رحاب عمر
لم يكن يحلو لها تصليح ملابسنا الممزقة إلا في الدّوار خلف الدار. كانت تعبث بأمتعتنا صباح كل جمعة، تُخرج المثقوب والمقطوع؛ والخياطة المفكوكة في أساور القمصان وياقتها، ثم تبحث عن الخامات التي اتسعت مع تكرار الغسيل لتُضيقها، وتلك التي طالت لتُقصرها، وتقوم بترقيع الملاءات التي رقَّت وأوشكت أن تُثْقَب. تطبخ الدجاجات التي تُربيها في الدّوار وتُطْعِمُنا، ثم تجهز الشاي (الزردة) بالسكر الخفيف، وتحمل ملابسنا وتجلس في مكانها المفضل جِوار الطيور، تضع المساند فوق الكِليم، ولا تنسى الكيس المعبأ بالحبوب، تدس يدها بين الحين والآخر، وتملأ كفَّها وتلقيها.
ثم تأتي لأهم خطوة، تدير مؤشر الراديو على أُورشليم القدس؛ استعدادًا لفقرة الست. ينهي أبي الجالس جوارها شايه الزردة: المحتل قدر يسيطر ويوجه قلوبنا يمته.
كانت تناديني لألضم الإبرة، وكنت آخذ وقتًا طويلًا في محاولة إدخال الخيط في ثقبها الضيق، فأتبرَّم وتتغير ملامحي، لتمصمص هي شفتاها قائلة:
يا شام. يا خسارة الصبايا.
أشاكسها: بس يا بُغداد، الله يرحمك يا نينة، حد يسمي بنته بُغداد؟
تحدثني عن نظرها الذي كان أشبه بزرقاء اليمامة، وعن شبابها الطازج وعودها الممشوق الفارِه. يتدخل أبي بغتة في الحديث:
هو حد بقى بيشوف. وبعدين مالها بُغداد؟ أختي الله يرحمها، سمتها أمي حجازية، وكانت أحسن الناس رزانةً وحكمةً.
ثم يكمل قراءة الجريدة، ولا يلبث أن يشتكي قلة مياه الري: المكنة جابت طين، يا خوفي من يوم لا نلقى المكنة ولا الطين.
كان أبي دائم السخرية من الأوضاع عمال على بطال، الأرض والمحصول ومكنة الري هم كونه الصغير، يتابع بشغف الأحداث العالمية، ويقرأ في أخبار الاقتصاد ويتابع السياسة، فقط لأجلهم. كان يتفاخر دوما بكونه رجلًا متعلمًا؛ حاصل على الابتدائية بمجموع كبير. كنا نتضاحك سرًا أنا وإخوتي، كلما بدأ حديثه منتقدًا الدول العربية لموقف ما، بعدها يتمادى محذرًا من انهيار سعر الذرة، أو ارتفاع سعر السماد، أو قلة مياه الري؛ ويهم ناصحًا أمي بتخزين كميات مناسبة من السكر. كنا نخفي رؤوسنا تحت الأغطية ونضحك بصوتٍ خافت، وسرعان ما نفقد القدرة على السيطرة على ضحكاتنا، فتعلو أصواتنا رغمًا عنا، فيكيل لنا الشتائم، وأحيانًا يقذفنا بحذائه الجلدي؛ الذي يضعه دوما تحت وسادته: تستاهلوا المُرّ إلِّي هتشوفوه يا ولاد الكلب.
كبرنا وارتدت أمي نظارةً طبية، ولكنها بقيت تحتفظ بالخيط والإبرة في عُلبةِ حلوى صفيح، وتمارس طقوسها بإصرارٍ، رغم وفرة الملابس التي يجلبها لها إخوتي عند عودتهم من الخليج:
– هو فيه زي المصري وحلاوة المصري.
لم أرها مطلقًا ترتدي إلا العباءات القديمة وطُرَح الحرير الأسود الطبيعي، ولم تنس أن ترسم عيناها بكحل الحجر؛ وقد كانت توصي أخي بضرورة إحضاره كل عام وهو عائد من الحجاز: بقى اسمها السعودية يا ماما.
