ترجمة: سعيد بوخليط
”يجب أن يشكِّل موضوع الشعراء أكبر دراسة بالنسبة للفيلسوف الذي يرغب في اكتشاف الإنسان”(جوزيف جوبير/أفكار)
مثل كثير من القضايا النفسية، اضطربت الأبحاث حول الخيال بالإضاءة الخاطئة لمبحث الاشتقاق. نريد دائما أن يكون الخيال بمثابة قوة لتشكيل الصور. غير أنه يمثل بالأحرى قوة لتغيير شكل الصور التي يقدمها الإدراك، بل خاصة تلك القدرة على تحريرنا من الصور الأولى، وكذا تحوُّلها. إذا لم تعرف الصور تغيُّرا، وتآلفا غير متوقع، فلا وجود للخيال، وليس هناك فعل متخيِّل.
أيضا، لايمكننا الحديث عن الخيال، إذا لم تحفزنا صورة حاضرة للتفكير في أخرى غائبة، ولم تحرض صورة عَرَضِيَّة على خصوبة صور أخرى ضالّة، وكذا انفجار للصور. يتعلق الأمر بإدراك حسي، ذكرى تصور، ذاكرة مألوفة، وعُرْف على مستوى الألوان والأشكال. لذلك، تعتبر تسمية وهمي وليس صورة، اللفظة الجوهرية المناسبة للخيال.
تتحدد قيمة صورة نتيجة امتداد نفوذها المتخيِّل. هكذا، يصبح الخيال بالضرورة منفتحا، مراوغا. يجسِّد داخل النفسية الإنسانية تجربة الانفتاح، بل والحداثة نفسها. يميز النفسية الإنسانية، أكثر من أيِّ قوة ثانية، مثلما أكد ويليام بليك :”ليس الخيال مجرد حالة، بل يمثل الوجود الإنساني ذاته”(1). سنقتنع على نحو يسير أكثر بحقيقة هذه القولة، إذا نحن درسنا، مثلما سنفعل منهجيا في هذا الكتاب، الخيال الأدبي، الخيال المنطوق، الماسك باللغة، مبلورا النسيج الزماني للروحية، ومتخلصا بالتالي من الواقع.
على العكس، عندما تتخلى صورة عن مبدئها المتخيِّل ثم تتوطد في إطار صيغة مطلقة، ستأخذ شيئا فشيئا سمات الإدراك الماثل. بعد ذلك، عوض تحفيزها لنا على الحلم والكلام، سنكتفي معا بالتأثر. حين الإقرار بأن صورة راسخة ومكتملة، تقطع أجنحة الخيال. فسيحرمنا ذلك من خيال حالم يرفض الانحصار عند صورة بعينها، يمكننا تسميته حينئذ خيالا دون صور من خلال أسلوب نقبل معه بفكر دون صور.
بالتأكيد، تبعا لحياته الخارقة، ينطوي المتخيِّل على صور، لكنه يطرح نفسه دائما أبعد من صوره تلك، ويتجاوزها باستمرار. القصيدة أساسا بمثابة طموح وجهة صور جديدة، بحيث تتطابق مع الحاجة الجوهرية للحداثة التي تميز النفسية الإنسانية.
هكذا، فالخاصية التي يضحي بها تحليل نفسي للخيال غير مهتم سوى بإنشاء صور، تعتبر أساسية، وبديهية، يعرفها الجميع :إنَّها حركة الصور. هناك تعارض – داخل هيمنة الخيال مثلما بالنسبة لمجالات أخرى- بين التشكل والحركية. وبما أن وصف الأشكال أكثر يسرا من وصف الحركات، سيرتبط تبرير ذلك بكون التحليل النفسي ينشغل أولا بالمهمة الأولى. في حين، تعتبر الثانية أكثر أهمية. هكذا، يمثل الخيال، قبل كل شيء بالنسبة لمقاربة نفسية متكاملة، نمط حركية روحية، الأكبر والأكثر حياة وبقاء. يلزم، إذن أن نضيف منهجيا إلى دراسة صورة معينة دراسة حركتها خصوبتها وحياتها.
هذه الدراسة ممكنة، لأن حركة صورة تبقى محدَّدَة. غالبا، تعتبر نوعية حركة صورة معينة. إذن، يلزم التحليل النفسي لخيال الحركة أن يعيِّن مباشرة حركية الصور. ثم يقودنا كي يتعقب رسما تخطيطيا بخصوص كل صورة، يختزل حركيتها. سنعرض بين صفحات هذا العمل مخطط دراسة من هذا القبيل.
نترك إذن جانبا تلك الصور الفاترة، التي تشكَّلت ثم أضحت كلمات محدَّدة جدا. أيضا، مختلف الصور التقليدية بوضوح كما الشأن مع صور الأزهار المتواترة جدا في معشبة الشعراء. تصدر عن أثر تقليدي، يزخرف الأوصاف الأدبية. لذلك خسرت سلطتها الخيالية.
في المقابل، هناك صور أخرى جديدة تماما. تعيش حياة اللغة الحية. نختبرها، في إطار غنائيتها الفعلية، وكذا إشارتها الحميمة التي تنعش الروح والقلب؛بحيث تمنح – هذه الصور الأدبية- أملا نحو شعور، وقوة نوعية بخصوص قراري أن أكون شخصا، بل وطاقة لحياتي الفيزيائية. هكذا، يصبح فجأة بالنسبة إلي الكتاب الذي انطوى عليها بمثابة رسالة حميمة. صور، تلعب دورا في حياتي، أستلهم منها الحيوية. يرتقي بفضلها، الكلام، الفعل، الأدب نحو مرتبة الخيال المبدع. حينما، يعبِّر الفكر عن ذاته من خلال صورة جديدة، يغتني بإثرائه اللغة. يغدو الكائن كلاما. يتجلى الكلام عند أوج نفسية الكائن، وينكشف باعتباره صيرورة فورية للنفسية الإنسانية.
كيف نجد قياسا مشتركا بخصوص إغراء أن تحيا وتتكلم؟لن يتحقق ذلك ربما سوى بمضاعفة تجارب الرموز الأدبية، والصور المتحركة، عبر الاحتفاظ، حسب وصية نيتشه، لكل شيء بحركته الخاصة، ثم نرتِّب ونقارن مختلف حركات الصور، ونرصد جل ثراء الاستعارات المتربصة بلفظة. يلزمنا التساؤل، فيما يتعلق بكل صورة تذهلنا، عن التالي:ماهو الحماس اللساني الذي أثارته لدينا هذه الصورة؟كيف ننتزعها من داخلنا المترسِّخ بذكريات مألوفة.
لكي نشعر بالدور المتخيِّل للغة، يلزمنا البحث بأناة، فيما يتعلق بمختلف الكلمات، عن رغبات الغيرية، والمعنى المزدوج وكذا المجاز. ينبغي بكيفية أكثر عمومية، تعيين مختلف رغبات التخلي عن مانراه ونقوله لصالح مانتخيَّله. هكذا، سيحالفنا الحظ بأن نعيد للخيال دوره على مستوى الإغواء. نتجاوز بفضل الخيال المسار العادي للأشياء، ندرك ونتخيل هما على قدر من التناقض، كما الحال بالنسبة للحضور والغياب. أن تتخيل معناه تغيب، وتبتعد منطلقا وجهة حياة جديدة.
غالبا، هو غياب بلا قانون، وانطلاقة بلا مثابرة. يكتفي التأمل الشارد، كي ينتقل بنا صوب هناك دون التمكن حقا من أن نعيش جل صور المسار. يذهب الحالم على غير هدى التيار.
لايكتفي شاعر حقيقي بهذا الخيال المراوغ. ويريد أن يكون الخيال سفرا. ندين لكل شاعر بدعوته إلى السفر. دعوة، تحس معها كينونتنا الحميمة باندفاع عذب، يهزُّنا، ويبلور تأملا شاردا ملائِما، ديناميكيا حقا. إذا اختيرت الصورة الأولى بشكل جيد، فستنكشف مثل اندفاع نحو حلم شعري محدَّد جدا، وكذا حياة خيالية لها قواعد حقيقية لصور متتالية، دلالة حيوية حقيقية. ستأخذ الصور التي توضع ضمن سلسلة نتيجة دعوة السفر، حيوية نوعية في إطار نظامها المنتقى بعناية ستمكننا عبر الحالات التي سنقف عليها طويلا بين صفحات هذا العمل، من تحديد حركة للخيال. حركة، تتجاوز إطار مجرد كونها استعارة. سنختبر ذلك فعليا بين ثنايا دواخلنا، في أغلب الأحيان مثل تخفيف للحمولة، وكذا سهولة على مستوى تخيل صور تابعة، وأيضا مثل حماسة اقتفاء خطى الحلم الساحر.
إن قصيدة رائعة بمثابة أفيون أو نبيذ، وغذاء مهدئ للأعصاب، يلزمها أن تبعث فينا تحريضا ديناميكيا. سنحاول في هذا السياق، إعطاء تصور بول فاليري العميق حين قوله :”الشاعر الحقيقي يلهم”، تعدديته الحقيقية. لايكشف شاعر النار وكذا الماء والأرض، عن نفس وحي شاعر الهواء.
لذلك تتباين جدا دلالة السفر المتخيَّل حسب اختلاف الشعراء. يكتفي بعضهم على استدراج قرائهم نحو بلد جذاب. يريدون العثور ثانية في مكان آخر مايرونه يوميا حول ذواتهم. يشحنون الحياة المعتادة جمالا، ويفرطون في ذلك. لانحتقر هذا السفر نحو بلد الواقع يتسلى معه الكائن بسعر زهيد. حقيقة يستلهمها الشاعر، تمتلك على الأقل حداثة إضاءة جديدة. لأنه يكشف لنا تميزا دقيقا عابرا، سنتعلم تخيُّل كل تميز باعتباره تغيرا. وحده الخيال قد تكون له فوارق دقيقة، يعرضها عند الانتقال من لون نحو لون آخر.
توجد إذن في هذا العالم الشائخ، أزهار لم نراها جيدا، ونحسن النظر إليها لأننا لم نلتقط تغيرات درجات ألوانها. أن تزهر، يعني الكشف عن فوارق دقيقة، إنها باستمرار حركة ذات صبغة. إن الذي ينتبه في حديقته لكل الورود، وهي تتفتح وتتلون، يعاين سلفا ألف نموذج بخصوص ديناميكية الصور.
غير أنَّ الحركية الحقيقية، ذلك التأهُّب في ذاته والمتخيَّل لايُسْتنفر جيدا من خلال وصف الواقع، ولا أيضا صيرورته. يكمن سفر الخيال الحقيقي، في الرحيل صوب بلد المتخيَّل، ضمن إطار المتخيَّل نفسه. لانقصد بهذا إحدى المدن الفاضلة التي تقدم نفسها دفعة واحدة جَنَّة أو جحيما، قارة أطلانطيس أو طيبة. Thébaïde ينصب اهتمامنا على رحلة من هذا القبيل، وكذا وصف الإقامة فيها.
والحال أن مانتوخى حقا استحضاره بين فقرات هذا الكتاب، يكمن في محايثة الخيالي للواقع، أي تلك المسافة المتواصلة من الواقعي إلى المتخيَّل. لم نَعِش سوى نادرا التحوير الخيالي البطيء الذي يتيحه الخيال أمام التصورات الحسية. لم نحقق جيدا الحالة السحرية للنفسية المتخيِّلة. إذا أمكننا مضاعفة تجارب تحولات الصور، سنفهم مدى عمق ملاحظة بنيامين فوندان(2) :”أولا، الشيء ليس واقعيا، بل يعتبر مرشدا جيدا للواقع”.
بناء عليهِ، سيكون بحسبنا الموضوع الشعري، الديناميكي مثلما ينبغي نتيجة اسم مفعم بالأصداء، مرشدا جيدا للنفسية المتخيِّلة. يلزم، هذا البثّ، استدعاء الموضوع الشعري باسمه القديم، عبر إعطائه بكيفية مضبوطة حجمه الصوتي، من خلال إحاطته بكاشف للذبذبات الكهربائية، تُنْطق نعوتا فيتمدَّد إيقاعها، وكذا حياتها الزمنية. ألم يقل ريلكه(3) :”لكي تبدع مقطعا شعريا واحدا، تحتاج إلى زيارة مدن كثيرة، وتعاين العديد من البشر والأشياء، يلزمك أن تكتشف حيوانات، وتحس بكيفية تحليق الطيور ثم تتأمل حركة الأزهار الصغيرة لحظات تفتُّحها صباحا”.
يمثل كل موضوع متأمَّل، واسم كبير مهموس انطلاقة حلم وكذا فاتحة بيت شعري، إنّه حركة لسانية مبدعة. كم من مرة بجانب بئر، على الحجر القديم الذي تكسوه أعشاب الحُمَّاض البرية والسرخس، همستُ باسم المياه البعيدة، وكذا اسم العالم المتواري. عديدة هي المرات التي خاطبني الكون خلالها… آه إنها أشيائي ! كم تكلَّمنا !
أخيرا، لايبلور السفر إلى العوالم المتخيَّلة البعيدة، نفسية ديناميكية إلا إذا أخذ وجهة سفر نحو بلد اللانهائي. في خضم سيادة الخيال، ينضم التعالي إلى كل محايثة. إنها ذات قاعدة التعبير الشعري لتجاوز الفكر. بالتأكيد، يظهر غالبا هذا التعالي فَظّا، زائفا، محَطَّما. أحيانا، كذلك ينجح سريعا جدا، بحيث يبدو سرابا، متبخِّرا، مُبَعْثَرا. فهو سراب، بالنسبة للكائن المتأمِّل، لكنه سراب ساحر. ينتج ديناميكية خاصة، تشكل سلفا حقيقة نفسية يقينية.
يمكننا إذن تصنيف الشعراء بأن نطلب منهم الإجابة على السؤال التالي :”أخبريني عن اللانهائي بالنسبة إليكَ، حتى أستلهم معنى عالمكَ، هل يتعلق الأمر بلانهائي البحر أو السماء، الأرض العميقة أو أرض مخزن الحطب؟”. ضمن مضمار سيادة الخيال، فاللانهائي منطقة يتجلى الخيال معها باعتباره محض خيال، يكون حرا ووحيدا، منهزما ومنتصرا، متغطرسا ومرتجفا. إذن، تنطلق الصور وتتلاشى، ترتفع وتتحطم خلال ارتفاعها نفسه. هكذا، تُطرح بشكل ملموس واقعية اللاواقع، ندرك الأشكال من خلال تغيُّر هيآتها. الكلام نبوءة. أما الخيال، فيتجاوز البعد النفسي، ويأخذ مظهر نفسية طليعية تستحضر وجودها.
لقد جمعنا فعلا، في كتابنا الماء والأحلام، صورا يسقط من خلالها الخيال انطباعات حميمة على العالم الخارجي. ثم، بدراستنا النفسية الهوائية بين صفحات الكتاب الحالي، فسنقدم أمثلة يعرض الخيال الكائن بأكمله. عندما نذهب أبعد من ذلك، صوب أقصى مستويات الارتفاع، فسنكتشف فعلا بأننا في خضم حالة خيال مفتوح.
يتلهف الخيال في مجمله، نحو حقائق المحيط الهوائي، يضاعف كل إحساس بصورة جديدة. يشعر الكائن، مثلما يقول ماريا ريلكه، قبل تحوله إلى موضوع مكتوب:”هذه المرة، إذا حدث وأضحيتُ موضوعا للكتابة، فسأكون انطباعا متغيِّرا”(4).
يعمل الخيال إبان هذا الانتقال، على بعث واحدة من هاته الورود المانويَّة التي تبعثر ألوان الخير والشر، وتنتهك قواعد القيم الإنسانية الأكثر ثباتا. نقتطف مثل هذه الورود من بين طيات أعمال نوفاليس، شيلي، إدغار بو، بودلير، رامبو، نيتشه. حينما ندلِّلُها، نجرب إحساسا مفاده بأن الخيال يمثل إحدى صيغ الشجاعة الإنسانية. بحيث تتأتى لنا جراء ذلك ديناميكية مجدِّدة.
سنحاول تبعا لذلك تقديم مساهمة إيجابية بخصوص التحليل النفسي لهذين النمطين المتعلقين بالتسامي:تسامي استطراديّ يتطلع نحو هناك، وكذا تسامي جدلي بصدد بحثه عن المجاور. دراسات من هذا القبيل ممكنة، تحديدا، لأن الأسفار المتخيلة واللانهائية تمتلك خطوط سير عديدة أكثر انتظاما مما نعتقد.
لقد استفاد كثيرا علم الآثار الحديث، مثلما لاحظ فردناند شابوتيي(5)، بتشكيل سلسلات منتظمة للوثائق. فقد سمح الاستعراض البطيء لحياة الأشياء عبر قرون كي نستنبط أصلها. أيضا، حينما نفحص سلسلات مختارة جيدا عن الوثائق النفسية، سنندهش نتيجة انتظام تدرجها؛ونستوعب بشكل أفضل ديناميكيتها اللاواعية. كذلك، بوسع توظيف مجازي جديد إضاءة آثار اللغة.
سنقارب من خلال هذه الدراسة، الأسفار المتخيلة الأكثر تملُّصا والمحطات الأقل ثباتا، صورا غالبا مائعة، ورغم كل شيء، سنلاحظ بأن هذا الهروب، والطفو، والرخاوة، لاتمنع حياة خيالية حقا منتظمة، بل تبدو كأنها اختلالات تمنح أحيانا مسلكا محدَّدا جدا بحيث يمكنها تقديم خطاطة لتماسك قوامه الحركة.
في الواقع، تكشف بوضوح الطريقة التي نتخلص بها من الواقع حقيقة جوهرنا. يعتبر عُصَابيا الكائن المحروم من وظيفة اللا-واقع تماما مثل الكائن المفتَقِد لوظيفة الواقع. وبوسعنا القول بأن اضطرابا على مستوى وظيفة اللا-واقع يؤثر على وظيفة الواقع. وإذا تمت وظيفة الانفتاح، باعتبارها تحديدا وظيفة الخيال، على نحو سيئ، يظل الإدراك نفسه ضعيفا. يلزمنا إذن العثور على تسلسل منتظم من الحقيقي إلى الخيالي. يكفي أن نصنف جيدا سلسلة الوثائق النفسية كي نعيش هذا التسلسل المنتظم.
يستند هذا الانتظام إلى انقيادنا خلال البحث عن المتخيَّل خلف مواد أساسية، وعناصر متخيَّلة لها قواعد مثالية يقينية تماما كالقواعد التجريبية. نسمح لأنفسنا هنا قصد التذكير ببعض الكتب الصغيرة الحديثة درسنا بين طياتها، تحت اسم الخيال المادي، هذه الحاجة المدهشة ل”الاختراق”، والتي فيما وراء إغراءات خيال الأشكال، ستتأمل المادة، تحلم بالمادة، تعيش داخل المادة أو – الأمر نفسه- تجسيد المتخيَّل. نعتقد بأننا بلورنا خطابا يتطرق إلى قاعدة الخيالات المادية الأربعة، قاعدة تنسب بالضرورة إلى خيال مبدع، واحدا من العناصر الأربعة:النار، الأرض، الهواء والماء .
