غادة خليفة تغزل من الألم نسيجا يستيقظ

مذكرات اليوم الثاني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ملف من إعداد دعاء فتوح

 

"عبر سماء/ تتسع لاختلافنا/ يمكننا إعادة خلق المسافة بين رسالة وأخرى/ بين السطح والشرفة/ بين الحقيقة والوهم"

منذ أعوام طويلة، كنت أتخبط في مساحتي الضيقة، وتلوح أمامي كلمات صديقتي التي كانت شاعرة، كانت تقول لنفسها برثاء بالغ: "لن تنضج تجربتي في الكتابة إلا إذا تزوجت، فالزواج فرن الإبداع الناضج، ومن دونه سأدور في دوائر مغلقة"، تلك الكلمات لم تروق لي، ولم أقبلها أبدا، كنت ومازلت أؤمن أن الزواج والارتباط أمرا لا نملكه، نحن فقط نملك أن نحب، فلما نُدْفَن أحياء، إذا لم نجد ما لا نملك؟، نحن نملك ذاتنا، فلماذا نُضيعها في رثاء باهت؟، ومرت الأيام وتزوجت تلك الصديقة، والغريب، أنها اكتفت بالزواج، وكفّت عن الشعر!!


كنت وقتها تلك الفتاة الساذجة الخائفة والباحثة عن حب وحياة سعيدة، وفي نفس الوقت باحثة عن ذاتي وغير عابئة بمصيري إذا لم أجد ذلك الحب؛ لأنني لا أملك سوى أن أنسكب فوق الأوراق وأراني من كل زاوية، فأقبل نفسي وأحبها كما هي، أنا الآن أملك حبا حقيقيا من زوج وابنة حبيبة، ولكنني بعد غوص صادق، في تجربة ألم شاعرة حقيقية، أسأل نفسي: هل أفرح بتلك المعادلة وتلك الهبة الربانية التي جنبتني ألم وحدة قد لا أجرؤ على المضي بها وسط تجاربنا الشرقية المبتورة، أم أنعي حظي أنني لم أكن تلك الوحيدة الفذة، التي تغزل من الوحدة والألم نسيجا يستيقظ؟!


غادة خليفة التي قرأتها موزعة في ثلاثة دواوين، "تقفز من سحابة إلى أخرى"*(1) لـ"تسكب جمالها دون طائل"*(2) وهي تغزل "نسيج يستيقظ"*(3)، تجري في دماء الشعر، لا العكس، تعيد تدوير الألم والمشاعر إلى صور فارقة، وسط ألم ودهشة تعيشها، لذا لا تضع أبدا (علامات تعجب) أمام أكثر الصور دهشة وغرابة، فهي لا تدرك أنها جزء من الفقد والحزن، تتشكل بداخلهم لتصنع صورتها الفذة، فتسأل نفسك في تعجب، كيف يمكن لروحها تلك، التي يبدو عليها الضعف، أن تحمل كاميرا ثقيلة تدور فوق اليومي والعادي لتخلق تلك المفارقات المدهشة، من تجاربنا التي نحيها فلا نكترث لها؟!

 فمثلا تجربة النساء الأزلية في استقبال دماء المحيض الشهري تتحول إلى:


"بقعة الدماء تتسع

الأطفال بداخلي يمسكون مناجل صغيرة، ويحاولون ثقب بطني

يصرخون داخل أحلامي ويكتبون الرسائل لي؛ كي أفهم

"أيتها الأم المغرورة لماذا لا تسمحين لأي رجل بالاقتراب منك"

طفلتي تتمشى على السقف ممسكة بساعة كبيرة تدق

الفزع يغزو ملامحها

ملامحها تختفي ببطء كلما مر الوقت

أقف لأغسل دماء أطفالي الذين ذهبوا،

وأهمس لنفسي: ربما لن يكون هناك فرصة أخرى

"أيتها الأم الزائفة لماذا تضيعين كل أطفالك"

يصدمني أنها لا تضع علامات استفهام أو تعجب، هي تحيا العادي في ثوب المتخيل، فيصبح الخيال حقيقيا ويوميا وعاديا!!


كما أبتسم في نفسي من سذاجة كلام الصديقة القديمة التي كانت شاعرة، عندما أقرأ في "سيدة التفاصيل الناقصة"*(4):


"الناس ضيقون يسببون الألم، ولا يتمكنون من اختراع البهجة.

أنا الطفلة الضائعة في براح الأنوثة، أضيع ذاتي في الجمال الذي يسمونه فوضى، أتفتت داخل شجاعتي التي لا يقبلونها.

يكتبون مضاداً للتلقائية، وشراباً لا يسمح لضحكتي بالانطلاق، وحينما ينتهون من تقليمي جيدا.. سيتركونني وحدي أيضا."


نعم نحن نسير في مساحة ضيقة من العادات والتقاليد، نلتحف بتلك المساحة القاتلة وندور في دائرتها الخانقة، فمنا من يتمرد فيصدم للخروج من دائرة سلوكيات المجتمع المتعارف عليها، أما مبدعة فارقة مثل غادة تتمرد على التمرد ذاته، تدور فيما يريده هذا المجتمع الخانق ولكن على طريقتها الخاصة، فتعيش بداخل واقع جديد لا يخرج في ظاهره عن التقاليد السائدة، ولكنه يتجاوزها ويتجاوز التمرد الصادم بمراحل أكثر نضجا مما تتخيل كل المتزوجات اللائي خُبزن في فرن أذرع الحياة العادية.


غادة خليفة فنانة تشكيلة وشاعرة منزلها له سقف عال، ككل منازل وسط  القاهرة القديمة، تدخله وأنت محمل بصهد درجات الحرارة المرتفعة، وأتربة وعرق الشوارع، فتجد مع ابتسامتها الصاخبة موجة لهواء منعش ينطلق بحرية من شبابيك البيت المفتوحة مثلها على الحياة، فتشعر في ثوان معدودة بالراحة والاطمئنان، إذا اقتربت منها تجد أن الدفء لا يملك مسافة للاختباء بين ما تكتبه وما ترسمه وما تحياه، لذا تعيش محاطة بهذا الدفء المعلن، فلنبتعد قليلا عن المعتاد، للغوص في روحها العذبة المنسابة بين الكلمات...

على مدونتك (ست الحُسن) داخل مربع من أنا، سيرتك الذاتية المختصرة  جاء بها: "لما كانوا الناس بيسألوني وأنا صغيرة عايزة تطلعي إيه لما تكبري كنت بسكت. مقدرش أقول لحد عايزة أطلع رقاصة"

ما هو وجه الشبه بين الرقص والكتابة، ولماذا لم تتمكني من تحقيق هذا الحلم، ومن هي غادة  التي لا يعرفها أحد؟

حينما كنت صغيرة كانت الأفلام هي كل حياتي، كل ما أعرفه عن العالم يحدث داخل شاشة التلفزيون، في بيت يعتبرُ الرقص جريمة أحببتُ أن أكون راقصة.

(تحية كاريوكا) كانت بطلة الأفلام الأقرب إلى روحي، لم أكن أتناغم مع الفتاة الهادئة اللطيفة التي تمثلها (فاتن حمامة)، وكل البطلات اللاتي يشبهنها.

الأفلام التي منحتني السعادة في الطفولة هي ذاتها التي خرَّبت حياتي فيما بعد، أختي مازالت تخبرني أن الحياة لا تشبه السينما، وأن ساعتين من الأحداث المعقدة لا يمكن لها أن تشبه أي علاقة حقيقية ممتلئة بتفاصيل تتغير مع الوقت.

الفن يختصر تجارب وحيوات كاملة ويكثف البهجة والألم معًا.


في بيتٍ يُعلمني أن جسدي هو مصدر تعاستي كان عليّ أن أختار الرقص الذي سيحول جسدي إلى موسيقى.

كنت أحب أن أصبح راقصة، ربما طفلة ما داخلي أدركت أن الرقص هو باب الحرية.

للأسف أنا ابنة أمي وليس بإمكاني أن أغسل روحي من كل ما تربيتُ عليه، مع ذلك كسَّرتُ الحياة التي يطلبون مني صناعتها، ومشيتُ باتجاه أحلامي... ربما لا تصدقين لكنني كنت أرقص في أحد الأفلام التسجيلية للمخرجة والممثلة الصديقة دنيا ماهر.



في ديوان تسكب جمالها دون طائل تقولين: "أفكر أن السقف سيقع علينا/ والأوراق كلها ستغرق/ حياتي ستضيع../ تضيع الآن/ بينما أكتب.."

هل توجد مسافة بين حياة غادة اليومية وبين حياتها التي تنساب فوق الأوراق على شكل كلمات أو لوحات، وأيهما يزيف الأخر؟

الحياة العادية هي بكرة الخيط والشعر هو النسيج وكلاهما مزيفان، الحقيقة تحدث داخل خيالي فقط.

حينما كنت أقابل أصدقاءً يقرءون (ست الحسن) ويظنون أنهم سيقابلونها، كنت أخبرهم أنني لا أشبهها على الإطلاق، ليس بإمكانكم أن تجدوا هذه المرأة في الحقيقة.

وبينما تظهر في الكتابة غادة حالمة ورقيقة، تعيش في الواقع غادة أخرى برّية وجادة.

الكتابة تجعلني أجرّبُ أقنعة متنوعة، وأكون امرأة جديدة كل يوم كما يقول إعلان الصابون.