كلما جاءت لتزورنا في بيوتنا؛ تحضر الخيط والإبرة معها في سيالة جلبابها الفضفاض، كنا نسمع صوت خرفشتها في ملابس صغارنا باكرًا، وأحيانًا بعد قيلولة العصاري. حاولتُ جاهدةً أن أخبرها أننا لا نخيط الملابس المقطوعة؛ لأننا نتخلص منها أولًا بأول، وغالبًا ما نشتري غيرها قبل أن تتمزق، لكنها لم تقتنع مطلقًا، فكانت إن لم تجد شيئًا يحتاج لمعالجة، كانت تدّور على خياطة المصانع؛ منتقدة سوء الصناعة وعدم احترام المهنة.
كانت تحدثنا دومًا _ وهي منشغلة بتهذيب الأثواب _ عن خيوط الود التي تعيد عقد الصلات، وحبال الأمل التي تجلب المطالب، وإيلام سن الإبرة عندما تُنغرز في القطع لتوصله، وبهاء الثوب المرتق حين تتناسق القطع الجديدة مع الخامة الأصلية، وحين تتلاءم الألوان وتنسق الحواف، ثم عن الشعرة الرفيعة التي تصل الأجزاء ببعضها حتى لا تتسع الهوة، ولا تبتلع الثقوب بقايا اللياقة وحسن المنظر.
رقد أبي على فراش الموت، وفقد إدراكه جزئيًا، لكنه كان مُصرًا على وضع التلفاز أمام سريره، ظل يداوم الحديث -مهرتلًا- عن الساسة، وكلما شاهد الفلسطينيين يُمنعون من دخول المسجد الأقصى؛ يعلو صوته قائلًا: صدام هيحدف عليهم صواريخه. أخبره أن صدام رئيس العراق تم إعدامه منذ سنوات طويلة، ينهرني قائلًا:
صدام عايش وهيرجع يحكم العراق.
عرفت ساعتها أن أبي يُخرِّف، فبدأت أعد الأشياء استعدادًا لرحيله، دعوت أخواتي المسافرين للعودة لتوديعه، واشتريتُ كفنًا ومسكًا، وطلبت من أعمامي أن يجهزوا مقابر العائلة.
في اليوم الثالث ونحن جوار مقبرة أبي، وبعدما وزّعت أمي (البلح والقرص والخيار وحبات الشوكولاتة الطوفي)، انتبهت لبنطال أخي الأصغر، وصرخت فينا جميعًا: ازاي سيبين أخوكم مكشوف كدا؟ كان المكشوف قد انتهى لتوه من امتحانات السنة النهائية في كلية الحقوق؛ علت ضحكاتنا أمام مقبرة أبي، فكأنما سمعناه في لحظةٍ واحدةٍ يسبنا جميعًا. حاولنا أن نقنعها أنها الموضة، وأن سعر هذا البنطال أغلى بكثير، أخرجت الإبرة والخيط من السيالة وظلت تجذب أخي من بنطاله، إصرارًا منها على تصليح أجزائه المقطوعة، وقد اندمجنا في الضحك كثيرًا حتى ماتت أمي غيظًا، ودُفنت كما أوصت في قبور عائلتها، فقد كانت ترفض بشدة أن ندفنها في مقابر عائلة أبي: العضم لأهله.
بعنا الدوّار والأرض لأعلى سعر، جاءنا شيخٌ غريبٌ عن القرية واشترى بالعملة الصعبة، يقال أن ابنه مدرس في دولةٍ عربية.
أخبرنا أخي الأكبر أن علينا أن نفض الليلة سريعًا، حتى يتسنى لنا الذهاب إلى أشغالنا، فلملمنا أثاث البيت، وبعناه لبائع (روببكيا) متجول بمبلغٍ زهيد، وذبحنا ما استطعنا الوصول إليه من طيور أمي، فأغلب الطيور شُرِّدت في الغيط، وأودعنا القُرَصَ والبلحَ دار جيراننا؛ ليقوموا بالواجب في اليوم الثالث للوفاة، ومعهم بعض صديقات أمي؛ حتى تأنس بهم، ويعوضوها فراقنا. بعد سفرنا تذكرنا أننا نسينا العلبة الصفيح التي أوصتنا عليها أمي في مخلفات البيت.