مما لاشك فيه، بوسع العديد من العناصر التدخل كي تؤسس صورة خاصة؛هناك صور مركَّبة؛لكن حياة الصور ذات انتماء سُلالي خالص وأكثر إلحاحا. ما إن تكشف الصور عن حضورها في صيغة سلسلة، حتى تحدد مادة أولى، وعنصرا جوهريا. تمتثل فيزيولوجيا الخيال، بل وأكثر من ذلك تشريحه، لقاعدة العناصر الأربعة.
ألا نخشى من الوقوع في تناقض بين أعمالنا السابقة وكذا الدراسة الحالية؟إذا كانت هناك قاعدة للخيالات المادية الأربعة تلزم الخيال كي يركز على مادة معينة، ألن يجد الخيال هنا مبررا للثبات وكذا الرتابة؟بالتالي، لاجدوى من دراسة حركية الصور.
ليس الأمر كذلك، مادمنا لانتخيَّل عنصرا من العناصر الأربعة في إطار قصوره؛ بل وفق دينامكيته الخاصة، إنَّه يمثل واجهة سلسلة تستدعي نمطا من الانتساب بالنسبة للصور التي تكشف عنها. لكي نستعمل مرة أخرى التعبير الرائع لفوندان، يجسد كل عنصر مادي مبدأ مرشدا جيدا يمنح الاستمرارية إلى نفسية متخيِّلة. أخيرا، كل عنصر تبناه الخيال المادي بحماس، يهيئ بالنسبة للخيال الديناميكي، تساميا خاصا، وتعاليا نموذجيا.
سنقدم الدليل، على امتداد هذه الدراسة ونحن نقتفي أثر الصور الهوائية. سنكتشف بأن التسامي الهوائي، بمثابة التسامي الاستطرادي الأكثر نمطية، تبدو مستوياته أكثر جلاء وانتظاما. تتواصل وفق تسام جدلي سهل، بل في غاية السهولة. يظهر بأن الكائن المحلِّق يتجاوز المحيط الجوي حيث يحلِّق، بحيث يقدم دائما الأثير نفسه، قصد التسامي بالهواء؛وبأن مطلقا ما، يحقق الوعي بحريتنا. هل تنبغي بالتالي الإشارة، إلى أن الصفة الأقرب في خضم سيادة الخيال من اسم الهواء، هي صفة حر؟فالهواء الطبيعي، هواء حر.
يلزمنا إذن مضاعفة انتباهنا نحو حرية لم نتمثّلها جيدا، أمام استحضار سريع جدا لدروس الهواء الحر، وكذا الحركة الهوائية المحرِّرة. سنحاول الولوج إلى تفاصيل التحليل النفسي للهواء مثلما فعلنا مع التحليل النفسي للنار وكذا الماء. سيكون استقصاؤنا مختصرا بناء على وجهة نظر الخيال المادي، لأن الهواء مادة فقيرة. لكن في المقابل، سنحظى مع الهواء بامتياز كبير فيما يخص الخيال الديناميكي.
فعلا، مع الهواء، تتصدر الحركة العنصر. في حين لا وجود للعنصر سوى بوجود الحركة. تمكننا النفسية الهوائية من تحقيق مراحل التسامي.
……………………..
*مصدر المقالة :
Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943. PP :10 -18.
(1)ويليام بليك : كتاب النبوءة الثاني، ترجمة بيرجي، ص143 .
(2)بنيامين فوندان : دراسة إيستيتيقية زائفة، ص 90 .
(3)راينر ماريا ريلكه : دفاتر مالتي لوريدس بريجي. ترجمة بيتز. ص 25
(4)ريلكه نفسه، ص 74
(5)فيرناند شابوتيي : التوأمان كاستور وبوليكس في خدمة الإله. باسيم .