صبرى حافظ
عين القط هى الرواية الأولى للكاتب الشاب حسن عبدالموجود بعد مجموعة قصصية واحدة هى ساق وحيدة 2002، مع أنها رواية تتسم بقدر لا بأس به من النضج السردى، وبتخلصها من رثاء الذات، وهو عيب يشوب الروايات الأولى للكتاب الجدد كما يقول الصديق بهاء طاهر فى تقريظه الشديد لها، ومع أنها تتسم كذلك بقدر لا بأس به من الحس الفكاهى، وبالقدرة على استخدام المفارقة للكشف عن تناقضات الشخصيات، أو عما يمور فى أعماق الواقع من توترات، وهذه كلها من مميزات هذه الرواية الشيقة التى زكتها لدى بهاء طاهر، فإنها تتسم لدىّ ولدى القارئ العارف بما أنجزته الرواية الجديدة فى مصر من جماليات بقدر كبير من الإشكاليات فى تناولها للقرية المصرية عامة، والقرية الصعيدية خاصة، ذلك لأن منهج تناول واقع القرية المصرية فيها ليس هو المنهج الواقعى التقليدى الذى عرفناه منذ صعيديات يحيى حقى ومحمود البدوى الباكرة حتى رواية بهاء طاهر الشهيرة “خالتى صفية والدير”، ولا هو هذا المنهج الشعرى الذى بلورته كتابات يحيى الطاهر عبدالله فى “الطوق والأسورة”، وفى غيرها من قصصه القصيرة، ثم اقتحمت بها معالجات أحمد أبوخنيجر وأشرف الخمايسى فى التسعينيات آفاقًا جديدة أحالت الواقع اليومى فى القرية إلى بنية أسطوية قادرة على الحوار الخلاق مع الأسطورى والإنسانى والمطلق، فقد اقتحمت روايات هذين الكاتبين بالرواية آفاقاً جديدة من الخبرة الواقعية والسردية على السواء، ودخلت برواية القرية المصرية مرحلة جديدة لم تعرفها كتابات القرية قبلها، واستطاعت أن تأسر بين ثنايا السرد إيقاع الحياة السرمدى فى القرية المصرية عامة، والصعيدية منها خاصة، مما جعلها إضافة حقيقية إلى رواية القرية المصرية فى هذا المجال.
تأرجح بين قطبين
أما رواية حسن عبدالموجود تلك عين القط فإنها تتأرجح بين القطبين أو بين المنهجين السرديين دون أن تنحاز كلية لأحدهما، أو تستأثر بميزاته، ويظل هذا التأرجح طافيًا على سطح الأحداث فيها لا يستقر فى عمقها، وإنما يطرح أسئلته على بطلها وراويها، و هو فى مستوى من مستويات التناول طفل أو صبى صغير فى العاشرة من عمره، لا يعرف إن كان ما يشاهده ليلًا هو ما يدور فى القرية حقاً، أم أنها أضغاث أحلام، “لماذا وافق أبى على تسميتى بقط طالماً أنه لا يؤمن بمسألة تحولى ليلًا؟ فكرت أنه قد يكون محقًا فى تصوره، فالأحداث تختلط أحيانا فى ذهنى” «ص94» وفى مستوى آخر هو الكاتب الذى يعى تحولات الواقع الاجتماعى وزحفه البطئ الذى يغير معالم الحياة فى القرية وعلاقات البشر فيها، “الغرز التى كانت تغلق قبل موعد التمثيلية أصبحت تتأخر إلى العاشرة مساء، ثم إلى ما بعد منتصف الليل، كبرت وتحولت إلى مقاه ثم نواد لمشاهدة شرائط الفيديو” ص89 فراصد هذا التحول الاجتماعى الذى استغرق ردحا من الزمن تتحول فيه الغرز إلى نواد للفيديو، لا يمكن أن يكون هو الطفل الذى لا يعرف إن كان يتحول ليلًا إلى قط أم لا، ومن يعرف كيف جعلت نوادى الفيديو الجديدة فخرى صاحب أو لتليفزيون يدخل البلد من أكثر المتضررين ص90 وكيف تؤثر تجارة البانجو الجديدة على تجارة الحشيش القديمة، “كامل الذى كان يتاجر فى الحشيش كان أكثر المضارين، فسعر البانجو الرخيص مع الأخذ فى الاعتبار مسألة الكمية الكبيرة لكل ورقة ضرب تجارته” ص89، وبدأت فداحة مسألة تزوير الانتخابات، ويقدم لنا تقريرًا إضافيًا عنها ص55، فهو قطعا غير ذلك الصبى الذى تحمله أمه وتخرج به إلى الشارع “ثم حملتنى وخرجت بى إلى الشارع” ص23، أو الذى ينتابه الذعر من الغرق فى الطين، “غارقاً فى الذعر من بركة طين تقترب منى” ص18، أو الذى يريد أن يصدق ما يراه “أميل إلى تصديق كلام أبى، بأننى أعيش كابوسًا متشابها كل يوم، تفاصيله تبدو واضحة لأننى كما يقول أعط فى البيوت وأعرف أسرارها” ص20.
