عودة القنّاصين إلى منازلهم

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لؤي حمزة عبّاس

 قلت:

ـ كلُّ شئ ممكن..

على عادة الكثيرين ممن يتركون الكلام معلّقاً، غير محسوم، فواصلَ النظرَ إليّ منتظراً أن أضيف شيئاً يمنح حديثي معنى، وبعد أن قدّر أنني لن أقول عاود الحديث من النقطة التي توقف عندها:

ـ إنه ينتقل من مدينة إلى أخرى، يدور سنواتٍ طويلةً، ويرى العالم في كلِّ وقت من ناظور بندقيته.

قال، كأنني لم أسمع ذلك منه قبلاً، وربما ظنَّ أنني سمعته ولم أفهم، أو فهمت ولم أقدّر أهميته.

 

 قلت:

ـ مثل آلاف القناصين، كلِّ يوم له مكان، يواصل مهمته في مراقبة الناس والطيور والأشجار من ناظور بندقيته، ويرى العالم محدداً وصغيراً.

لم يكن مقتنعاً بما أقول، ذلك ما بدا واضحاً على ملامحه، فاقترب مني أكثر وقال:

ـ ليس الأمر نزهة، ناس وطيور وأشجار، ومن ناظور البندقية لن يكون المشهد محدّداً وصغيراً، تختلف الأشياء والمسافات في عين العدسة، لن تبدو كما هي عليه في الواقع.

ـ تختلف؟

سألتُ فخفَّ انفعاله وتغيّرت ملامحه، هدأت قليلاً، وأجاب:

ـ ما أن يُغمض إحدى عينيه ويضع الأخرى على فتحة الناظور حتى يغيب عالمٌ ويكون عالمٌ جديد، وهو يعبر بينهما بلمحة خاطفة، يتغيّر خلالها كلُّ شئ ولن يظل الناس والطيور والأشجار على حالهم. اطلاقة سريعة واحدة تهزّ المشهد وتحطّم تماسكه، يسقط أحدهم، يُغمض هو عينه لحظة يراه، يفضّل أن يتصوّره يتهاوى ببطء ويُطيل أمد السقوط، إنها عادته، قبل أن يفتح عينه ويحرّك بندقيته باحثاً عن مشهد جديد.

بدأت الفكرة تشغلني بالفعل وأنا أتصوّر الرجل يتنقل من مكان لآخر وبيده بندقيته الطويلة، حتى إذا أراد أن يرى الأشياء على غير ما يراها الناس صعد على أقرب مرتفع، بناية أو تل أو برج مراقبة أو اتصالات، ثبّت جسمه وركّز بندقيته على كتفه، في نقرة الكتف كما يقول، أغمض عينه غير المستعملة ووضع الأخرى على الفتحة. ستتبدّل المعالم أمامه وتتغير الأشياء، كأنه يتنقل بخفّة بين غرفتين.

أنزل نظراته عنّي، إنه ينظر ليديه الآن، يتفحّص أصابعه المشبوكة ويقول:

ـ ما يُقلقني حقاً هو بأية عين يعيش.

ـ نعم؟

ـ أقصد بأية عين سيرى العالم، بعد أن ينتهي كلُّ شئ ويعود القناصون إلى منازلهم، ليس جميعهم بالطبع، لكنه سيعود مع من يعودون منهم، يرمي ملابسه القذرة وقد أثقلتها رائحة العرق والتراب والبارود، ويلبس أخرى نظيفة، بعد أن يكون قد وقف تحت الدش وأحسَّ الماء على جسمه رائقاً، منعشاً ولذيذاً، ورائحة الصابون تملأ أنفه وتمحو كلَّ ما عداها، وزاوله لوهلة شعور الانهاك الذي لازمه لوقت طويل، كأنما أزاحه الصابون عن جلده فسال مع مجرى الماء، ثم يتمدد على سريره، يمرّ وقت يفكّر خلاله بسنواته الطويلة العابرة، ويسمع أصواتاً خاطفة تخدش الصمت من حوله، ينام بعدها حتى يشبع، تعاوده في نومه كثير من الوجوه التي رآها من قبل، يشاهد من سقطوا يسقطون مرّة أخرى ويسمع أصواتهم، ويظل على هذا الحال يتقلّب بين الوجوه والأصوات حتى يصدّق أن كلَّ شئ قد انتهى وأنه الآن في منزله، وأن الوجوه تأتي وتروح. هل سيفتح عينه غير المستعملة فيرى الناس والطيور والأشجار كما يراها الآخرون، أو يتركها مغمضة ويواصل النظر بعينه الأخرى، المستعملة، فيرى الأشياء كما كان يراها عبر العدسة؟

ـ لكنه لن يحيا إلا بهما، مثل كلِّ البشر، هل رأيت أحداً من قبل يُغمض عيناً ويعيش بعين؟

ـ مع صاحبنا الأمر مختلف، صدّقني، مختلف تماماً، إنه لا يفعل ذلك بدافع من مزاج أو رغبة عابرة، لقد عاش سنوات بعين واحدة، تصوّر، رأى الأشياء تتغيّر كلَّ يوم في أي مكان يكون فيه، قرّب الكثير منها، وضعها في عين العدسة، عند نقطة التهديف، وأطلق الرصاص. كان يلهو أحياناً فيُطلق على النوافذ المغلقة، والأشجار البعيدة والطيور، ويفرح كثيراً باللعب مع حيوانات الرمال الحذرة، لم تكن تفكّر أبداً أن عيناً تترصدها عبر ناظور بندقية، تتابعها بهدوء وهي تدخل الدائرة وتقترب من نقطة التهديف، إلا في اللحظة التي يضغط فيها على الزناد ويراها تتقلّب على الرمال.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي عراقي ـ من مجموعة “قرب شجرةٍ عالية” التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصّة القصيرة

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال