاصية الإغراء.لقد أُعطيت، إلى الإنسان الأعلى، كي يتنحى جانبا عن أبسط مظاهر القذارة. إن نيتشويا،لا يمكنه الاقتناع برائحة.
يحلم شارل بودلير والكونتيسة أنا دو نويلز – الاثنان أرضيان، سمة تمثل حتما علامة أخرى عن القوة- بالروائح ويتأملانها.للعطور إذن، أصداء لانهائية؛ بحيث تصل بين الذكريات والرغبات،تعكس انتقالا بين ماض جسيم ومستقبل هائل لم يتشكل بعد.غير هذا، وفيما يتعلق بنيتشه :
لنستنشق الهواء الأكثر نقاء
المناخير منتفخة مثل أقداح نرد
بلا مستقبل، ولا ذكريات…
يمثل الهواء النقي، وعيا بلحظة حرة، تنفتح على المستقبل، ولاشيء غير ذلك. الروائح سلسلة حسية؛ بل تعكس استمرارية من خلال جسدها، فلا وجود لروائح متقطعة الأوصال. يشكل الهواء النقي،على النقيض، شعورا بالفتوة والجِدَّة :”يستنشق ببطء الهواء عبر مناخيره، كما لو يتذوق هواء مختلفا، متسائلا مثل شخص حط الرحال في بلد جديد”.نجرؤ على القول :خلاء جديد،حرية جديدة.هواء جديد لاينطوي على شيء دخيل،أو محدِث للدوخة، ولا مسكِرٍ .مناخ قوامه هواء نقي وجاف وبارد ثم عبارة عن خلاء.
جالس هنا، أستنشق أفضل الهواء،
حقيقة، إنه هواء الجنة،
هواء صاف، خفيف، ومُرَقَّن بالذهب
أكثر لذة من أيِّ وقت مضى
أرسله القمر…
يتخلص الخيال النيتشوي من الروائح،إبان وقت انفصاله عن الماضي.تحلم كل نزعة ماضوية، بروائح غير قابلة للتلف.لكن الاستشراف،يمثل نقيضا للشم.أوضح رودولف كاسنر،هذه الخاصية المتناقضة بين النظرة والروائح (كتاب الذكرى،بيترو، ص31)، وفق جدلية مباغتة إلى حد ما،لكنها مدهشة للغاية:”عندما نسحب من الزمان،نحذف أو نقتطع،جانبنا المنغمس في المستقبل…يغدو ذكرى مجمل خيالنا المرتكز على الزمان أو الملتف حوله، ويجد نفسه كما لو ألقي به إلى ذكرى. تتحول إذن حتما،كل رؤيا إلى رائحة مادام المستقبل يغيب…، لكن حالما، نصل ثانية بالزمان الذكرى التي أتينا على قطعها، ستتحول الرائحة إلى رؤيا”.
يجسِّد الهواء،لحظة استراحة واسترخاء،مثلما يبلور أمامنا وعيا بالفعل المستقبلي، يحرِّر إرادة متراكمة.أيضا، نعاين وعدا بالقوة في خضم بساطة سعادة استنشاق هواء نقي:
الهواء مفعم بالوعود؛
أشعر أنه تعبرني نكهة شفاه مجهولة
لقد أتت البرودة الكبرى.
كيف نقول، بشكل أفضل، تبعا لهذه الطراوة المفاجئة، بأن الشفاه المجهولة تلك، ليست وعودا بالثمالة؟
تندرج نتيجة هذه الطراوة- البرودة الكبيرة القادمة – قيمة نيتشوية، تبرز حقيقة عامة خلف المظاهر الحسية.إنها نموذج، المجازات المباشرة والحقيقية، التي تؤسس بالنسبة لنظرية في الخيال، معطيات مباشرة وأولية.تشكل البرودة جوهريا،عند نيتشه، خاصية الهواء المنعشة، التي تبثّ سعادة التنفس، وتضفي ديناميكية على الهواء الثابت- حيوية جوهرية حقيقية، بمثابة حياة الخيال الديناميكي نفسه-فلا ينبغي أن تُؤخذ كخاصية ضعيفة وعادية،بل تضاهي إحدى أكبر مبادئ علم الكون النيتشوي :الصقيع، صقيع المرتفعات والأمكنة الباردة جدا، والعواصف المطلقة.
لنسلك الطريق الذي يقود نحو أمكنة القطب الشمالي :
فيما وراء الشمال،الثلج وكذا الحاضر
فيما وراء الموت،
بعيدا :
عن حياتنا، سعادتنا !
لن تجد سواء بالأرض أو الماء
الطريق المفضي نحو القطب الشمالي.
ليس بالأرض ولا الماء، بل نسافر عبر الهواء نحو أقصى المرتفعات الأكثر برودة وعزلة.
سيقدم زرادشت دروسه عند مدخل المغارة- المغارة الغريبة الكائنة في قمة الجبل، نعتقد بأنها اختلست صفتي الأرضي و الكهفي- وقد انصبت على حيوية البرودة.
”أنت وحدكَ تعرف،كيفية استعادة هواء قوي ونقي من حولك! لم أعثر قط في الأرض على هواء، أكثر نقاء من هوائك داخل مغارتك ؟ بالفعل، عاينتُ أصقاعا، اعتاد معها أنفي فحص وتقييم الهواء في تعدديته : لكن، فقط بجوارك يتحسس أنفي، أقصى مستويات سعادته !”.
نلتقط النداء التالي في كتاب نيتشه :”إنسان مفرط في إنسانيته”(أشعار،ص 180) ، إلى تلك:”الطبيعة الباردة والمتوحشة لجبال الألب، أدفأتها بالكاد ودون حب شمس خريفية “.
وسط هذه الطبيعة المنتسبة لجبال الألب،ندرك حقا الولادة المدهشة.تنبجس الحياة من البرودة، حياة باردة :
هكذا يتسامى القمر والنجوم
مع الريح والصقيع.
يكتسب الهواء بفضل البرد، سمات هجومية، فتتأتى له “الشراسة المبتهجة”، التي توقظ إرادة القوة، إرادة مقاومة البرد، تبعا لأقصى درجات حرية البرودة، حسب إرادة باردة.
يمتلك الإنسان، حين تعرضه لبرد قارس،”جسدا في غاية السمو” (زرادشت). طبعا،لايتعلق الأمر، بجسد موصول بالنجوم والكواكب، كما الشأن بالنسبة للسَّحرة والمتصوفة، بل على نحو دقيق جدا، بمثابة جسد حيٍّ يدرك كيفية التسامي،عبر استنشاق هواء منشِّطٍ. جسد يعرف كيفية اختيار هواء المرتفعات، هواء ناعم ، ثاقب ونافذ.
سنعثر ثانية، على قيمة نيتشوية، مع هواء المرتفعات الباردة : الصمت.سماء فصل الشتاء وصمتها :” تترك أحيانا، الشمس صامتة”.ألا تبدو مختلفة عن شمس بيرسي شيلي، الموسيقية جدا، التي يمكننا القول بصددها،أنها موسيقى أضحت جوهرا ؟هل يتحدث نيتشه عن سماء الشتاء(هكذا تكلم زرادشت)،حينما يؤكد قائلا :”لقد تعلمت الصمت الطويل الملهِم؟”. أيضا نقرأ،في “العودة” (زرادشت، ص267) :”آه !كم يجعلك هذا الصمت تمتص هواء نقيا برئتين ممتلئتين”.إذن كيف يمكننا رفض التآلف الجوهري، بين الهواء والبرودة والصمت؟ نستنشق الصمت بالهواء والبرد،وقد اندمج ضمن كينونتنا ذاتها. يختلف كثيرا هذا الانصهار مع الصمت عن تمثل الأخير بين طيات قصيدة ريلكه،الموجعة باستمرار.الصمت لدى نيتشه، مباغت يكسر الهموم الأولى.
إذا رفضنا،قبول إيحاءات الخيال المادي،ولم نفهم قط أنه بالنسبة لخيال مادي فعَّال،سيتحقق الهواء الصامت،مع عنصر أولي،فإننا نضعف نبرة الصور؛وننتقل بتجارب الخيال الملموس، صوب المجرد.كيف،بوسعنا،الحصول على التأثير العضوي الصحي، لقراءة نيتشوية؟ لقد أبلغ نيتشه قراءه،عبر الإشارة التالية:”سيدرك من يعرف كيفية استنشاق المحيط الهوائي،الزاخر به عملي،بأن الأخير يمثل فضاء للمرتفعات،وهواءه متوقد . ينبغي،أن تكون مخلوقا لذاك الفضاء،بمعنى ثان المجازفة كثيرا، جراء أضرار البرد.الصقيع على مقربة مني، والعزلة هائلة،لكن تأملوا السكينة، التي يتموضع وفقها ثانية كل شيء في الضوء! تبيَّنوا كيف نستنشقه بحرية !كم هي الأشياء التي نشعر بها أسفل الذات !”.
صقيع، صمت، مرتفعات .ثلاثة جذور بالنسبة لجوهر واحد.أن تقطع جذرا، معناه تقويض الحياة النيتشوية.مثلا، يحتاج برد صامت، أن يكون متعاليا، بالتالي إن اختل هذا الجذر الثالث، فسيجعل هذا الصمت منغلقا وفظّا وأرضيا.صمت لايتنفس أبدا، ولا يلج الرئة، مثل هواء المرتفعات.أيضا،يعكس لدى نيتشه،عواء ريح شمالية، حيوانا ينبغي ترويضه وإخراسه.هواء المرتفعات البارد،بمثابة كائن ديناميكي، لايصيح ولايهمس :إنه يصمت.أخيرا، يعتبر هواء ساخنا، يتوخى تعليمنا الصمت، حين افتقاده للهجوم.يحتاج الصمت، إلى عدوانية البرد.سنلاحظ، اختلال التطابق الثلاثي،عندما تنتفي واحدة من الخاصيات.لكن هذه الدلائل السلبية تبقى مُصطنعة،لأن من يتوخى العيش في الهواء النيتشوي، ستكون لها دلائل إيجابية عديدة عن التطابق الذي أشرنا إليه.تطابق،سيوضح بشكل أفضل،على نحو مفارق،التطابق الثلاثي بين النعومة والموسيقى والنور،الذي يتنفس بواسطته خيال شيلي .
مثلما قلنا مرارا،مهما كانت أنماط الخيال المادي،حاسمة جدا، لاتمحو السمة الفردية للعبقرية.إن نيتشه وشيلي عبقريان،عشقا داخل نفس المجال الهوائي،آلهة متعارضة.
بما أننا منحنا في هذا العمل موقعا كبيرا لحلم التحليق –النوم في الهواء- فسندرس قليلا عن قرب أكثر،صفحة نيتشوية تبين بكل جلاء حُلُمية مُحَلِّقة.نشيد سلام ليلي،وكذا خِفَّة نوم هوائي، يشكل لنا تمهيدا نحو دراسة لإشراقات الفجر ،وكذا يقظات فعالة ،للحياة العمودية النيتشوية.
كيف،لا نفترض، بالتالي، حلما للتحليق في الفقرة الأولى من “الأوجاع الثلاث”(هكذا تكلم زرادشت،ص 269،الطبعة الثانية،ترجمة ألبير):”وأنا أتخيل،إبان حلمي الصباحي الأخير، وجدت نفسي على مشارف جبل، فيما وراء العالم، ماسكا في يدي بميزان وبصدد العمل على وزن العالم”.
إن قارئا،غيرت مساره النزعة العقلية،سيطرح الفكر المجرد قبل المجاز. يعتقد هذا القارئ بأن تكتب، يعني البحث عن صور قصد توضيح أفكار، ولن يفوت أمر الاعتراض بأن هذا القياس لوزن العالم– حتما يفضل قول هذا التقويم الوزني للعالم – ليس إلا مجازا بغية التعبير عن قيمة، وتثمين العالم المعنوي.
مع ذلك، كم سيكون مفيدا دراسة هذا الانزلاق من العالم المعنوي نحو الفيزيائي .يلزم كل أخلاقي، على الأقل، أن يطرح على الأقل قضية التعبير اللفظي عن الوقائع المعنوية . أطروحة للخيال، باعتباره قيمة نفسية جوهرية،يبرزها تصورنا في سياقنا هذا،بكيفية مغايرة : يتساءل كيف تهيئ صور الارتفاع دينامكية حياة معنوية. تلعب حسب اعتقادنا، شعرية نيتشه تحديدا،الدور الرائد : إنها تمهد للمغزى النيتشوي .لكن،لانزجّ بالسجال إلى أبعد مداه،ونظل ضمن مضمار دراسة للمتخيَّل،ونطرح على معارضينا،من الزاوية النفسية، سؤالا سجاليا : لماذا إذن خلال حلم صباحي، ترى نفسك عند أعلى مشارف جبل؟ لماذا، تَزِن حينها العالم، عوض وصف حيثيات تلك النظرة البانورامية المتسَيِّدَة؟ألا ينبغي الاندهاش سلفا،حيال انخراط الحالم بسهولة كبيرة بين طيات حلم شخص يتوخى أن يزن؟لكن لنقرأ في موضع ثان:” قابل للقياس بالنسبة لوازن جيد، تبلغه تلك الأجنحة القوية…هكذا اكتشف حلمي عالمه”.من سيشرح لنا،خارج مبادئ علم نفس التعالي،كيف أن الحلم الذي يبتغي وزن العالم، ستظفر فورا،أجنحته القوية بالوزن؟بغتة وبشكل سريع جدا،يعيش وازن العالم،الخِفَّة المُجَنّحة.
كيف لانرى،سير التدرج الحقيقي للصور سوى وفق نسق معكوس :فلأنه يمتلك الخِفّة المُجَنّحة،يزن العالم.يخاطب بقوله أثناء تحليقه،مختلف الكائنات الأرضية :لماذا لاتحلق أنت ؟ماهو الثقل الذي يمنعك من التحليق بجانبي؟ما الذي يجبركَ على البقاء جامدا فوق الأرض؟اصعد إلى ميزاني،سأخبركَ ،إذا كان بوسعك عند اللزوم،أن تصبح صديقي ومريدي.سأخبركَ ليس عن وزنكَ، بل صيرورتكَ الهوائية.الوازن،سيِّد الخفة.إن وازنا ثقيلا، بلا دلالة حسب التصور النيتشوي.بل يلزمه أن يكون هوائيا، خفيفا، متعاليا،كي يطور قوى الإنسان الأعلى. نحَلِّقْ أولا، ثم نكتشف الأرض بعد ذلك!
يمكننا إذن، قبول المجازات الأكثر تواريا، غير حركاتها لازالت متواصلة بحيث تنعش حقا خيال المفكر.فما إن نمنح الخيال الديناميكي،أولويته الصحيحة،حتى يصبح كل شيء واضحا بين ثنايا هذه السطور النيتشوية: ”حلمي، بحّار جسور،نصف مَرْكب ونصف زوبعة،صامت مثل فراشة،ومتلهف مثل صقر: أي صبر ومتعة يمتلكهما اليوم كي يتمكن من وزن العالم !”.بالتأكيد، يكمن أثر الذاكرة الديناميكي بخصوص مختلف هذه الصور، في حلم التحليق، إنها الحياة الخفيفة للنوم الهوائي، والوعي السعيد بالخفة المُحَلِّقة.
يستطرد نيتشه في الفصل المعنون : فكر الثقل (زرادشت،ص 278) :”الذي سيعلِّم التحليق لرجال المستقبل،يلزمه تغيير مختلف الحدود؛ مادمت الأخيرة بالنسبة إليه تحلق في أجواء الهواء : سيبادر ثانية إلى تعميد الأرض ، مناديا إياها ب”الخفيفة””. ويضيف جورج ميريديت : ” تقوم الحواجز أمام من يجهل التحليق”.
التحليق بالنسبة للخيال المادي،ليس آلية تقتضي إبداعها،بل مادة ينبغي تغييرها، القاعدة الأساسية لتحول مختلف القيم .يجدر بكائننا الأرضي،أن يصير هوائيا.بالتالي،يجعل كل الأرض خفيفة، ثم تصبح أرضنا الخاصة ”خفيفة”.
النص الأخير، أغنته أفكار كبرى؛ لأنه يعلِّم الإنسان كيفية عشقه لذاته، وينتعش حقا في إطار ذلك. أمام هذا الغنى، للأفكار النيتشوية، وبساطة ملاحظاتي، سأجدني أمام اعتراض نقد سهل : سيقال، بأني تخليتُ مرة أخرى،عن مهمتي كفيلسوف وأصبحتُ مجرد جامع للصور الأدبية. يتمثل جوابي، في تكرار أطروحتي: تمتلك الصورة الأدبية حياة خاصة، تجري مثل ظاهرة مستقلة فوق الفكر العميق. استقلالية، وضعتُ نصب أعيني مهمة إثباتها.
يعتبر، نموذج نيتشه ساطعا ، لأنه يكشف عن حياة مزدوجة : حياة شاعر كبير ومفكر عظيم. تقوم الصور النيتشوية، على تآلف مزدوج يحرك- على حدة – القصيدة والفكر، مؤكدة التحاما ماديا ودينامكيا، يبلور خيالا ماديا وديناميكيا، حقا نوعيا.
لكن تقتضي العَمُودية تمرينا طويلا :” من يتطلع نحو تعلُّم التحليق ذات يوم ، يلزمه بداية أن يتعلم كيف يقف، يمشي، يركض، ينطُّ، يتسلق، ثم يرقص : مادام ليس بوسعنا التمرس على التحليق من الوهلة الأولى !”. بالنسبة للبعض، الحلم بالتحليق، ذكرى أفلاطونية مبهمة، عن نوم غابر جدا، ميَّزته رشاقة قديمة للغاية. نصادفها فقط، ضمن الرؤى الصبورة واللانهائية .لنرصد إذن، من خلال العمل النيتشوي، الدلائل المتنوعة جدا عن النفسية المتعالية.
أولا، تمدُّنا الفلسفة النيتشوية بأمثلة عدة عن تحليل نفسي للثِّقل، يحظى بنفس منحى التحليل النفسي الموجَّه كما صاغته منهجية روبير دوزويل. لنتأمل،على سبيل الذِّكر هذه القصيدة :
ألْقِ نحو الهاوية بكل مابحوزتكَ ثقيلا جدا!
إنس أيها الإنسان ! إنس أيها الإنسان !
الإلهي فنّ النسيان !
إذا توخيتَ التسامي،
إذا ابتغيتَ أن تكون عند مستقركَ في الأعالي
ألْقِ صوب البحر بكل ما لديكَ أكثر ثقلا !
هاهو البحر،ارتمي في البحر
الإلهي، فنّ النسيان.
لايتعلق الأمر هنا، مثلما سيكون الشأن مع النفسية البحرية، بالغطس في البحر قصد العثور ثانية، من خلال ذلك ،على الانتعاش بفضل المياه. لكن، أن نلقي بعيدا كل أثقالنا، حسراتنا، ندمنا، أحقادنا، جلّ ما ننظر به إلى الماضي، يتعلق الأمر بأن نرمي في البحر كل كائننا الثقيل غاية اختفائه إلى الأبد. هكذا، ندمر ثِقلنا الثنائي، أي الأرضي القابع داخلنا، ثم الماضي الحميمي المخبأ .حينها، تتألق ثنائيتنا الهوائية، فننبعث أحرارا كالهواء، خارج زنزانة أسرارنا الخاصة.بالتالي ، نغدو فجأة صادقين مع ذواتنا.
هل يلزم التأكيد مرة أخرى، على إمكانية قراءة قصيدة كهذه حسب وجهتين :
أولا، كنص مجرد، وأخلاقي، بحيث يبدو الكاتب مضطرا، كي يوظف صورا حسية، لعدم توفر الأفضل.
ثانيا، بناء على منهجيتي الحالية، اعتبارها قصيدة حسية بشكل مباشر، بلورها أصلا الخيال المادي والديناميكي مما ينتج قيما معنوية جديدة ، بفضل حماسة قصيدة مختلفة؟
كيفما جاء اختيار القارئ، ينبغي له إدراك بأن إضفاء الجمالي على المعنوي ليس مظهرا سطحيا ، أو قد نجازف بحذفه مجازا.
أطروحة مثل أطروحتي، تجعل ذاك التجميل ضرورة عميقة، وفورية. يمنح الخيال هنا، الوجودَ ارتقاء. خيال أكثر فعالية : لاينفصل قط الخيال المعنوي عن تجديد صور أساسية.
هكذا يتضح بأنَّ نيتشه وقد أبرز بنفسه كلمة “أنت”، ابتغى تحقيق مطلق المجاز، ثم مباغتته تلك المجازات الصغيرة التي راكمها شاعر ثانوي، ويثير عبثية المجاز كي يعيش حقيقته المطلقة : اقذف بنفسكَ كليا ناحية الأسفل، كي تصعد تماما صوب القمم وأنت تحقق في نفس اللحظة الحرية وكذا اقتحام الإنسان الأعلى.
خلف هذا التناقض بين الكلمات – الأعلى والأسفل- يشتغل الخيال وفق تحليل للرموز يحافظ على تماسك تام :ارتمي كليا في البحر ليس بهدف أن تجد عبره الموت من خلال النسيان، بل حتى تعهد إليه جل ما يصعب عليكَ نسيانه، كل هذا الكائن المرتبط بالجسد والأرض، ومختلف أنقاض المعرفة، و ركام النتائج، ثم شتى هذا الحصاد البخيل المتجسِّد في الكائن البشري.هكذا، يتحقق العكس الحاسم الذي سيطبعكَ بسمة الإنسان الأعلى .ستغدو هوائيا، وتنبثق عموديا صوب السماء الحرة.
كل ما بدا لي فيما مضى ثقيلا
ابتلعته هاوية النسيان ذات اللون السماوي (ص276)
أيضا، كتب نبتشه في زرادشت مقطعا شعريا، بعد أن هزم شيطان الثِّقل : ” الآن تراني تحتي” :
jetzt bin iche leicht ; jetzt fliege ich ; jetzt sehe ich mich unter mir ; jetzt tanzt ein Gott durch mich.
لن أترجم هذه السطور، مادمت لم أعثر على الكلمات التي تضفي الطاقة والبهجة اللحظية على :” jetzt”. أيُّ بؤس هذا يكتنف اللغة الفرنسية وقد افتقدت لكلمات جوهرية تهم نفسية اللحظة؟ كيف نعيد القرار لثورة الكائن، والقطع مع الكسل المتواصل بالكلمات :حاليا، من الآن فصاعدا، منذ اللحظة ؟ تقتضي ثقافة الإرادة كلمات ذات مقطع واحد. يتعذر غالبا، ترجمة طاقة لغة ما، كما الحال مع شعريتها.يحظى الخيال الديناميكي من اللغة على اندفاعات أولية.
إننا لانعطي قط اهتماما كافيا لازدواجية الشخصية العمودية، خاصة مزاجها المفاجئ والحاسم.سنعيش بفضل هذه الازدواجية، في الهواء، بالهواء ولأجل الهواء. ثم ندرك جراء مزاجه المباغت، بأنَّ تحول الكائن ليس انبثاقا ليِّنا وناعما، بل يشكل موضوع عمل إرادي خالص، أي الإرادة اللحظية.هنا، يفرض الخيال الديناميكي نفسه على الخيال المادي : ارتمي نحو الأعلى، حرا كالهواء، فتصير مادة للحرية.
بعد هذا الفعل البطولي للخيال، يحصل مثل وقع مكافأة، الوعي بأن تكون فوق العالم، وكل شيء.من هنا، المقطع الشعري الرائع (زرادشت، الجزء الأول، ص273):” أن تكون فوق كل شيء مثل سمائه الخاصة، وسقفه المستدير، ثم جرس سمائه الزرقاء وكذا طمأنينته الأبدية” .كيف يمكننا التعبير بكيفية أفضل وفق معنى حبٍّ أفلاطوني نفسه ،عن أفلاطونية هذه الإرادة التي تمنح الكائن ما يريده، وما ستكون عليه صيرورته، بعد تخلصه من جلِّ كائنات الماضي، القائمة على ذكرى مبهمة، وكل الرغبات الحسية المغذية لإرادة شوبنهاورية، إرادة حيوانية.
الهدوء مؤَكّد لأنه مغلوب على أمره.سنعيشه بناء على حالته تلك من خلال هذه المقاطع الشعرية (زرادشت، أوج الظهيرة، الجزء الثاني، ص 399) :
صمت ! صمت !
يرقص خُفية مثل هواء ناعم فوق لآلئ البحر اللامعة، خفيفا، خفيفا، مثل ريشة : هكذا يرقص النوم فوقي.
لا يُغمض عينيَّ، ويترك روحي مستيقظة.إنها خفيفة حقا، خفيفة مثل ريشة.
يعرف الكائن الإنساني، ياللحسرة ! ارتدادات إلى الغموض وكذا الثِّقل.ما إن يجسِّد عنصر آخر النوم النيتشوي، حتى تبدو الروح أكثر اضطرابا، وتراخيا.
إذن بقدر ما يعهد حالمون بروحهم، إلى ماء ساكن، منقادين بهدوء ، وينام حالمون آخرون بلطف في كَنَف ماء الحلم، إلا وغمرنا إحساس حزن ينبعث عبر السعادة البطولية التي أَسَرتنا مع الصفحة النيتشوية الرائعة عن النوم في البحر. إنه بحر ثقيل بالرغبة، المِلح، النار ، الأرض (زرادشت، الجزء الأول، ص 220) :
ينام الجميع حاليا، أيضا ينام البحر.ترمقني عيناه، بغرابة وفتور.
لكن نسمته دافئة، أشعر بذلك.أحسه أيضا يحلم. يهتز نائما فوق وسائد صلبة.
أنصتْ ! أنصتْ! كم هي التأوهات النابعة من ذكرياته السيئة ! أو نذير شؤم؟
للأسف ! أنا حزين معكِ، أيتها القتامة الموحشة، وبسببكِ غضبتُ من نفسي .
لأنّ تحسرنا! يسيء إلى التنهد الحاد الذي ينطوي عليه تعبير اللغة الألمانية ” l’ach” (آه) ! ستحتاج هنا لحظة التقزز من الذات والكون ، إلى تزامن يكمن في المقطع الواحد. يُختزل إلى تحسر الحالم ، كل الكائن المتوجِّع، الكون المتألِّم. هكذا، تتبادل الحُلمية والكونية، قيمهما. فبأيِّ وفاء سيترجم نيتشه الكابوس الممزوج بالرِّقة والإحساس !”الحب هو خطر الأكثر انزواء” ، ويضيف زرادشت :” كيف تريد أيضا نشدان البحر بعزاءاتك !” .
لكن هذه الرغبة في الحب، أن تحب من يعشقون معايشة آلامهم ثم التأسي بألمهم وحبهم الذاتيين، ليست سوى كابوس ليلة شكٍّ، وخداع بحري. بالتالي، يظل هواء السماء، وطنا ينتمي فيه الكائن إلى ذاته، يعود إليه نيتشه باستمرار .
نقرأ في الفصل المعنون ب : الأختام السبعة، هذه المقاطع الشعرية المفعمة بالانتشاء النيتشوي، الجامعة بين ثمالة ديونيزوس و أبولو ، ثم مجموع الحماسة والبرودة، القويُّ والمضيء، الفتيُّ والناضج، الثري والهوائي :
إذا حدث وتمددتُ وجهة سماوات هادئة فوقي، سأحلق بأجنحتي الذاتية في السماوات الخاصة بي:
إذا سبحت وأنا ألعب عند أقاصي الضوء البعيدة ، ثم تجلت حكمة طائر حريتي :
– هكذا تتكلم حكمة الطائر : هنا،لا يوجد أعلى ، ولا أسفل ! اقفز في أي اتجاه، إلى الأمام أو وراء، أنتَ أيها الخفيف ! أنشد ! لا تتكلم قط !
– ألم تُهيَّأ كل الأقاويل بالنسبة لمن تعوزهم الرشاقة ! ألا تكذب تلك الأقاويل على من يتسم بالخفة ؟ أنشد! ولا تتكلم قط !
هكذا انتهى الكتاب الثالث لزرادشت: إلى وعي بالخفة الهوائية والمُغَرِّدة. بحيث وجد نيتشه في الشدو الجوهري لكائن هوائي، من خلال قصيدة ذات مغزى هوائي، تلك الوحدة العميقة للخيال المادي والديناميكي.
بعد تخفيف الكائن لحمولته مرتميا بالمطلق خارج ذاته، ثم نتيجة هذه التحليقات التي حرَّرت الكائن من النظر إلى أسفل ذاته، غالبا ما يستعيد نيتشه الهُوَّة، حتى يعي جيدا حريته. فالأسفل، المُتَأمل من أعلى لن نسقط منه أبدا، يشكل دافعا إضافيا صوب القمم . هكذا، تحظى صور ستاتيكية بحياة ديناميكية نوعية جدا.
يستمر التواصل مع عمل نيتشه ،ثم أضع جانبا صورا معينة غاية مقاربتها بكيفية أكثر عمومية، كي أدرس الديناميكية العمودية لبعض الصور المألوفة لدى نيتشه.
مثلا، صورة شجرة الصنوبر عند حافة هُوَّة .لقد تأملها شوبنهاور وجعل منها دليلا عن إرادة – الحياة، واصفا التعايش الوثيق بين النبات والصخر، ثم استماتة الشجرة كي تدافع عن نفسها ضد قوى الثِّقل.
الشجرة عند نيتشه، أقل انحناء، بل تعتبر كائنا أكثر عمودية، يحتقر السقوط :
-لكن، أنتَ، يازرادشت،
هل لازلت تحب الهُوَّة ،الشبيهة بالصنوبر؟
تتمسك الصنوبر بجذورها،
هناك حيث الصخرة نفسها
تنظر مرتجفة إلى الأعماق …
لن يصير قط هذا الارتجاف دَوْخة.النيتشوية بالضرورة، دُوار تمَّ التغلب عليه. يبحث نيتشه بجوار الهُوَّة، عن صور الارتفاع الديناميكية. يستلهم من واقع الهُوَّة،عبر جدلية كبرياء معروفة جدا،الوعي بأن يغدو قوة منبثقة. يقول بأريحية،على منوال سارا في ”أكسيل” : (الدراما النثرية للكاتب أوغست دو فيليي دو ليل-أدم): “لست جديرة بمعاقبة الحفر العميقة سوى بأجنحتي”.
ثم نتابع بتفصيل أكثر درس الشجرة النيتشوية :
تتردد عند حافة حُفر،
حيث يرنو كل شيء بجانبها كي يتهاوى:
بجوار نفاذ صبر أحجار برية ، وسيول متدفقة
هي صبورة، متسامحة، صلبة، صامتة، ومنعزلة .
ثم نضيف : مستقيمة، منتصبة القامة، قائمة، واقفة، وعمودية.لا تحصل على النُّسْغ من ماء تحت- أرضي، ولا تستمد صلابتها من الصخر، ولم تكن في حاجة إلى قوى الأرض.إنها ليست مادة، بل قوة ومستقلة.تستلهم قوتها من ذات عموديتها.
شجرة الصنوبر النيتشوية، المتواجدة عند حافة الهُوَّة، بمثابة موجه كوني للخيال الهوائي. بشكل دقيق جدا، يمكنها أن تساعدنا كي نقسم خيال الإرادة إلى نمطين، ونرى بشكل أفضل أن الإرادة تآلف لنموذجين من الخيال : من جهة، الإرادة/الجوهر، الإرادة الشوبنهاورية، ثم الإرادة/ القوة، باعتبارها إرادة نتشوية. واحدة تريد أن تبقي بينما تتوخى الثانية الاندفاع. تستمد الإرادة النيتشوية مرتكزها من سرعتها الخاصة.سرعة صيرورة، في غير حاجة إلى مادة .
يبدو أن الهُوَّة ، مثل قوس مشدود، يمكِّن نيتشه من بعث سهامه نحو الأعلى.بجوارها ينحو مصير الإنسان صوب السقوط. لكن أيضا ، بمحاذاتها ينزع مصير الإنسان الأعلى الى الانبجاس، كما الشأن مع شجرة الصنوبر صوب السماء الزرقاء. الإحساس بالسيئ يعضد نبرة الخير. مثلما أن إغواء الشفقة يشدد في المقابل على الشجاعة.كذلك، تجريب الحفر يرفع من مقام السماء.
سنعاين ضمن نصوص نيتشه، على صفحات أخرى تظهر حقا بأن الشجرة حقا ثملة بالاستقامة. على سبيل الذكر، تحت عنوان : تحية (زرادشت، ص 407) كتب نيتشه، سعيا منه لتقديم صورة عن إرادة متسامية وقوية، ما يلي :
يستعيد كل المنظر الطبيعي عافيته بفضل تلك الشجرة.
آه يازرادشت، أقارنكَ بصنوبر، تلك التي ترعرعت مثلك :مندفعة ، صامتة، صلبة، منعزلة، تفرز أفضل الخشب، وأكثرها مرونة. رائع.
– تتوخى أخيرا، بأغصان قوية وخضراء، ملامسة سيادتها الخاصة، وتسائل بقوة الرياح والعواصف، ثم كل المعتاد على المرتفعات.
– تجيب بشكل أكثر قوة، باعتبارها آمرة مُنْتصرة .آه !بالنسبة لمن غاب عنه التطلع كي يصعد نحو الأعالي وتأمل نباتات من ذاك القبيل؟.
آه يازرادشت، يتسلى كل مكتئب، حين رؤيته لشجرتكَ، تهدئ هيئتكَ من روع المضطرب وتشفي سقم فؤاده.
تعتبر هذه الشجرة المنتصبة محورا للإرادة، أو بصيغة أفضل، أساس الإرادة العمودية الخاصة بالنيتشوية. تأملها، يعني التعافي؛ تكشف هذه الصورة الديناميكية بشكل دقيق جدا،عن إرادة الاستغراق في التأمل ، ليس فقط أعمال نيتشه، بل أساسا فاعليتها .
وحده الخيال الديناميكي بوسعه أن يعطينا صورا ملائمة للإرادة .بينما لايتيح الخيال المادي سوى النوم وأحلام إرادة غير واضحة المعالم، تنغمس بين طيات الشر أو البراءة.
الشجرة النيتشوية، ديناميكية أكثر من كونها مادية،صلة ذات قدرة كلية، بين الشر والخير، الأرض والسماء (زرادشت، شجرة في الجبل، الطبعة الأولى، ص 57 ) :” كلما توخت الارتقاء نحو الأعالي والجلاء، إلا وتجذرت بكيفية أعمق جذورها في الأرض، والغياهب واليمِّ، والشر”.لايوجد خير مُراوغ، ومبهج، أو وردة دون صنيع للقذارة في الأرض. ينبثق الخير من الشر.
من أين تأتي الجبال الشاهقة؟ تساءلتُ سابقا عن ذلك. لقد أدركت أن مصدرها البحر.شهادة توثقها صخورها وكذا سلسلة قممها. يلزم إذن على الأدنى كما الأعلى، بلوغ القمة.
تواترت طبيعيا،موضوعات الارتقاء باستفاضة في القصيدة النيتشوية.ترجمت بعض النصوص حقا نوعا من البعد الفارق المميز للسعي نحو التمدُّد العمودي.هكذ،ا تبدَّى الوضع مع حالة أرض تتفتت، وأحجار تتدحرج تحت قدمي الصاعد إلى الجبل.ينبغي ارتقاء سبيل منحدر ينزل منه الجميع.في المقابل، يعكس الطريق الوعر خصما يرد على ديناميكيتنا بأخرى مُعَارِضة (زرادشت، الرؤية واللغز، ص223 ) :
”يمتدّ هذا الطريق بجسارة عبر ركام صخور،طريق فظّ ومنعزل…طريق جبل يصرخ تحت قدمي.
ارتفعْ أكثر: قاومْ الفكر الذي يجذب صوب الأسفل، والهاوية. قاومْ فكر الثِّقل، شيطاني وعدوِّي القاتل.
ارتفعْ أكثر: مهما جثم على ذاتك فكر الثِّقل، نصف قزم والنصف الثاني حيوان الخُلْد، مختنقا وخانقا، يُسكب الرصاص داخل أذني و دماغي، أفكار من الرصاص، قطرة فقطرة”.
لن نتمكن ابدا، من الاحاطة بتأملات الصور النيتشوية من خلال ماديتها وديناميكيتها.صور تمنحنا فيزياء تجريبية للحياة الأخلاقية، وتظهر لنا بدقة تغيرات الصور، ثم التحولات الأخلاقية المترتبة عن ذلك.حتما، ترتهن هذه الفيزياء التجريبية بمجرِّب خاص، بيد أنها ليست زائفة ولا مجانية ولا اعتباطية. بل تتطابق مع مزاج يتحسَّس طريق البطولة، ووجود يزدهر حسب إطار حياة بطولية.
أن تتمثَّل النيتشوية، يعني اختبارك لتحوُّلٍ على مستوى الطاقة الحيوية، وكذا أيْضٍ للبرودة والهواء، اللذين يلزمهما إنتاج المادة الهوائية لدى الكائن الإنساني.المثالي،أن تجعل الكائن كبيرا ومتوقدا مثل صوره.لكن، يلزمنا الانتباه بهذا الخصوص، بحيث يتحقق المثالي، وبقوة، عبر الصور، عندما نتناول الأخيرة ضمن حقيقتها الديناميكية، مثل تحوُّلٍ للقوى النفسية المُتَخَيلة.يحلم الكون فينا، يؤكد شاعر يستلهم نوفاليس؛ أما النيتشوي، صاحب القدرة المطلقة وفق حُلُميته المتوقِّعَة، وإرادته الحالمة، فيلزمه التعبير حول عالم أكثر واقعية، قائلا : يحلم العالم فينا ديناميكيا.
بوسعنا كذلك، أن نتناول حسب بعض الصور النيتشوية العمل الكوني للارتقاء،صنيع عالم متسامي حقيقته فعالة تماما.مثلا (زرادشت،المعرفة الطاهرة) : ”يتوخى البحر أن تقبِّله وتمتصه الشمس؛ يريد أن يصير هواء وعلوا ثم مسلكا للضوء،بل الضوء ذاته !”.
في مقطع شعري (قصيدة، ص 273) ، يولد الحالم تقريبا وسط الأمواج، ينبجس مثل جزيرة شَكَّلها انحسار قوى:
”بيد أنَّ البحر نفسه، لم يجسِّدعزلة كافية،
هاهو يرتفع فوق الجزيرة، و الجبل كي يصير شعلة،
الآن، يشرئب وجهة سابع عزلة،
يلقي بصنارته من فوق رأسه”.
الأرض فوق الماء، النار فوق الأرض، الهواء فوق النار،هكذا أمر التراتبية العمودية كليا لشعرية نيتشه.
يعود نيتشه في كتابه ”هكذا تكلم زرادشت”،إلى الصورة الغريبة التي تحيل على الصيد من الأعلى (ص .344الطبعة الأولى) :”هل سبق لشخص في أعالي الجبال أن أمسك ذات يوم بسمكة! حتى وإن بدا تطلعي نحو الأعالي جنونا ،فمن الأفضل الانقياد خلف جنون عوض أن تصير احتفاليا وأخضر وأصفر، وأنت تنتظر عند الاسفل”.
توضَّح لي غالبا من خلال أبحاثي المنصبة على الخيال (دراسة عن الشاعر لوتريامون ثم الماء والأحلام)، الانتقال المتدرِّج من الماء إلى الهواء،وقد اسنحضرت في هذا السياق التطور المتخيَّل المتواصل من السمك إلى الطائر.يدرك كل حالم حقيقي بعالم سائل – هل تقوم حُلُمية دون انسياب ؟- حقيقة السمك الطائر.
يلقي نيتشه الصياد الهوائي؛ بصنارته من فوق رأسه. لا يصطاد في المستنقع أو الوادي، الكائنات الأفقية، بل في القمم،أعلى قمة في الجبل :
”أجيبوا على تلهّف الشعلة.
اصطادوا من أجلي، يا صياد القمم العالية،
عزلتي في السماء السابعة والأخيرة !”.
تكمن العزلة القصوى في عالم هوائي :
”آه يا عزلة السماء السابعة !
لم أشعر قط أني أكثر قربا من اليقين العذب،
ساخنة جدا هي نظرات الشمس
هناك في القمم العالية، لم يصبح الثلج بعد، مُحْمَرّا؟
فِضِّي اللون، خفيفا،مثل سمكة
حاليا، يندفع قاربي،صوب الفضاء…”.
مَرْكب في السماء، قلتُ بأنها صورة، تمثل مصدر تأمل شارد نصادفه ثانية عند شعراء كثيرين.تعتبر في أغلب الأحيان، نتاجا متخيَّلا لحلم مُتَهدهد، محمول، وانتشاء بالتقاعس. إنه زورق مدينة البندقية، لكن الحالم لاينحدر من هناك.
بالنسبة إلى نيتشه، ورغم بعض لحظات التراخي (زرادشت، الجزء الثاني، ص 399) عندما يستريح الحالم على متن:” قارب متعب، وسط أكثر البحار هدوءا”،فلا يشير هذا التأمل الشارد المُهَدْهَدِ والمسافر إلى أيِّ سمة من سمات شعر نوفاليس أو لامارتين.
يظهر رغبة نحو عدم اكتفائه ب”حياة أفقية”، بل تميزه تقريبا، اهتزازات عمودية (زرادشت، الرغبة الكبيرة، الطبعة الأولى، ص 366) :”يحلق المرْكَب فوق البحار الصامتة والملتهبة،غاية أن هذه الاعجوبة الذهبية، تطوِّق بذهبها المتوثِّب مختلف الأشياء الجيدة، الماهرة والمتفرِّدة” .مادام يحلق، ثم صار”روعة ذهبية”، فلأنه زورق انطلق من البحر نحو السماء، سماء مشمسة.
يوجه الحالم النيتشوي، بكيفية لارجعة معها،الهامة نحو الأعلى، مدركا أن زورقه لن يرجع به ثانية إلى جوار الأرض.
”صحاري، طموحات، تلاشى كل شيء
هادئة روحي وهادئ البحر”.
وسط السماء نفسها، يتجه الحالم بنظره نحو الاعلى، وقد عاد إلى وطنه الهوائي. (شعر، مجد وخلود، ص285 ) :
“أتأمل الأعلى
تنساب أمواج ضوء :
آه الليل ! آه الصمت ! آه صوت الموت !
تأتيني إشارة
من الأقاصي الأكثر بعدا
بتؤدة تنحدر وجهتي، كوكبة نجوم متلألئة
أعظم كوكبة نجوم في الوجود!
طاولة رؤى أبدية!
أنتِ من طرق بابي؟”.
هذا السرد عن سبر للعالم الأخلاقي بمثابة سفر هوائي يسلم الشاعر كواكب نجوم الوجود، ثم ”الصيرورة الأبدية” للوجود، وكذا البداهة”الكوكبية” للنزوع الأخلاقي. مادة وحركة، يرتبط التقويمان ضمن نفس الصور.تخيُّلكَ وكذا الكائن الأخلاقي أكثر تداخلا مما تعتقده النفسية المتعقِّلة، على استعداد دائم قصد تناول الصور باعتبارها مجازات. يعتبر الخيال، أكثر من العقل، قوة وحدة النفس البشرية.
طبعا، تحوي الشعرية النيتشوية أشكالا ديناميكية تفوق الصخرة في السماء الزرقاء، وشجرة الصنوبر المنتصبة التي تحدث الصاعقة وتحتقر الهاوية، ثم صورة السبيل نحو القمم، وكذا القارب المحلِّق.طبعا، يغمر الهواء والارتفاع المتخيَّلين، عالم من الطيور،على سبيل المثال، النسر السالب:
”ربما، طائر جارح،
يجازف متمسكا
مبتهجا بشَعْر الشهيد المكابِدِ،
بضحكة تائهة
ضحكة طائر الكواسر…
…………….
يلزم امتلاك أجنحة، حين عشق الهاوية…
لاينبغي أن تتمسك ،
كما لو أنك مشنوق ! ”.
هذا الخط الرأسي، والمتدلِّي التافه،ثم جثة الرجل الثقيل المحمول رغما عنه،عموديا بكيفية سلبية،تشير مختلف هذه الصور إلى تحول فعلي للقوة الإنسانية، وكذا ارتقاء الطائر صوب المرتفعات، حيث لاشيء “مدلَّى” أو”مُتَدَلٍّ” ،باستثناء فريسة مختطفة.
على العكس من ذلك، يمثل الشَّعْر هنا سمة هوائية عن إنسان صار منسيا في جسده. شَعْر، محرقة المادة الإنسانية ”دخان خفيف”، تقول صورة لليوناردو دافينشي.
طبعا، يمثل الطائر، حسب صيغة حركته المجردة ،دون زينة أو تغريد، بالنسبة للخيال النيتشوي، خطاطة ديناميكية رائعة. نقف في الأختام السبعة(زرادشت، الطبعة الأولى، ص337 )، على هذا المبدأ الحقيقي: ” إذا أمكن هذا تمثيل بدايتي ونهايتي،بحيث يصبح كل ثقيل خفيفا، ويغدو كل جسد راقصا، وكل فكر طائرا :فذاك حقيقة، بدايتي ونهايتي !”.
سيقترب جدا التحليق الجوي المطمئِنِّ، من التحليق الحُلُمي تحت عنوان :”الإقرار بالحب (وقد تناساه الشاعر)”(العلم المرح، ترجمة، ص 394) :
“آه ! رائع! لازلتَ تحلق ؟
يرتفع وأجنحته في حالة استراحة؟
ما الذي يحمله إذن ويتعالى به؟
أين الآن قصده، تحليقه، وسِمَته؟
………………………..
هل صعد حقا، أعلى مما يبدو تحليقه!
آه ! يا طائر القطرس!
تحفزني دائما رغبة صوب الأعالي”.
تتجدد باستمرار، مأساة التحليق الفاشل والمُخْتَصَر.يتأتى مصدر الخوف في “نشيد الثمالة”:”من كونه لم يحلق مثلما ينبغي نحو الأعلى”.مرح الرقص ليس كافيا :”الساق ليست بجناح” (زرادشت، الطبعة الأولى، ترجمة، ص464 ).
لكن،من خلال نجاحه الحاسم، تنبغي الإشارة إلى الخاصية المتهورة والمندفعة للتحليق النيتشوي (طاولات عتيقة وجديدة ، زرادشت، ص285 ) :”يحدث معي أن أحلق مرتعشا كسهم،عبر انتشاءات شمس ثملة”.يبدو أن النسر يخدش السماء(زرادشت، العَلاَمة، ص472) :”لقد استيقظ نسري، ويبجِّل الشمس مثلي. يمسك بمخالبه، الضوء الجديد”.
إنَّ تحليقا قويا ليس فاتنا، بل غاصبا.لانمنح قط كثيرا من الاهتمام إلى مباغتة النزوع السعيد نحو القوة الذي تأخذه بهجة التحليق الهائلة.حتى في خضم التحليق الحُلُمي،ليس نادرا أن الحالم يظهر للآخرين علو شأنه والتباهي بقوته المفاجئة.لذلك، يمثل طائر الجوارح حتمية قوة التحليق. يلزم الهواء، مثل باقي العناصر، أن يحظى بمحاربه. يتوافق الخيال والطبيعة بخصوص هذا التطور. قَدَرُ الخيال أن يكون مُهَاجِما.
كتب نيتشه في “الطاولات العتيقة والجديدة” (زرادشت):”وحدها الطيور لازالت موجودة فوقه.وإذا توخى الإنسان تعلّم مزيد من التحليق،فأيّ شقاء بالنسبة إليه!مادام لا يعرف حدود الارتفاع الذي يشرئب صوبه طموحه !”.
الطيور الجارحة، نوع من الطيور تحلق في أقصى الأعالي.فورا،سيتم الاقرار بنظير ذلك، من طرف فيلسوف ارتفاع متعجرف. ليست حياة نيتشه الهوائية،فرارا بعيدا عن الأرض، بل هجوما ضد السماء؛وفق تعابير يميزها طُهر المتخيَّل وقد تخلصت من كل صور التقليد. يستعيد ثانية هذا الهجوم ملحمة جون ميلتون عن الملائكة الثائرين. عَكَسَ ذلك، محض خيال هجومي، من خلال نجاحه. استمعوا إلى موطن الآلهة يردِّد صداه ضحكات المنتصِرِ :”يتجه غالبا عشقي الكبير إلى الأجنحة المرتعشة …بحيث تحملني بعيدا جدا، أبعد من القمم نحو الأعالي،على إيقاع الضحك”(زرادشت طاولات عتيقة وجديدة،ص285 ) الجيد لا معنى له :لأننا سنلج صحبة هذا التحليق الكبير،منطقة ”الحكمة المتوحشة”.بتأملنا هذا المفهوم يمكننا الاحساس بتمحور القيم.تتطور الحقيقة الأخلاقية في إطار تعارض؛الحكمة الجامحة،السماء المُهَاجمة،التحليق الهجومي، جُمْلة حركات قيم حول نفس محور الارتكاز.
يمكننا بخصوص تفاصيل طفيفة، قراءة إشارات لاتخدع أبدا.هكذا، يمزِّق مخلب النسر النور. جلي، صريح، متجرِّد، إنه مخلب ذكوري. أما مخلب القطة، فمتستِّر، مبطَّن، منافق،هكذا المخلب الأنثوي.
تعتبر القطة في الوصف النيتشوي للحيوان، حيوانا أرضيا بامتياز، تشخِّص دائما ارتباطا بالأرض.بالتالي، تمثِّل خطرا على الهوائي.القطة عند نيتشه – دون استثناء قطعا- امرأة . لنقدم مثالا واحدا. لقد كتب نيتشه، بخصوص إغراء الحب الساخن والمسلِّي :”تريد مداعبة كل الوحوش. نكهة نَفَسٍ ساخن، ثم قليلا من الفرو اللين في القوائم”.يستحيل الوقوف على وصف أفضل من هذا للقِطَّة والمرأة،في الوقت ذاته وبصيغة واحدة.
جلّ من يرحل إلى الهواء، يحظى بإمكانية الحصول على السمة النيتشوية، تلك الأفضلية الدامغة لدى كل من يرتقي. مثلا، يمكننا أن نرى في قصيدة (ص282) الصعود الصاعق للهُوَّة نحو السماء :
”فجأة، يرتقي وميض
ساطعا، مرعبا،صوب السماء :
الجبل نفسه تهتز أحشاؤه…”.
هذا الزلزال ليس نتيجة، بل غضب للهُوّة نفسها التي تأتى لها أن تبعث وميضا، مثل سهم نحو السماوات.