أسطورة القط
هذا التأرجح بين المنظورين السرديين، منظور الصبى الصغير الذى يتحول إلى قط ليلًا حسب الأسطورة الصعيدية التى تعتقد بأن كل توأم يولد بعد توأمه الأول يتحول ليلًا إلى قط وبالتالى يستطيع أن يرى بـ«عين القط» ما لا يراه البشر بأعينهم غير القادرة على تجاوز قواعد الرؤية الواقعية الناضجة، “الناس فى قرى الصعيد يعتقدون أن الأصغر فى التوأم تفارقه روحه ليلًا وتحل بجسد قط وفى جميع حالات ولادة التوائم يميلون إلى تسمية الأكبر كما يحلو لهم والأصغر بقط وهذا هو السبب فى تسميتى، يعتقدون كذلك أن إيقاظ الأصغر وهو نائم معناه أن يموت إلى الأبد، لأن روحه تكون بعيدة عنه، ولابد أن تعود فتجد الجسد فى وضعه الذى تركته عليه، ولذلك تميل أمى إلى عزلى فى غرفة بمفردى، وإغلاقها بمفردى، وإغلاقها على بالمفتاح من الخارج حتى لا يوقظنى أحد” ص9 ومنظور البالغ الذى يعى أهمية أن يوشح السرد بشىء من التناص مع أعمال أخرى، فيصف طريقة تشمير عبدالسميع الجزار جلابيته على النحو التالى “رأيته مرة يشمر جلابيته ويطبق على طرفها بأسنانه على طريقة عادل أدهم مع نبيلة عبيد فى الشيطان يعظ. يهز سميرة كانت مستيقظة، فقد جذت ثوبها إلى أعلى خصرها ورفعت ساقيها، ألقى عبدالسميع نظرة خاطفة على الأولاد النائمين فى الحجرة، قبل أن ينهمك فى عمله، دائم الذهاب إلى المسجد ولكن ليس للصلاة، وإنما لقضاء حاجته” ص26، ولا هو حتى ذلك الطالب الجامعى الذى درس فى القاهرة وعرفه إيليا على أيمن إسماعيل أستاذه بكلية الآداب ص44، و أدرك من خلال هذه المعرفة الكثير عن عالم القاهرة.
السرد الواعى بنفسه
لكن ما يغفر للرواية شيئا من هذا التأرجح بين المنطلقين أنها واعية بآليات السرد الجديد الواعى بسرديته قدر وعيه بمرجعيته، لأنها تريق شيئا من الشك على منطلقها السردى نفسه “أبى لم يكن يصدق أبداً قصة تحولى ليلًا إلى قط رغم أن القرية تشهد حالات مماثلة، ويصدق أهلها هذه الحكايات، والواقع أنه كان يرد على ذلك بقسوة” ص22، والواقع أن التشكيك فى منطلقها السردى ذاك هو الذى ينقذها من الوقوع فى أنشوطة استخدام حكاية عين القط تلك للتستر على تجل جديد من تجليات الكاتب العالم بكل شيء المسيطر على كل شىء فى عالمه السردى، والذى لم يعد له وجود فى الرواية التسعينية الجديدة، لأن الرواية تضفر خيطين سرديين معا، خيط السرد الواقعى الذى يعيشه الراوى فى القرية الصعيدية وما انتابه من تحولات، وخيط السرد المتخيل الذى يعزوه إلى مشاهدات القط الذى يتقمصه، وينطلق بفضل هذا التقمص إلى أماكن ما كان له أن يدخلها، ويطلع على أسرار ما كانت تنكشف له دون هذه الخدعة السردية، وتحاول الرواية أن تكتب بالسردين عالم القرية الصعيدية الزاخر بالأسرار، وتتخذ من مسألة تحول بطلها إلى قط ليلًا، وكشفه الكثير من أسرار القرية أداة لخلق علاقة بين مشاهدها المنتقاة، أو بنيتها الإبيسودية التى تكتب بعض قسمات الحياة فى هذه القرية الصعيدية، وتعتمد على التجاور فى الكشف عن خريطة العلاقات المشروعة والمحرمة معا فيها، وعن الصراع بين جماعاتها المختلفة، والتوترات التى تشغلها فيها مؤسسة السلطة، كى تشغل بها القرية دائما وتدور فى سفاسفها.
خيوط متضافرة
وتقدم لنا الرواية عالم هذه القرية الصعيدية من خلال عدد من الخيوط المتضافرة: أولها خيط الراوى/ الصبى/ المراهق/ الجامعى فى مراحل حياته المختلفة فى هذه القرية الصعيدية، وكيف وقع فى صباه فى هوى نورا ابنة بطرس الحلاق، وشجعته أمها على تنمية هذا الاهتمام بها، ولكن تحت عينيها، بينما كان يخاف من أخيها إيليا أكثر من خوفه من أبيها نفسه، ثم كيف ذهب بعد ذلك إلى الجامعة وأصبح إيليا أحد أصدقائه فيها، بعدما قتلت نورا نتيجة لمؤامرة خبيثة دبرها حناوى الخباص ضدها كى يطرد أباها القبطى من البلدة، وثانيها خيط الشخصيات القروية العديدة التى ترسمها الرواية بضربات فرشاة عريضة، تهتم بالخطوط العامة والتفاصيل بالغة الدلالة فقط ولا تنشغل بدمج كل شخصية فى دراما الحياة فى القرية الصعيدية دون أى حبكة محكمة تضم هذه الشخصيات وتوظفها، اللهم إلا الجو العام نفسه، ويوشك هذا الخيط أن يكون أكثر خيوط الرواية أهمية وأعمقها دلالة، فقد قدمت خلاله شخصية الأستاذ صبرى مدرس الجغرافيا المشغول دوما بتلميع حذائه، بلا مبالغة عشرات المرات يوميا، “فى البلد يصبح ارتداؤك حذاء جلديا نوعا من الترف فى الأساس” ص70 والذى يحاول دون جدوى وضع شىء من المنطق فى تفكير القرية وفثء بعض الإحن التى يدبرها فيها حناوى الخباص، وشخصية الجدة العنيدة التى تعاند زوجة ابنها، ولكنها لا تستطيع أن تقف مكتوفة اليدين وهى ترى الشر يستفحل فى القرية، وتتنبأ لحناوى “هيموت موتة عفشة، تحب جدتى أن تضع نهايات مأساوية للأشرار الذين أحكى عنهم، قالت إنها شاهدت حناوى فى رؤيا بالأمس مشتعلا يجرى فى شوارع خالية من الناس”، ص74، وهى التى تقود عددًا من النسوة وتذهب لمواجهة حناوى حينما أشعل الفتنة فى القرية، ولم يتصد له الرجال.
ولا تقل شخصية سعفان غموضاً وسحراً عن شخصية الجدة، وهى شخصية تتجسد لنا على الورق من خلال ضربات هذه الفرشاة العريضة والقديرة معا، وبأقل عدد من الكلمات، “فى كل مرة يقابلنى سعفان يسألنى واد مين أنت؟ وحينما أجيبه يبدى تهللا ويقول: أبقى تعالى بيت عمك، وبعد أن اعتبرته عمى وذهبت بالفعل إلى بيته سأل زوجته بضيق: واد مين؟ أخبرتْه، فنظر إلىذ قائلاً: عيال إيه ولاد الكلب دول.. مالكومش بيوت تقعدوا فيها؟!”.. ص80 أو شخصية الأب بصرامته الشديدة، ورغبته فى أن يجعل من ابنه مواطنا صالحا “والمواطن الصالح فى رأيه لا يمشى حافياً، يخاطب الأكبر بيا عمى، يحفظ القرآن، لا يقول إنه ذهب لعمته ويكون قد ذهب لصيد القمارى، لا يلعب مع أولاد الكلاب فى الشارع”، ص35، و”حينما يشعر أننى أنفذ ما يطلبه بالحرف الواحد يتضايق جدا إذ أنه يتحين الفرصة لضربى ويريد مجرد خطأ ولو صغير”، 93 لذلك كان طبيعياً إزاء هذه الصرامة أن يكرهه ابنه، “أتمنى أن استدير إلى أبى وأصرح له بكراهيتى لكن منظر الكشاف، وإحساس الونس يملآن كيانى، يسطيران علىَّ ويحولان الغضب إلى إحساس جارف بالأمان فى وجوده خلفى” ص94، وإذا كانت شخصية الأب تتسم بالقسوة التى تبذر فى الابن أجنة الكراهية، فإنها تعطى هذا الابن نفسه الونس والأمان معا، تماماً كما يوفر بدوى البدين شيئا من الأمان للأستاذ صبرى الذى يخاف أن يعتدى عليه الآخرون، وهذا ما حدث له بالفعل، حينما صفع ابن حسنين على وجهه، “لم يهدأ بال الولد انتظر حتى ولى وجهه ناحية السبورة، واتجه إليه بدون صوت، ووقف على أطراف أصابعه ورد صفعته قبل أن يلوذ بالفرار”. ص81.
شخصيتان غريبتان
وهناك شخصيتان غريبتان، ولكنهما يقدمان لنا وجهى عملة واحدة، شخصية الشيخ محسن مدعى البركة والهداية التى تثير الاشمئزاز، ذهبت له زوجة حناوى التى تصغره بعشر سنوات، كى يعمل لها حجاباً يخلص زوجها من مشاكله الكثيرة بعدما حاصرته القرية وملأه الخوف، وهل يمكن لحجاب أن يخلص البلد كلها من شرور حناوى، ومع هذا عمل لها الحجاب، ولكنه روادها عن نفسها، وقال إن هنتاك شيئا لابد منه أن تواقعه هو بيته الآن حتى تحل البركة فى جسدها ص97 فأصابها الذعر وفرت من بيته هاربة وشخصية طبيب الوحدة فتحى الذى يتملص دائما من المرضى، ولكنه يقبل على حالات بعينها، هى حالات الألم التى تسبق الولادة “فى معظم الحالات تقف النساء بجوار الحامل، ورغم هذا يمارس متعته فى التحسيس على بطنها، يضع سبابته لثوان داخل تجويف صرتها، تهبط أصابعه بعدها إلى ما بين فخذيها. جذبه عبدالسميع الجزار من ذراعه فى إحدى المرات حينما اقتحم الغرفة ورآه يفعل هذا مع زوجته سميرة، خليها تموت مش عايزين دكاترة” ص83، لكن أكثر شخصيات هذه الرواية غرابة وشرا هى شخصية حناوى الخباص، التى يعتبرها بهاء طاهر فى تقريظه لهذه الرواية تمثل الشر المطلق، فهو عنده “يؤلب الأهالى على بطرس الحلاق، ثم يكون بعد ذلك سببا فى قتل ابنته، وهو يؤلب نصف القرية من الفلاحين على نصفها الآخر من الحلب والمساليب، وبدا لى ذلك دون دافع محدد غير حقد دفين فى النفس ضد الضعفاء بالذات، وقد سألت نفسى إن كان ذلك مبرراً فى الإبداع الروائى، ثم تذكرت أن هذا الشر الطليق هو جزء من حقائق الحياة حتى وإن لم نجد له التبرير داخل الرواية ذاتها، ألا يتساءل القراء والنقاد حتى الآن مثلا عن سر حقد إياجو على عطيل فى مسرحية شكسبير الشهيرة دون أن يتوصلوا إلى دافع مقنع غير أنه هو ذلك الحقد الطليق”، راجع بهاء طاهر مجلة الهلال يوليو 2004.
لكن شخصية حناوى الشريرة ليست هى الشر الطليق عندى، ولكنها دراسة سردية شيقة فى مؤسسة الاستخبارات المصرية فى أكثر أشكالها بدائية، فهو مخبر القرية من ناحية الذى تعرف القرية كلها أنه ينقل أسرار البيوت إلى العمدة، ص10 له طريقة ماكرة، ولكنها ساذجة فى الوقت نفسه، فى الإيقاع بمستمعيه فى فخاخ حديثه المنصوبة دائما للإيقاع بالآخرين، ولذلك فإنه فى الأغلب يختار حناوى جمهوره من الغرباء بعد أن أدرك أنه مفضوح وغير مرغوب فيه من الأهالى، ص11، “يتحدث حناوى فجأة عن كل شىء فى البلد، من تخون زوجها، ومن يكره أباه ومن يضرب حريمه، ثم يقارن ذلك بالعصر الذهبى الذى لم يره أحد سواه”، ص12، لذلك ليس غريباً أن يطارده الأولاد الحفاة عم حناوى الخباص.. أمك يا عم حناوى ص13 وقد أدركت القرية من البداية أن حناوى لئيم يثير الفتنة ولابد من إيقافه عند حده ص55، ولكن عندما يكون مثل هذا اللؤم مدعوما بالسلطة، وأعلى سلطة فى القرية هى العمدة الذى يطلب رأى القرية فى الانتخابات من أجله، وحينما لا يكون هذا الرأى مواتيا لهوى العمدة يجلب له حناوى مرتزقة سيستخدمهم العمدة لنصرة هذا المرشح، “اتفقوا على الحضور أثناء انعقاد اللجنة وإطلاق الرصاص لإعلان القوة ثم الاختفاء.. اتفقوا على تسويد اللجان لمصلحة مرشح معين.. طلب منهم حناوى التدبير لخطف نورا وإلقائها فى ساقية جدى” ص57. وبعد قتل نورا يقرر بطرس الحلاق أن يترك البلد، ويعد هذا الأمر انتصارا ساحقاً لحناوى، فيواصل مهمته فى إشعال النيران فى الهشيم، “حاول إقناع حمدين المحامى برفع دعوى لطرد الحلب من البلد لكن حمدين اتهمه بالجنون” ص71، وسرعان ما يتحول هذا الجنون إلى برنامج عمل حقيقى فى عصر التردى والهوان فى الزمن المصرى الردئ.
ولما لا يتحرك الرجال لوقف هذا التردى، تتزعم الجدة مسيرة صغيرة لإيقاف حناوى “اللى ماحدش وقف فى وشه وقاله عيب يا واطى يا ابن الواطيين” ص77، ولا تكتفى الرواية برصد مظاهر سلبية الرجال، ولا مبالاتهم بما يحوكه حناوى للقرية باعتباره اليد القذرة للسلطة الحاكمة فيها، وإنما تكشف لنا عن سر نجاح حناوى فى خلق هذا المناخ السلبى الذى يغذيه هو نفسه بتجارة البانجو “البلد عرفت البانجو عن طريق حناوى، رأيته فى أحد الأيام من فرع عال بشجرة التوت اليابسة يتفق مع ثلاثة رجال، من بينهم أحد المشاركين فى شغب الانتخابات على شحنة بانجو” ص86، وتغرق البلد فى سمادير البانجو وترصد الرواية التحولات التى تنتابها بسبب ذلك، بما فيها كيفية تراجع حالة الوثام التى تسود البلد عادة فى موسم عودة الحجاج ص52، وعودة العاملين بالخارج ص54 لذلك ليس غريباً أن تصبح القرية كلها مدينة لسعيد المجنون الذى ينقذها من أهوال الحرب الأهلية التى تركها حناوى على حافتها: “سعيد المجنون أنقذ البلد من مخطط حناوى تلك المرة، كان الأخير قد جمع رجاله قد قسمهم إلى فريقين طلب من كل فريق الاتجاه إلى بوابة من بوابتى الشّق يحملون العصى والشوم” ص103، “قبل أن يتفرق رجال حناوى جاء الخبر على لسان سعفان، سعيد المجنون انتحر ولع فى نفسه والشرطة جاية فى الطريق، طلب منهم حناوى العودة مرة أخرى إلى الديار” ص104، وكان سعيد قد افتدى بانتحاره القرية برمتها من هذا الجنون الآخر، جنون الحقد، والفتنة الطائفية التى أشعلها فيها حناوى.
الخيوط الخالية
وإذا كانت كل هذه الخيوط هى خيوط الرواية الواقعية فإن خيوطها الخيالية أو المتوهمة التى يراها القط هى تلك التى تتعلق بالجانب الفكه من الحياة فى القرية من ناحية، أو بجوانب المحرمات والممارسات الجنسية فيها من ناحية أخرى، والتى لا تسفر عن نفسها إلا تحت جنح الليل، وفى ستر عباءته، وهذا الجانب فى الرواية يتضافر مع جانب آخر هو جانب مؤامرات حناوى التى يعقدها هو الآخر ليلاً مع غربائه الذين يتجرأون على البلدة خطوة إثر أخرى، “لم أشاهدهم أبداً فى نور الصباح، فوهات بنادقهم معلقة على أكتفاهم باتجاه السماء وهذا ضد قوانين الصعيد، حينما تزور بلدا غريبا يصبح واجبا تنكيس الفوهات، ربما كانوا يستمدون قوتهم من الظلمة”، ص86، أليسوا هم الظلمة نفسها وقد أخذت تخيم على كل شىء فى القرية المصرية؟! هذا هو سؤال الرواية الذى تطرحه على نفسها بقدر ما تطرحه على قارئها وناقدها، وتطلب منا التفكير فيه.