يتعامل محمود أخى مع هذا الموضوع باعتباره أسطورة يظل يرددها أمام الجميع. ضايقنى هذا كثيراً ولكن محمود يتميز بأنه يريد أن يتحدث بمفرده ولا ينتبه أبداً إلى ما يقوله الآخرون. يروق للناس فى الشارع أن ينادوننى باسم “بس” ، هذا هو اللقب الشائع الذى يطلق على القط عموماً فى الصعيد، الأنثى تسمى “بسة”، عرفت أن “بست” كان أحد آلهة الفراعنة، رأسه على وجه قط.
حناوى الخفير النظامى أول من نادانى بـ “بس” كان يتودد إلىّ كثيراً فى الآونة الأخيرة بشكل لم أفهمه، يجلس دائماً على مصطبة أمام دوار العمدة بجوار موقف سيارات نجع “السناوى” فى مدخل البلد، وهو واحد من المقربين للعمدة، كان يتعامل مع نفسه باعتباره حكيماً حقيقياً لا يعطيه الناس قدره من التبجيل، حيث لا يستمعون إليه فى الأغلب ويتهمونه بأنه ينقل أسرار البيوت إلى العمدة..
حينما يبدأ فى صبغ أمر ما بالحكمة يستخدم جملاً تتردد على ألسنة الأطفال قبل الكبار، وهو يتصوَّر أنه بارع فى استخدام نبرات الصوت، يبطئ أو يسرع من إيقاع الجمل، أو يضغط على بعض الحروف لتوصيل إحساسه بأهمية ما يقول من حكم “ماحدش بياخد غير نصيبه”، “كل شىء مكتوب على الجبين”.. وفى كل المرات يستخدم قصصاً للتدليل على صحة هذه الحِكَم، يقول دائماً إنه عاصرها منذ عشرات الأعوام حينما كانت البلد كلها عبارة عن أرض مزروعة أغلب أعوام السنة بالقصب وتمرح فيها الكلاب والذئاب ولا يسكنها إلا هو ومجموعة قليلة جداً كان يذكرهم بالاسم ، أحياناً كان يتصنَّع عدم التذكر، يظل مقطباً جبينه، أو يجمع حاجبيه، هكذا يظن أنه يفعل، فالتعبير الوحيد على وجهه ، “تكشيرة” كلب غاضب يستعد للانقضاض.. ويقول “اسمه.. اسمه.. أيوه حتى أنا فاكره، جِهِمْ ، طويل ، أسود، كان بيقتل الديب بإيد واحدة، يرزعه الضربة على دماغه مايخدش غيرها، كان بيفصل رقبته ويعلقها على باب البيت بتاعه لغاية ما اتملا.. فبدأ يعلق على الحيطان من بره، والناس كانت تقول عباس المارد ساكن هنا”. يلفت أحد ممن يجلسون معه فى هذه اللحظة نظره إلى أن من يتحدث عنه اسمه عباس فيتهلل.
فى الأغلب يختار حناوى جمهوره من الغرباء بعد أن أدرك أنه مفضوح وغير مرغوب فيه من الأهالى، والغرباء هؤلاء هم النازحون من مدن بعيدة للسؤال عن شخص معين، حينما يلمح أحدَهم عابراً يسأله: “رايح فين؟!” فى الواقع يكون الغريب متجهاً إليه لسؤاله عما يرغب ، وبالرغم من هذا يتعمد حناوى تجاهل ذلك وإعادة سؤاله “رايح فين؟!”. كان يحب أن يظهر فى شكل المسئول بداية قبل أن يدير مؤشره إلى شكل الحكيم. ولأن معظم رجال القرية يعملون فى نجع “السناوي” أو فى حقولهم التى تبعد عن القرية كيلو مترات يقطعونها بالحمير. يطلب حناوى من الغريب أن يجلس معه حتى يأتى من يسأل عنه. وبعد الترحيب به بتقديم شاى أسود قار ظل يغليه فى كنكة وضعها على مجموعة أحطاب أمامه لأكثر من ساعة يبدأ فى تقمص شخصية الحكيم ، يستهل ذلك بعبارة ما ليس لها أى معنى عند الغريب – وفى الأغلب عنده أيضاً- كأن يقول: “البلد مش واخدة بالها خالص” أو “مستنيين ملاك يقلع البلد ويخسف بيها سابع أرض” ولأن الغريب لا يفهم شيئاً فإنه يصمت وينتبه احتراماً للرجل الذى أكرم وفادته.. ثم يتحدث حناوى فجأة عن كل شىء فى البلد، من تخون زوجها ومن يكره أباه ومن يضرب حريمه، ثم يقارن ذلك بالعصر الذهبى – الذى لم يره أحد سواه – للبلد ويستخلص الحكمة النهائية أو فلسفته فى جملة من الجمل السابقة!
لكن مع الأسف الشديد تفشل خطط حناوى فى أن يقنع هؤلاء الغرباء بهيبته وقوته وحكمته الخاصة، حيث يظهر أحد الأولاد الحفاة فجأة.
– عم حناوى الخباص …. أمك يا عم حناوى. ينغم الولد “حناوى” الثانية فى الجملة، حيث يضيف ألفاً ممدودة بين الواو والياء يتردد صداها فى جنبات المكان “حنا وااااى”.
ينهض حناوى غاضباً وجارياً وراء الولد ، أحياناً يلقى بشومته عليه فتصيبه فى أقدامه، يقع وينهض جارياً وهو يتأوه من الألم ويظل يصرخ من مكان بعيد لوقت طويل حاذفاً لقب “عم” من شتائمه:
– …. امك يا حناوى يا ابن الخبّاصة!
ثم يصطنع الهدوء وهو يعود إلى المصطبة، ينفض الغبار عن البالطو الكمونى الضخم الذى يهبط إلى منتصف جلابيته الكستور المخططة بالأبيض – استحال إلى لون آخر– والبنّى. عيال صغيّرة. يقول كأنما تعامل مع الأمر بمنتهى الهدوء. بينما يرمقه الغريب بدهشة وربما بخوف!
فهمت لماذا كان يتودد إلىّ حينما طلب منىّ أن أحكى له عما أشاهده ليلاً فى البيوت . حينما حاولت أن أتملص أمسك ذراعى بكفه الخشنة، شعرت كأنه يطبق على رقبتى ، قول يا قط لعمك، مش عايز تقول ليه؟! يقول بهدوء مصطنع ومخففاً من ضغط أصابعه. تلعثمت مثلما يحدث لى حينما ينتابنى شعوران فى وقت واحد، أن أصيح فى وجهه بغضب معترضاً على إمساكه إياى هكذا، وأن أحكى..
عموماً بدأت أحكى حاذفاً كل الأمور المهمة، أدرك هو ذلك فبدأ يسأل: “وسميرة مرآة عبد السميع الجزار ماشفتهاش بتعمل حاجة كده ولا كده”. لا. أقول.
“ومراة بطرس الهايجة دى ما تعرفش مين بينط على بيتها من فوق العقدة(1) وجوزها مش قاعد؟!”. لا. أقول غاضباً.
“طب ابقى حاول تعرف”.
ظللت بعد جملته الأخيرة لا أقترب من مصطبته لشهور، أتحاشى ذكره حتى سمعت أبى يقول لجدى إن حنّاوى يخطط مع العمدة وآخرين من عائلة “الفضايلة” لإخراج بطرس الحلاق وأسرته من البلد.
بدأ يشيع كلاماً عن زوجة بطرس ملخصه أنها تغوى شباب البلد. الكلام انتشر فى قعدات المصاطب والغرز والبيوت.
جدى أبدى موافقة أدهشت أبى. هما مش ناس زيينا؟ قال أبى بغضب. وبعدين ما انت عارف حناوى الخبّاص، عايز يولّع حريقة فى البلد وخلاص. أضاف.
– مالناش دعوة.
– مالناش دعوة ازّاى وإحنا من “الفضايلة”، هو بيحاول يورط “الفضايلة” عشان لو حد اتكلم أو اشتكى بطرس فى المركز يبقى هو وعيلته بعيد.
تحدث أبى بعد ذلك مع عم خلدون. كانت تربطهما علاقة قوية، وهو أحد رموز البلد، يتم اللجوء إليه لتصفية النفوس بعد المشاجرات ، وإيداع الأمانات ، والفصل فى المنازعات على الأراضى..
حينما ذهبا معا إلى حناوى كان أبى يقف ممسكاً بذراع عم خلدون فمعروف عنه الغضب السريع تجاه من ينقلون الكلام ويشيعون جواً من الفتنة. لو ما بطلتش أساليبك يا حناوى أنا هاطلِّعكْ من البلد قبل ما يطلع بطرس. يقول بحدة. وانت محموق ليه؟! كانوا من بقية عيلتك؟! تساءل حناوى باندهاش حقيقى. لم يفلح أحد فى إثنائه عن مخططه.. وصلت الإشاعات التى يرددها عن زوجة بطرس إلى ابنها إيليا.
بعدها جاءنا من يقول إن إيليا بطحه وهو الآن عند الدكتور فتحى فى الوحدة الصحية، تجمّع الأولاد الحفاة وانطلقوا بمحاذاة الترعة إلى الوحدة فى الطرف الغربى من البلد. فى منتصف الطريق قابلهم حناوى على حماره ، يسير بجواره رجلان معممان.. ارتفعت شتائمهم فجأة متنافرة قبل أن يتحدوا فى هتاف واحد “الخباص حناوى”. ورغم إعيائه البادى ورأسه الملفوف بشاش تظهر منه بقعة ميكركروم صاح: غوروا يا ولاد الكلب. أقرن ذلك بالتلويح أمامهم بالشومة.