أيضا، بوسعنا تجميع إحالات عدَّة قصد البرهنة على الخاصية الديناميكية لإشراقات الفجر عند نيتشه !قد لا نأخذ سوى صفحة، وتكفينا كي نوضح بأنَّ السماء تهيئ بنشاط، تيقظا كونيا، في قلب كينونتنا نفسها (زرادشت قبل شروق الشمس، ص234 ) :
“آه السماء فوقي، صافية، عميقة ! هُوَّة ضوء ! وأنا أتأملكِ أرتعش برغبة إلهية.
“اقذفي بي صوب علوُّكِ،هناك يكمن عمقي !خبئني بين طيات طهركِ،حيث مكمن براءتي ! ”.
ليس هذا استقراء لتحليق ناعم، بل تدفق للكائن.أمام الشمس المشرقة، يتجلى أول شعور نيتشوي، يعكسه إحساس باطني بالإرادة، واتخاذ قرار، التحرك، سعيا للارتقاء في ظل حياة جديدة، بعيدا عن نَدَم التشاور، مادام كل تداول يعتبر صراعا ضد تحسُّرات خاملة، وأحاسيس بتأنيب الضمير، مكبوتة تقريبا.
الشمس المشرقة، براءة يوم جديد، هكذا يستيقظ العالم ثانية.فالفجر إذن،بمثابة حس عام لكائننا المستيقظ. أليست هذه الشمس الجديدة، متعلقة بي؟: ”أليست الضوء المنبعث من موقدي؟ أليست الروح الشقيقة لذكائي؟”. ألستُ مضيئا،حتى أرى ذلك بشكل نيِّر جدا؟
بالنسبة للخيال الديناميكي، الذي ينفخ ديناميكية رؤية حركية العالم الفيزيائية، تتبادل الشمس المشرقة والكائن الصباحي، تحريضا ديناميكيا :”لقد تعلمنا كل شيء معا،التسامي صوب الأعلى، بل نحونا وأن نرسم ابتسامات دون غيوم.تبسُّم ، بعيون لامعة، دون سحب، عبر أقاصي هائلة، حينما يغلي تحتنا كالمطر، إرغاما وهدفا وخطأ”.نعم، ليس فقط بهدف، لكنه وثْب، ومحض اندفاع. سهم قاتل، بالتأكيد، لكنه يتغاضى عن جريمته. توتُّرٌ ديناميكي وانبساط مرح.هكذا السِّهَام السوية للشمس المشرقة.
في الأسفل، تشم كل تلك الأمطار، في غليانها الدائري، رائحة العفونة وتدندن ببؤس. لكن بفضل سِهَام السماء، ينهض الكائن المستقيم ثم ينطلق.
هل ينبغي تذكّر الليل، مرة أخرى؟:”إلى أيّ شيء تصبو نفسي إبان الليالي، على مسالك الخطأ، وأنا أسير وحيدا؟ ثم ماذا أبحث في القمم، عندما أتسلق الجبال، إذا لم تكن أنت؟ ماغاية جلّ أسفاري وتسلقي : سوى حاجة وسبيل أخرق ؟ تركِّز كل إرادتي على هدف واحد، الشروع في التحليق، والانطلاق نحو السماء !” أريد وأحلِّق، نفس التحليق. يستحيل تطبيق سيكولوجية الإرادة دون الذهاب نحو جذر التحليق المتخيَّل.
ضمن كل الصور، يقدم شروق الشمس درسا لحظيا. يحدِّد غنائية للفوري. لايطرح أمام نيتشه صورة منظر عام، لكن يمدُّه بفعل.ولا يتسم عنده بنزوع تأملي بل يتموضع ضمن منظومة اتخاذ القرار.شروق الشمس النيتشوية، فعل قرار لارجعة فيه. إنه تحديدا،العود الأبدي للقوة. أسطورة العود الأبدي وقد تُرجمت من السلبي إلى الفعال. سنفهم بشكل أفضل هذه النظرية إذا أدرجناها لحساب نشاطات إرادة القوة.من يدرك كيفية الاستيقاظ على منوال الشمس، وسهم واحد،سيتعلم كيف يلقي يوميا بكيانه وجهة مصير يضطلع به ثانية، مثلما يسترجع كل يوم فتوة عشق قَدَرِه.
يبدو أن الحالم النيتشوي في تناغمه مع قوى الارتدادات الكونية، بوسعه مخاطبة الليل قائلا : “سأعمل على رفع الشمس. أنا حارس الليل الذي سيعلن عن ساعة الاستيقاظ، فليس الليل سوى حاجة طويلة للاستيقاظ”.منذئذ، يشكل الوعي بالعود الأبدي، وعيا بإرادة مُصَمِّمَة. وجودنا اهتدى ثانية إلى ذاته، ثم استعاد نفس الوعي وذات اليقين بأن يكون إرادة، وجودنا بصدد تصميم العالم مرة أخرى.
لن نفهم جيدا الكون النيتشوي إذا لم نطرح في المقام الأول الخيال الديناميكي، وتجاوزنا تصور الكون على شكل طاحونة هائلة تدور بشكل لانهائي كي تسحق نفس القمح.عالم كهذا أضحى مَيِّتا، أباده المصير. يعيش الكون النيتشوي وفق لحظات نعثر عليها ثانية جراء اندفاعات دائما فتية.هو تاريخ للشموس المستيقظة.
تضاف إلى هذا الخيال الديناميكي للحظة، وكذا سعادة الاندفاعات اللحظية، خصائص أخرى نوعية أكثر، إذا رأينا عن قرب أكثر النسيج الزماني لارتقاء نيتشوي، فسيظهر سريعا مبرر عميق للانفصال. بالتالي،لايوجد ارتقاء أبدي، ولاارتفاع قطعي.
تحديدا، تقطع العمودية أوصالنا؛لأنها تضع فينا خلال الآن ذاته، الأعلى والأدنى.سنعثر ثانية على حدس جدلي صادفناه من قبل لدى نوفاليس، يوحِّد بشكل دراماتيكي أكثر ضمن ديناميكية نيتشه، بين إيقاع الصعود والهبوط.
هكذا، يسخر شيطان الثِّقل من زرادشت مذكِّرا إياه بمصير السقوط الحتمي :”آه زرادشت…حَجَر الحكمة !لقد ألقي بكَ في الهواء، وكل حجر يرمى به عليه الوقوع ثانية !”.
“آه زرادشت، حَجَرالحكمة،حجر يلقى به،مدمِّرا النجوم !أنت نفسكَ من قُذف به عاليا جدا ، لكن كل حجر ألقي به، يلزمه الوقوع ثانية”.
جوهريا، جدلية الايجابي والسلبي، الأعلى والأدنى، تشدّ الانتباه بانذهال حينما نعيشها بخيال هوائي، مثل حبة مُجَنَّحة يشغلها، مع أدنى نَفَس، أمل الصعود أو الخوف من النزول.في المقابل، عندما نعيش حسب هذه الصورة، الخيال الأخلاقي النيتشوي، ندرك كَمْ أضحى الخير والشر متقاربين جدا، قياسا لما سلف، بل وأكثر، مدى التجلي الواضح جدا لكون الخير والشر، الأعلى والأدنى، أحدهما عِلّة للثاني. من ينتصر على التِّيه، يدمج هذه التجربة بين طيات انتصاره ذاته.إذا لم يبق انتصاره مجرد تاريخ وهمي، فسيبدأ ثانية المعركة مع حلول اليوم الجديد، ويجد الكائن نفسه دائما حيال ضرورة تأكيد الذات منبثقا.
بعد أن عاش نيتشه الاندفاعات المصيرية، اختبر أيضا جاذبية نحو المنحدر بأقل مجهود ممكن:”إنه المنحدر المرعب! حيث تسرع النظرة نحو الخلاء وتمتد اليد صوب القمة. هنا تمسك بالقلب دوخة إرادته الثنائية ”(زرادشت، من حكمة البشر، ص204 ).
لقد تكلمنا أعلاه عن تفاضلية الصعود.ثم سنكتشف ثانية في سياقنا الحالي، مثالا بخصوص هذه ”الإرادة الثنائية”.حركتان متعارضتان،امتزجتا هنا، بحيث اندمجت وانصهرت الواحدة في الثانية، تعاكس إحداهما للثانية، مثلما ضرورية الواحدة للثانية.كلما جاء الائتلاف بين الدوخة والانبهار وثيقا،تجلت بامتياز ديناميكية الكائن المنتصر.سنقف ثانية في” المسافر” (زرادشت، ص 218 )، على نفس الانصهار وكذا العقدة الديناميكية :”الآن فقط تقتفي أثر سبيلكَ صوب السمو ! فقد التبست حاليا القمة والهاوية”.
هكذا،حينما يرتقي وعي روح بدراما الأعلى والأدنى، فلن تطفو قط بين السمو والانحدار،دون اكتراث.لاتوجد بالنسبة إليها، مزايا متوسطة. إنها حقا روح”شخص من يَزِن”، تلقي في الفراغ بكل ماهو مريب.
يخبر نيتشه غير المؤهلين للتحليق ب”السقوط سريعا”(طاولات عتيقة وجديدة، ص20) .لاشيء يفلت من هذا الميزان الروحي:كل شيء قيمة، والحياة تثمين.أيّ حياة عمودية إلا وتضمنتها هذه المعرفة بالروح العمودية ! أليست حقا :”هي روح ترتقي بالنسبة إليها كل الأشياء مثلما تنحدر”.تعتبر الروح النيتشوية، ردّة فعل، تلقي جانبا القيم الخاطئة وتتسامى بالحقائق.
باختصار، ليست حالة الروح المتسامية، عند نيتشه مجرد مجاز.يستدعي فترة : ”تغدو خلالها تحديدا مجرد حالة معتادة، بالنسبة لأرواح المستقبل، تلك الحالة الاستثنائية، التي انتابتنا سابقا بارتجاف، هنا وهناك: دوام الذهاب والإياب، بين الأعلى والأدنى، إحساس بالأعلى والأدنى، ثم تسلق مستمر للطبقات وفي نفس التوقيت التحليق فوق السحب”(نيتشه، القديس جانواريوس، ترجمة، ستوك، ص 24). نميز عند النيتشويين (ص34) :”حاجة الارتفاع في الأجواء دون تردد، ثم التحليق خلف اندفاعنا…نحن طيور أخرى، وُلِدْنا أحرارا ! أينما رحلنا، يصير كل شيء حولنا،حُرَّا ومشْرِقا”.
نستنتج فيما يتعلق بهذه النقطة،على أنّ جلّ الملاحظات بخصوص الحياة الروحية ليست مجازات فقيرة سوى بالنسبة للذين ينسون أولية الخيال الديناميكي.من يريد حقا أن يحيا الصور، يكتشف الحقيقة الأولى لسيكولوجية الأخلاق. سيتموضع عند نواة الميتافيزيقا النيتشوية، التي مثلما أعتقد، جَسَّدت مثالية للقوة، مع أنّ التعبير يثير اشمئزاز نيتشه.تكمن مسلمة هذه المثالية، فيما يلي: الكائن الصاعد والمنحدر، بمثابة كائن يصعد وينحدر من خلاله كل شيء. لايتموضع الثِّقل فوق العالم، بل على روحنا وفكرنا وفؤادنا، يجثم على الإنسان.
من استطاع هزم الثِّقل، أي الإنسان الأعلى، سيحظى بقوة خارقة، تحديدا الطبيعة التي تتخيَّلها نفسية الهوائي.
يلزم دائما بين صفحات دراسة أكثر تطورا عن الخيال المتعالي، الارتباط بتمييز النفسيات التي تتحدد داخل عنصر في مثل تجانس الهواء. مهمة صعبة، لكنها جوهرية.أنا متأكد جدا من تناول وحدة للخيال، فقط حين تمييزه عن وحدة مجاورة.لنعد لحظة، قصد ابداء مزيد من التوضيح ،للاختلافات التي تفصل نيتشه عن شيلي .
انقاد شيلي خلف استلهام السماء اللانهائية، تبعا لانجذاب بطيء وناعم.بينما يقتحم نيتشه الفضاء والعلو، بإسقاط لحظي وفوق إنساني.
يفرُّ شيلي من الأرض، في إطار اندفاع للرغبة.بينما يمنع نيتشه الفرار، عن جميع المتطلعين إلى الحياة الهوائية.
”لاتفرُّوا أبدا من ذواتكم
أنتم ايها الصاعدون”
يجد شيلي ثانية، في المناطق المرتفعة، أفراح الهَدْهَدة. بينما يعثر نيتشه في المرتفع على محيط هوائي :”صاف، شفاف، شديد البأس، وكهربائي بقوة”،”محيط هوائي رجولي”، (نيتشه، القديس جانواريوس ، ترجمة، ستوك، ص 24 ).
يستنكر نيتشه السكون أينما تجلى :
”تتوقف شاحبا تماما،
محكوم عليكَ أن تهيم في أوج فصل الشتاء،
مثل دخان يبحث باستمرار عن سماوات أكثر برودة”.
برودة تعتبر في نهاية المطاف، خاصية نوعية للديونيزوسية النيتشوية، الغريبة عن كل شيء مادامت تقطع مع النشوة والسخونة.
قد نحاول تفسير حماسة المرتفعات بواقعية الحياة الجبلية.نتذكر إقامات نيتشه الطويلة في سيلز ماريا،هناك جاءته سنة 1881، فكرة زرادشت : ”عند ارتفاع 6000 قدم على سطح البحر بل وأكثر ارتفاعا حقا قياسا لكل الأشياء البشرية”.نشير كذلك بأن ”الجزء الحاسم” من الكتاب الثالث لزرادشت : موائد قديمة وجديدة :”أُنجز خلال أكثر فترات الصعود وعورة من المحطة إلى القرية الرائعة ”مور إيزا”، المتواجدة وسط الصخور”، “تحت السماء الرائقة لمدينة نيسNice ”، خلال أكثر فصول الشتاء الساطعة.
لكن واقعية من هذا القبيل، تفتقد إلى القوة التفسيرية التي نعزوها لها. لايبدو أن نيتشه ارتقى حقا غاية قمم :” ظَبْي الجبل نفسه، افتقد كل أثر له”.نيتشه ليس متسلقا. لقد تردد في نهاية المطاف كثيرا على الهضاب المرتفعة مقارنة مع القمم، مؤلفا قصائده في الغالب حين انحداره ثانية من العلو، عائدا إلى القرى حيث يعيش الأفراد.
بيد أنَّ مناخ المتخيَّل أكثر حسما من المناخ الواقعي.خيال نيتشه أكثر تثقيفا من كل تجربة. يشيع مناخا من الارتفاع المتخيَّل، ويهتدي بنا وسط عالم غنائي خاص.تكمن أولى تحولات القيم النيتشوية في تغير الصور، وقد ارتقت بثراء العمق نحو هالة الارتفاع.
يبحث نيتشه عن ما وراء العمق، أي أبعد من الشر والارتفاع، بمعنى وجهة أخرى للنُّبل، ولا يكتفي فقط بما دأب عليه التقليد المتعلق بالحظوة.ينزع بكل القوى المعنوية صوب دواخل هذه الأقطاب المتخيَّلة، رافضا كل”تقدم” مادي أداتي يظل مجرد تقدم أفقي، دون تحول على مستوى كائننا الثقيل.
ركَّزَ نيتشه كل مقدرته الغنائية من خلال تبدُّل للثقيل إلى الخفيف ثم الأرضي نحو الهوائي.هكذا، جعل الحفر تتكلم لغة القمم. بغتة ترددت داخل الكهف أصداء هوائية :”أيّ سعادة…إنها الهُوَّة من يتكلم. لقد عدت نحو نور عمقي الأخير !”(زرادشت، المتماثل للشفاء، الطبعة الأولى، ص 314).
سيتأتى لنا أيضا التحدث عن الرمز والمجاز والاستعارة، ملتمسين من الفيلسوف كي يحدد لنا دروسا أخلاقية قبل الصور.غير أنه، إذا لم تلتصق الصور بالفكر الأخلاقي، فلن تعرف حياة واستمرارية كتلك.
تعتبر النيتشوية في نظري، مانويةmanichéisme للخيال.إنها مقوِّية وصحِّية مادامت تفعِّل كائننا الديناميكي وتجذبه نحو الصور الأكثر فعَّالية.ضمن وضعية يتصرف الكائن الإنساني وفقها حقيقة، بناء على موقف يستثمر حتما وجوده، فعلينا التمكن من العثور، على المنظور الثنائي للعلو والعمق، إن تبلورت أطروحاتنا.ألانتبَيَّن إرادة ثنائية للثراء والاندفاع، مع فكر الفجر :”إنكم لاتعرفونه أبدا: بوسعه فعلا تعطيل أثقال بعده، منتقلا بها صوب المرتفعات. تحكمون، حسب انطلاقتكم الصغيرة، أنه يريد المكوث عند الأسفل لأنه يعلِّق هذه الأثقال خلفه”.
أعتقد، بأنَّ نيتشه، اعتُبر كأحد أكبر فلاسفة سيكولوجية التعالي من خلال هذا البيت الشعري الوحيد :
إنَّكَ عمق كل القمم.
هوامش:
*مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp :146 -185.
(1)Nietzsche : le crépuscule des idoles. trad.Albert .p.115.
(2) قصائد ” Ecco Home”، ترجمة ص.258