هي نفسها الملامح التي ميزت روايته الناجحة “هدوء القتلة” (ميريت 2008)، وتاليتها “الأرملة تكتب الخطابات سراً” (العين 2009)، وهاهي الآن تتأكد في مجموعته القصصية الجديدة “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” نهضة مصر 2010).
في هذه المجموعة الأخيرة تتنافر القصص من حيث موضوعاتها، شخوصها ربما، لكنها تعود ليلتقي جميعها في روح المكان، سواء المكان الفيزيقي، بوصفه السابق، الذي ينتمي بالطبع لمدينةٍ، ومدينةٌ ساحلية على الأرجح، مفتوحةٌ على سماءٍ وبحرٍ، وضبابٍ كثيف، وشخوص أكثر مايجمعهم أن لكلٍ منهم هواجس وكوابيس، أو لنقل أحلاماً غامقة، أحلام يشتغل عليها ــ طوال الوقت ــ طارق إمام، جاعلاً منها كل القصة أو كل الحياة.
أما المكان الآخر فيمكن تسميته بالمكان الأسطوري، العائم، المشدود لأعلى قليلاً عن الواقع، يختار من قوانين هذا الواقع ما لا سيعرقل الحكاية، ويسن هو باقي القوانين.
رغم هذا يصعب أرشفة هذه القصص ضمن تيار الواقعية السحرية، المولع به إمام، هو لا ينكر ذلك في قصصه ولا يؤكده أيضاً، لكنه أحياناً يستغرب مثلنا من بعض الخوارق التي يطرحها، فيعالج ذلك غالباً بتسييج هذه القصص بالأحلام والخيالات كي يبررها، لكنها تظل دائماً على الحدود بين ما نتصور أنه الواقع ومانسميه خيال.
وفي هذه المجموعة التي تضم 17 قصةٍ متفاوتة الطول، يقلب الكاتب لقارئه حكاياتٍ جديدة، تبدو وكأنها مكتوبةٌ للتو، يجاهد لتشذيبها بأدواتٍ مسنونة تنتمي أكثر ما تنتمي لفن السينما، حيث التقطيع المتسارع، والمشاهد المبهرة في ذاتها، وتدرجات الضوء.
قد يستغرقه ذلك أحياناً فتطول منه الحكاية، وتغريه التفاصيل، عندما يستعذب تواريخ بعض الشخوص أو الأشياء فيلقمها للقاريء، لكن الخيوط جميعها تظل في يده، بجذبةٍ واحدة، يتحكم في مصير الحكاية، ويعرف متي ينهيها، ويرسل قارئه للنوم.
ويبدو أن طارق مهووس بالفعل بالأجساد الناقصة، وبالأعضاء التي فارقت أجسادها كذلك، يبين ذلك في روايتيه السابقتين، حيث أشخاص بلا أقدامٍ، وكفوف أيدٍ تسيطر على أصحابها فيكتبون شعراً أو يقتلون، وأرجل صناعية تتمشى وحدها، ومقاعد متحركةٍ تتجول بلا قاعديها، لكنه هذه المرة بدأ مجموعته بمصورٍ أعمى، تحول دكانه إلى دولاب ملابسِ لزبائنه الميتين.
على بعد قصةِ من المصور العجوز، يجلس شاعر الإسكندرية اليوناني “كفافيس”، الذي استلهم الكاتب أو الراوي من إحدى زياراته لمتحفه حكاية مؤسطرة، وبعدها بقصصٍ يأتي المبدع الأرجنتيني الرائد “بورخيس” وقصة غامضة مكتوبة بـ “عينا رجل أعمى” ذلك العمى الذي أصاب الكاتب الكبير فحفزه على إثبات إبداعه، ووراءهم قصةً أخرى من داخل “غرفة يهوذا”، وقصصٍ أخر لبحارةٍ وقراصنةٍ، وتجار، ورحالةٍ، وأشباحٌ كثيرون، ومدنٌ تغرق، ومدنٌ تأكلها الأشباح فتصير مقابر واسعة تسكنها الهياكل، وأشباح أخرى تحرس الأحياء، ورجل يموت كل نومٍ في مدينةٍ جديدة، ولا يأتيه الموت إلا بعدما تموت زوجته، الشيء الوحيد الذي يربطه بمدينته الحقيقية.
وتأتي قصة “أنامل الأنثى” لتمثل ذروة الإبهار والفن في هذه المجموعة، حيث محركة عرائس ماريونيت، تبين أناملها خطأً من أسفل الستار، فيعرف المتفرجون أن هذه الأنامل لأنثى، ثم لا تلبث هذه الأنثى، وخيالاتهم المنسوجة حولها في أن تكون كل العرض، خاصةً بعدما يتبين للمتفرجين، من اختلاف درجات السواد بين جسدها، وظلمة المسرح، وسواد خيوط العرائس، أنها كانت أمامهم على المسرح، عاريةً تماماً، لكنها مطليةٌ بدرجة أخرى من الأسود.
يبقى التأكيد على نقطةٍ أخيرةٍ، وهي حضور تيمة الكتابة أو الإبداع الأدبي في كتاباتطارق إمام، فبطل هدوء القتلة كان شاعراً، يخلص للشعر لدرجة القتل، وبطلة رواية الأرملة كانت كاتبة بدرجةٍ ما، تستلهم حياتها من الخطابات الغرامية التي كانتى تكتبها لتلميذاتها ليرسلنها لمن يحببنهم، وفي المجموعة الأخيرة فضلاً عن حضور “بورخيس” و”كفافيس” وغيرهم من رموز الأدب، حضرت الكتابة حتى من خلال الولد الخطاط الذي ظل يكتب حكايته ثم يعيشها بالتوازي:
“كنت أؤلف لنفسي حياة لم أعشها، سافرت بلاداً وعرفت أعداء وأصدقاء.. ومع كل مرحلةٍ في حياتي كنت أنوع الخطوط حتى صارت تلك الخطوط تشبه تموجات حياتي التي رحت أؤلفها كأنني أكتب عن شخصٍ آخر عاش ومات بالفعل قبل أن أجيء أنا للوجود. و لا تريد الحكاية أن تنتهي..”.