د. أشرف الصباغ
إذا كانت السخرية هي الوجه الآخر للمأساة، فضحكة “هوبا” في سيمفونية “قرموط الست” هي روح الحياة في مواجهة الواقع القاتل، وتحايل الإنسان وحيلته لمواصلة تلك الحياة، متأرجحًا بين الدهشة والرضا تارة، وبين غرائبية هذه الحياة وعبثيتها تارة أخرى، وبين قسوة البشر والواقع المؤلم الذي لا يبشر بأي خير تارة ثالثة.
مجموعة “قرموط الست” للكاتب هاني منسي، الصادرة عن دار “روافد”- 2025، تضم ثماني عشرة قصة تخفي كل منها تفاصيل مؤلمة، أو بالأحرى تعلن عن تفاصيل موجعة. بينما المجموعة في مجملها تطرح العديد من الأسئلة على لسان أبطالها، وكأنهم يوجهونها ليس إلى بعضهم البعض، بل إلى الإنسان- القارئ، لا من أجل أن يجيب عليها، ولكن لكي يختبر نفسه وقدرته على الصبر واحتمال الغُبْن والألم. ذلك الألم الشفيف الذي يسكن أرواح الناس البسطاء من فرط قسوة الواقع، وقسوتهم على بعضهم البعض بوعي أو بدون وعي.
في هذه المجموعة “يعزف” الكاتب على عدة آلات موسيقية متمثلة ليس فقط في أصوات الشخصيات، ولا حتى في تعبيرات كل منها، ولا في تنغيم الحكم الشعبية المضفورة جيدا في نسيج تاريخي طويل ومتراكم، ولكن أيضا في نزوع كل شخصية للخلاص، ومحاولاتها كسر طوق المصير للخروج إلى فضاء إنساني يمنحها ولو حتى عدة سنتيمترات للتنفس والإحساس بالوجود، سواء كان ذلك في إنجاب طفل لسبب ما، أو في تجميل الألم، أو حتى في الإحساس بالألفة بين عناصر الطبيعة التي تتصدرها هنا الحيوانات والزرع والطيور والزواحف والمياه الجارية والليل والنهار.
عناصر الطبيعة، ومن ضمنها الإنسان، في قصص مجموعة “قرموط الست” هي الآلات الموسيقية التي يعزف عليها الكاتب سيمفونيته الشفيفة المشحونة بالحزن تارة، وبالألم تارة، وبالأحلام تارة ثالثة، وبالسكينة والطمأنينة والرضا تارة رابعة. من هنا تحديدا تنطلق الأسئلة: ما هذا؟ وما هذه الحياة؟ وكيف يمكن العيش هكذا؟ وكيف يمكن أن نكسر هذه الدائرة الجهنمية التي تتحرك فيها المصائر، وكأن الأمر محسوم سلفًا، وليس علينا إلا أن نتحايل لنكمل حياتنا، لعلنا نعثر على نقطة ضوء ينحسر عنها ذلك الليل المتسيِّد، الذي يبدو عفيًا وأكثر صدقا من النهار الذي يفضحنا ويكشف سوءاتنا وضعفنا.
رشيد وكريمة، نغمتان شاردتان، مأساة تفسر قسوة الواقع وعبثية الحياة. حُسِم مصير كل منهما بخبطة من القدر. بالضبط مثل التراجيديات اليونانية حين يفقد الملك عقله لسبب ما. الواقع هنا في هذه البقعة النائية قاس، مليء بالخداع والطمع والشراهة. وعلى وقع القَدَر والخداع فَقَدَ رشيد عقله وتحول إلى “صديق الحفيان”. هذه النغمة الحزينة لشاردة التائهة تبدو عادية في عيون المحيطين المشفقة، بينما تتردد في حزن في فضاءات روح كريمة.
إن النغمات الموسيقية المنفردة- الشاردة في هذه السيمفونية لا علاقة لها في هذه النصوص، كنصوص منفردة أو كنص مكون من عناوين، باللغة، بقدر ارتباطها العضوي بحالات الشخصيات، وكلماتها المحسوبة المرتبطة برصيد هائل من الخبرة، سواء الخبرة الشعبية أو التاريخية، أو حتى الشخصية. وكلها في نهاية المطاف تصب في نغمة واحدة تعلو وتهبط، وتتكرر بمزيج نغمي آخر، لكنها تشكل منظومة من الأصوات التي تخترق الوجدان وتستقر في الروح. هذا الوقع الموسيقي ينزع عن الشخصيات ملامحها الظاهرة وتشوهاتها، ليكشف عن ملامح أكثر جمالًا وإنسانية، وتناغمًا روحيا. أما الراوي فهو يستخدم المفردات اليومية والتسميات والطقوس، ليصنع نسيجا موسيقيًا آخر يتماهى بسلاسة مع ما ينطق به الشخوص ومع حالاتهم وما يدور في رؤوسهم وأرواحهم. إن السيمفونية هنا تكتمل ليس عن طريق اللغة، بقدر اكتمالها عن طريق تجسيد الصورة- المشهد الذي يضم شخوصًا وتصرفات وأحداثًا تبدو أسطورية. لكنها في نهاية المطاف واقع وحقيقة. وربما هذا تحديدًا ما يجعل تفسيرات سَحَر للجنَّة، ورأيها فيما حدث هناك، ورؤيتها للأساطير الدينية، وقعًا مقبولًا في سياق الأحداث من جهة، وتفسيرًا لما يجري هنا والآن من جهة أخرى.
لا شيء جيد في الفقر، ولا شيء جيد في الرضا بضيق الحال، ولا شيء جيد إطلاقًا في القناعة بأن ما يجري هو من طبائع الأمور، حتى الخداع والخديعة من الغرباء، ومن أقرب الناس أيضا. ربما يظفر الإنسان بالهدوء النفسي وراحة البال. ولكن هل خُلِق الإنسان لينعم براحة البال والهدوء النفسي من جراء الرضا والقناعة بالموازين المختلة والخداع ليتحول إلى مجنون أو مختل أو بهلول أو زاهد، أم خُلِق لينعم بالحياة ويتمتع بها وبوجوده، ويتناغم مع عناصرها الأخرى ليستطيع أن يقول وهو يعبر إلى “البر الغربي”: “إنني قد عشت”؟ في هذه المجموعة يطرح الكاتب بذكاء وحكمة نماذج مختلفة من البشر، رجالًا ونساء، ضمن واقع معتاد في بقعة نائية، أطرافها بائسة ومنبوذة وغير صالحة للحياة، بينما مركزها قد يكون مؤهَّلًا لبعض الحياة. هذا الطرح ربما يبدو سطحيًا أو عاديًا لبشر عاديين، لكنه في واقع الأمر ينطوي على النقيض الذي يجبر القارئ على التفكير في واقع مغاير تماما، وعلى طرح أسئلة كثيرة عن الرضا والقناعة والوجود، عن جدوى الحياة والهدف منها، عن الاستسلام والتسليم لأي سبب كان. هنا تحديدًا يتَكَشَّف جوهر السرد عن هشاشة هذا الواقع الخانق أمام “معادن” البشر الذين يعيشون فيه. فهناك من يحتمله، ومن ينكسر في مواجهته، ومن يتحايل عليه، ومن ينهش الآخر كوسيلة وحيدة لمواصلة الحياة. كل ذلك يمكن أن نستشفه من تداعيات “الحية” و”الليل” و”البغلة” والبقرة “أم الخير”، و”دكر البط”. ولو رأينا أنفسنا، ليس فقط بأعين الثعابين، بل بأعين البقر والحمير والبغال والحيات، لأشفقنا عليها وعلى أنفسنا في آن معًا.
أما القصص (أو الفصول) التي يبدو أنها لا تسير مع الخط العام الممتد للسرد بشخوصه، فهي تقوم بدور جوهري لتعميق صورة الواقع من جهة، ورسم ملامح الحياة في تلك القرية من جهة أخرى. فهي تتناول بشكل غير مباشر حياة ناس آخرين يعيشون على هامش الأحداث الرئيسية، لكنها في الوقت نفسه تصنع طبقات أخرى من الوعي بحياة الجميع وتشابكاتها، وبتطور الحياة الاجتماعية، وخروج الناس للتعليم والعمل في مدن بعيدة، وممارسة وظائف لم تكن موجودة في السابق. كل ذلك يعمل على توسيع فضاءات السرد والحياة، ويعكس الحركة إلى الأمام حتى وإن كانت بطيئة.
وإذا كانت شخصيتا كريمة ورشيد ومأساتهما تجسد أحد مسارات السرد، فشخصيتا سحر رزق سيحة وزوجها مبروك محروس الشيخ، وامتداداتهما تصنعان الفضاء الأساسي والسياق العام للنص بكل قصصه أو فصوله. فسحر، أو بالأحرى، روح سحر ووجودها المباشر أو غير المباشر في بقية النصوص، واضح ومُتجلٍ، باعتبارها شخصية مركزية حاضرة في خلفية السرد والحكايات، تتحرك بجسدها في قصة (أو فصل) “قرموط الست”، وتُرسي معالم الحياة، وتهيمن بحضورها غير المباشر في وعي كريمة وحكاياتها، وذِكْر ما كانت ترويه من حكايات، أو تقوم به من إنقاذ رشيد الصغير من لدغة الثعبان. إن سحر رزق سيحة، أو سحر رزق بلاطة، تمنح النص بالكامل جملة من الأبعاد الإنسانية من جهة، والعمق ذا الأبعاد الواقعية والأسطورية من جهة أخرى، وتربط بين أحداث الواقع والأساطير المتعددة من جهة ثالثة. وربما تكون علاقة سحر ومبروك وحياتهما وتفاصيل علاقتهما أحد الخطوط الرئيسية والمركزية للخطاب العام لهذا النص الساحر.
من جهة أخرى، تبدو شخصيات هوبا ومبروك وجعفر البغل كمثلث صانع للأحداث ومحرك للخيال، وخاصة هوبا الذي تطغى شخصيته وكراماته وتتجذر في وعي المحيطين كطوق إنقاذ، لتصل إلى مرتبة أولياء الله الصالحين. تلك الشخصية التي لا غنى عنها في واقع وصل إلى مرحلة من الركود وقلة الحيلة وانغلاق الآفاق، ولا يمكن أن تسير الحياة فيه إلا بوجود شخصية مثل هوبا، على الأقل لكي تمنح الناس القدرة على الصبر والاحتمال والأمل.
هذه السيمفونية الوجدانية، ربما تحاول أن تعيد- بشكل ما- الإنسان إلى الفكرة البسيطة عن الإنسانية، أو بالأحرى، تعيده إلى رشده، وإلى إنسانيته، عبر رحلة الشخصيات والطيور والحيوانات وبقية عناصر الطبيعة في بقعة نائية خانقة، يتم فيها تجريد الإنسان من قوته، وخصيه، وانتزاع جذور الخير من جسده وروحه، لأسباب عبثية.. في بقعة- بيئة، ربما تكون قاتلة للأحلام البسيطة التي تعتبر أبسط حقوق الإنسان في ظل قسوة الواقع وقسوة الناس على بعضهم البعض.