عن هذا التَّخْييل الذي يكادُ يُبكينا!.. أو في تَلَقِّي الأدبِ مَدْرَسِيًّا

الحي اللاتيني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العمراني*

“هي شابة فرنسيةٌ جميلةٌ وذكيّةٌ ومثقّفةٌ. تعود أصولها إلى أسرة فقيرة من منطقة الألزاس. قَدِمت إلى باريس لدراسةِ الصحافةِ. جمعتها علاقةٌ بشابٍّ فرنسيٍّ اسمه هُنْري، لكنها تعرضت للخُذلان من طرفه، لتعيش صدمةً كبيرةً. تعرفت بعده على الشابِّ العربيِّ* وأحبته بقُوّةٍ، لكنّه خَذَلَها مرة أخرى، لتعيشَ الانهيارَ والضَّياعَ، وتهويَ في قاعٍ سحيقٍ.”

كانت هذه إجابة إحدى تلميذاتي ( من مستوى الجذع مشترك آداب ) عن سؤال طالبتُها وزملاءَها فيه بتقديمِ تعريفٍ يخُصُّ شخصيةَ الفتاةِ الفرنسيةِ جَانِين مُونْتِرُو* ضمن رواية ” الحيّ اللاّتيني”* للأديب اللبنانيِّ الراحل سُهَيل إِدْريس*.

 وقد جاء التعريف الذي قَدّمته التلميذة جميلاً في لغته وصياغته ( وإن لم يكن كله من إبداعها، إذ تم تَدَاوُلُ بعض منه في الفصل). لكن جمال العبارة هذا جاء مُدَلٍّلا على كثير من القَسْوة والمأسوِيَّة، فالحديث عن انهيارِ الفتاة وضياعها، وبأنها قد سقطت في قاعٍ سحيقٍ، يُنبِئُنا عن مدى تَأَثُّرنا جميعا – أساتذةً ومُتعلِّمين و معنا باقي مُتلَقِّي الرواية – لما آلت إليه أوضاع الفتاة الفرنسية بعد تَنَكُّر الشابِّ العربيِّ لها.

ويُمَثِّل هذا النصُّ الروائيُّ الشَّهير نموذجا لأعمالٍ أدبيةٍ يُنشِئُ معها الأساتذة والمُتَعَلِّمُون علاقةً خاصّةً، وذلك لطول مدة مُجاوَرَتِهم لها، ( قد تمتد علاقة الأساتذة بها لسنوات) فهي تَندرِجُ ضمن المادة المُقَرَّرةِ للدراسة في مُكَوِّنِ المُؤلَّفَات في مادة اللغة العربية لأصحاب الشُّعبةِ الأدبيةِ بالتعليم الثَّانوي التأهيلي في المغرب.

 والحق أن العلاقةَ بهذا العمل الأدبي لم تكن دائما جيٍّدَةَ، بل هي – وكما في بداية كل عام دراسي – تعرف كثيرا من التَّشويشِ والاضْطِرابِ. وهو تشويشٌ أٌرْجِعُهُ  إلى قِلَّةِ احتكاكِ مُتَعَلّمِينا بعالم الأدب، إذ لا يميزون بين الواقعيِّ والخيالي في النُّصوصِ الأدبيةِ، فتجدهم يُقاربون أحداثها كما يفعلون مع أحداث السرد الواقعي. 

وفي هذا السٍّياقِ، قد لا أستطيع تذكر عدد المرات التي اضطررت فيها إلى أن أؤكد – للمتسائلين عن طبيعة الرواية – بأن الأمرَ يتعلق بأحداث مُتَخَيَّلَة. لكنّني، وبالرغم من هذا التأكيد، لم أكن أجدهم يقتنعون بما أفيدهم به من خبر تخييلها.

وبناءً على ذلك، لم تَحْضَ جانين مونتيرو بأيِّ تَعاطُفٍ، بل كُنتَ تقف على المُتعلِّمِين وهم يُحَمِّلُونها القسطَ الأوفرَ من المسؤولية فيما حدث معها؛ فما هي إلا فتاةٌ غربيةٌ مُنحَطّةٌ مَنَحَت نفسَها للشاب العربي فاستحقت مَصِيرَها.

 ولئن كان لجودةِ النص وقوتهِ دورٌ في موقف المُتمَدرِسين من الشابَّة الفرنسية، ( وأقصد بذلك جودة السرد وطريقة عرض الأحداث والشخصيات ) فإن سببا آخر قد يكون وراءه، وأقصد به طبيعة البيئة الاجتماعية التي تحتضننا جميعا، وهي بيئةُ محافظةُ؛ يُقَيَّم فيها سلوكُ الرجل والمرأة وِفق ما جاءت به تعاليمُ دينِنَا الإسلاميِّ ( سألني أحد تلاميذي ذات مرة إن كان الشاب العربي مسلما ).

 لكنني، وتدريجيا، أتابعُ التلاميذ والتلميذات وهم يُغيِّرون موقِفَهم من الأحداث والشخصيات، وُصُولاً لنسج علاقةٍ خاصةٍ معها؛ فأقف عليهم وقد تحولوا عن إلقاء اللوم على الشابة الفرنسية إلى إعلان التعاطف والتضامن معها؛ مُعَبِّرين عن حزنهم لما عانته من خُذلان ونكران ( بل يحدث أن تنظر للوجوه والأعين فتُشاهدَ التأثر الشديد لهذا المصير البائس لهذه الشخصية). يفعلون ذلك بعد أن يكونوا قد اقتنعوا أخيرا بالطبيعةِ التخييليةِ للأحداث، وبما تحقق لهم من أًلفةِ مع هذا العمل الأدبي وشخصياته بفعل طول المدة التي قضوها في تدارسُهِ.

وغير قضية الواقعي والتخييلي في رواية “الحي اللاتيني”، وجب الاعترافُ – من وجهة نظري – بأن اعتمادَ المَنظُوراتِ السِّتَّةِ خطة منهجِيّة في دراسة النصوصِ السّردية، كان موفقا، فهو يُسهم في تحقيق قدر أكبرَ من الإفادة ويوسع هامشَها. وهكذا، وبالإضافة للأهمية التي يكتسيها موضوع المعرفة بالأجناسِ الأدبيةِ المختلفةِ وبخصائصها النّوعيةِ، فإن وُقوفَنا بالتّحليل مع البعد النفسي مثلا، يُمكِّنُنا من مُقاربةِ مجموعةٍ من القضايا ذاتِ الصِّلةِ بأحوال أبنائنا وبناتنا، خصوصا وهم يمُرون من مرحلة يَعرفُ فيها تكوينُهُم النفسيُّ كثيرا من القلقِ والحَراكِ.

 كما تُسعفنا دراسة البعد الاجتماعي في تتبع خصوصيات الواقع الاجتماعي للبطل، وتفكيك بعض من شفراته. وهو للإشارة يُشبه – في كثير من ملامِحه – واقعَنَا الاجتماعيَّ في المغرب، حيث مِحْوريةُّ الأسرة، التي تخضع في تدبير أمورها لسلطةٍ عُليا تعودُ مقاليدها للأبِ أو الأمِّ. وفي رصدنا لهذا الواقع دائما، رأينا كيف تتراجع قدسية العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة في العالم العربي إلى الوراء أمام الالتزامات الأسرية لكليهما.

…………….

*  كاتب من المغرب

*  الشاب العربي: هو بطل رواية الحي اللاتيني، لم يجعل له الكاتب اسما. سافر إلى باريس للدراسة، لكنه اغتنمها فرصة ليتحرر من مجتمعه المشرقي الذي كان يقيده، فانطلق يغترف مما تتيحه الحياة الباريسية من متع، وعلى رأسها المرأة. أقام علاقة مع مجموعة من الفتيات الفرنسيات إلى أن استقر أخيرا في علاقة جادة بفتاة فرنسية اسمها جانين مونترو، لكنه تخلى عنها في ظروف صعبة كانت تمر بها تحت ضغط أمه.

* جانين مونترو: فتاة فرنسية تنحدر من أسرة فقيرة من منطقة الألزاس. قدمت إلى باريس بغرض دراسة الصحافة. أقامت علاقة بشاب فرنسي، لكنها انتهت بالفشل. تعرفت على الشاب العربي وأحبته، لكنه تخلى عنها نزولا عند رغبة أمه، لتعيش الضياع وترفض العودة إليه رغم محاولاته معها.

*الحي اللاتيني: رواية شهيرة للأديب العربي اللبناني سهيل إدريس، صدرت سنة 1953. ويتعلق السرد فيها بشاب عربي لبناني، سافر من بيروت إلى باريس لإعداد رسالة الدكتوراة في الأدب العربي في جامعة السوربون العريقة. أقام الشاب في باريس في الحي اللاتيني، ومنه انطلق يعُبُّ مما تتيحه الحياة الباريسية من مُتَعٍ. اعتبر نجاحه في إقامة علاقة مع فتيات فرنسيات مسألة تحدٍّ شخصي يستعيد به ثِقتَه بنفسه. تعرف، بعد طول محاولة، على شابة فرنسية، وأحبا بعضيهما، لكن أمه اعترضت على هذه العلاقة لِيَخْذُل صديقتَه ويتسبب في ضياعها.

* سُهَيل إِدْريس: أديب وكاتب وصحفي لبناني، ولد سنة 1925. درس العلوم الشرعية في لبنان قبل أن يتحول عنها إلى الصحافة. سافر إلى باريس حيث نال هناك الدكتوراة في الأدب العربي الحديث. يعتبر من مؤسسي مجلة ودار الآداب البيروتية رفقة أدباء رواد آخرين. يتوزع إنتاجه ما بين نصوص روائية وقصصية ومسرحية، يضاف إليها دراسات نقدية أخرى. توفي سنة 2008.

*المنظورات الستة: وهي خطة  منهجية تعتمد رسميا في التوجيهات الرسمية المتعلقة بدراسة النصوص السردية، وهي تقوم على الوقوف مع ستة عناصر، وهي: تتبع الحدث- القوى الفاعلة- البعد النفسي- البعد الاجتماعي- البنية – الأسلوب.

 

مقالات من نفس القسم