من تسكب جمالها دون طائل أيضًا تقولين: "أكتب/ ولا أفهم لماذا يفزع رجل من كلماتي التي تصفه؟/ لماذا لا يمانع من وجودها داخلي ويفر حينما تصبح معلنة؟/ اختار الكتابة يا أختي/ اختار الكتابة هذه المرة أيضا"

ينعكس كثيرا في شعرك تعارض حقيقي ملموس بين حياتك الخاصة كبنت تريد حياة عادية في كنف زوج وأطفال، وبين كونك مبدعة، ما هو ذلك التعارض وفق تجاربك الخاصة؟


 

الحياة العادية لا تناسبني حتى وإن كنت أريدها، أنا محددة جدًا وأريد مشاركة من نوع خاص، أعيش في بلد يقسِّم أدوار الحياة بين الرجل والمرأة بطريقة لا ترضيني، أرفض القيام بالدور المحدد مسبقًا وأحتاج إلى براح خاص.
لم أقابل حبيبًا يستطيع التناغم معي، النهاية السعيدة على طريقة الأفلام لم تحدث لي، بدلًا منها، أعيش احتمالات مبهجة وأعثر على الحب بطريقتي من أبواب مختلفة.



تقولين في قصيدة الدائرة: "النفق مظلم جدا، وفي نهايته يوجد جدار، ورجل يفتح ذراعيه لي، أرغب بالذهاب، وأعرف أن اتحادي به سيؤدي إلى خيارين وحيدين: إما أن أمتلك القدرة على الطيران/ أو يتحول هذا الرجل إلى خنجر يُغرس بقلبي"

تلك الأبيات تؤكد على أنك ترين أن العلاقة بين الرجل والمرأة لا يوجد بها حلول وسطية، إما جنة أو نار، ألا تتفقين معي أن هذا يتعارض بشدة مع ماهية الحياة التي تتأرجح بين درجات متنوعة من اللون الواحد؟!

غادة التي كتبت هذا النص تمشي داخل خوف يتكاثر وتمتلئ بأحلام ملونة تطفو من كأس حياتها الفارغة، لذلك تطلب الجنة.. ليس أقل، كل ما دون ذلك هو النار بعينها.

ثم أن الحياة لا تشبه الكتابة، في الحياة –أحيانًا- لا توجد ألوان ويتعين علينا اختراعها كي نعيش.

"غادة التي كتبت النص؟!"

هذا يفسر تعدد ذوات غادة وتشابكها في ديوان "نسيج يستيقظ"، فكم غادة تتصارع بداخلك الآن، ومن لها الغلبة وكلمة الفصل الأخيرة؟

-         الكتابة تساعدني في قبول عدد من (الغادات) المختلفات، تساعدني في صناعة أغنية من أصوات متنافرة ومختلطة، ما أحاول قوله أن الأغنية نفسها أكثر أهمية من أي صوت مفرد، لا توجد شخصية بعينها تمسك (الريموت كنترول)، أحاول عدم اتخاذ قرارات تتسبب في صراخ شديد لامرأة تسكنني، ما عدا ذلك أستمع لنفسي جيدًا وأغزل الطريق.

إذا كانت غادة الشاعرة هي التي تساعدك في قبول تعدد ذواتك، فما هو دور غادة الفنانة التشكيلية؟


الرسم يساعدني حينما تذهب الكتابة بعيدًا، وهناك انفعالات لا أتمكن من التعبير عنها بالكلمات، لا أجد الكلمات المناسبة أبدًا لكن الألوان والخطوط تتمكن من استيعاب هذه الطاقة بالكامل.

وفي ديواني الجديد –تحت الطبع (نسيج يستيقظ)- أجرب للمرة الأولى رسم الديوان بالكامل، كنت أكتفي من قبل بوضع مجموعة من الرسوم في آخر الكتاب.

هذه المرة تم عمل رسومات مخصوصة للكتابة، أحببت أن أضيف بعدًا جماليًا آخر، وأردت نسج علاقة تنمو داخل الديوان بين الكلمات والخطوط، أنتظر خروج الديوان من المطبعة كي أعرف انطباع الآخرين.

-        

"لا أحد يصدق قدرته على إيلام الآخرين/ هذا الخذلان يحتاج قلب سليم"
متى خذلت غادة العادية غادة الشاعرة، ومتى خذلت غادة الشاعرة غادة الفنانة التشكيلية؟



المسافة بين (الغادات) ليست دائمًا واضحة، الحياة تخذلنا جميعًا وليست لدينا رفاهية خذلان أنفسنا أيضًا.

"الوسائد والأغطية والسرير/ تجتمع معا كل ليلة/ كي تتآمر عليّ/ لأظل صاحية/ أفكر/ بينما تسجل/ أحلام يقظتي/ وتحفظ الكلمات الصغيرة/ التي لا أجرؤ على قولها"

تلك الأبيات من ديوانك الأول "تقفز من سحابة إلى أخرى"، بعد تعدد التجارب هل مازالت هناك كلمات صغيرة لا تجرؤين على قولها، وما هي؟


تنقصني الشجاعة وأحتاج إلى شغف خاص ونور كي أكتب عن خبرات مقيَّدَه داخل كهف بعيد في الذاكرة، كلما كتبتُ ما أخاف أن أكتبه أصبح قادرة على التنفس وترتفع أقدامي عن الأرض.




______________________________________
* (1) صادر عن دار نشر فكرة –2009

* (2) صادر عن دار نشر شرقيات -2011

* (3) صادر عن هيئة الكتاب 2015.

* (4) قصيدة من ديوان “نسيج يستيقظ”.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم