محمد أسامة
لا يخفى على معظمنا شخصيات مثل جحا صاحبة المواقف التي تمزج سرعة البديهة والمكر مع العفوية الصادقة لتحقق الغرض في الضحك والتسلية أو تسرية الهم بقراءتها، الأمر بسيط هكذا، لكن يرمي بعض قراء تلك الطرائف بأن النظر لجحا كونه مضحكا وحسب ظلما له وإلا لماذا عاش وتنقل من بلد لبلد طيلة هذه السنوات، والأهم لماذا يلجأ إليه الناس إذا احتاروا في مسائلهم
–الساخر المتعالي “أبو منى بهلول جديد”
بالنظر لمشاهد متقطعة من المسلسل السوري بهلول أعقل المجانين -وبهلول شخصية كانت لها مواقف مع الخليفة العباسي هارون الرشيد لدرجة أن الرشيد تأثر لعظاته- من بداية ادعائه الجنون مخافة الخليفة وستارا لموالاته موسى بن جعفر الصادق أحد الأئمة العلويين إلى مواقفه في سوق الكرخ- “حين احتال على بائع الفاكهة وأخذ “كمثرى” مجانا بحسابات بسيطة- ودار الخلافة والتي ربما تصل لحسمه مسألة جدلية في النحو مات أحد طرفاها كمدا “فإذا هو هي أو فإذا هو إياها” إلى المشهد الثابت “لحاقديه والمستجيرين به” عن الحيرة الشديدة من علامات جنونه إذ أنه يمتطي عصا على أنها حصان، لا أجد إلا أمرا بالغ التعقيد رغم بساطته، فهو اختار حلا صعبا لا هو أغلق بيته مكتفيا بموقف الجنون الذي ادعاه على نفسه، ولا هو بقي على حاله مواجها غضب الخليفة “كما فعل بعض الأئمة”.
والصحيح أن بهلول بهذا الاختيار كان ذكيا، وفي تمسكه بحماقته المصطنعة “كامتطاء العصا أو الضحكة البلهاء” فلسفة قوية، وطريقة بها حكمة بأن لا مواجهة ولا انطواء، بل اتخذ دنياه لعبة يجذب الناس بحكمته ثم يبتعد عنهم بجنونه، وهكذا تستقيم الأمور.
-يبرهن على ذلك فرضية الكاتب الأمريكي جوزيف كامبيل في كتاب البطل بألف وجه، حيث في فقرة التهيئة وبعد تخطي البطل معضلة المعرفة والواقع، وكان متهيئا كفاية لاستيعاب التكامل بينهما يصير في الميثولوجيا كتجسيد مزدوج الجنس، كنموذج البوديساتفا في البوذية “السيد الذي ينظر من أعلى مشفقا “، وهذا المعنى الذي جعلني أفكر في معنى الشفقة، فلا أجدها إلا ثابتة غالبا ناحية السخرية نتيجة جمعه للضدين “الحكمة والجنون”، لما عرفه من معاناة العلماء، وما رآه من مظاهر لا يقبلها وإكبار ما لا يستحق وخلق كثر غارقون في الفقر، ولذا تصير جنونه بسطة ترفع عنه الحرج فيتحقق العلو، ومعرفته وحسمه لمسائل مهما كانت حجمها “كالمسألة النحوية أو احتياله على بائع اللحم” فيتحقق مفهوم الشفقة، وهي هنا السخرية من حال المجتمع العائش فيه، فنراه ينثر دنانير على الأطفال الفقراء قائلا “كلوا بثمن دار كان يحلم بها الخليفة”
❞ يذكِّره الضجيج بجبريل؛ الرجل الصاخب الذي تعرف عليه في خضم دوامة ٢٠١١، واعتاد أن يراه كلما جلس إلى المقهى الشعبي القريب من عمله كان جبريل هذا يرى في كل شيء حوله مؤامرة كونية الحق يُقال إنه بدأ هذا قبل أن ❞ يصير التآمر تهمة رائجة، يرددها الجميع تقريبًا وتتبناها وسائل إعلام وإعلاميون معروفون أي شخص لا يعجب جبريل متآمر صبي المقهى الذي يتأخر في إحضار حجر الشيشة له متآمر بائع عصير القصب المتجهم على ناصية الشارع متآمر مديرته في العمل طابور خامس. الهواء الذي نتنفسه عميل لجهات أجنبية. ❝
أطلس الخفاء- منصورة عز الدين
-ولعلي رأيت من شخصية جبريل “أبو منى” في رواية أطلس الخفاء للكاتبة منصورة عز الدين ما يشبه تلك الحالة؛ نراه يفرض نفسه في رسوم الجرافيتي بعد الثورة أو العبارات الغريبة على الجدران، وحتى ضجيجه -كما يصفه مراد- الموضح في الاقتباس، وكل ذلك يجعلنا نفكر، ربما يكون جبريل هذا نوعا ذكيا، يعكس الصورة الحامية من أحداث والتطاحن وقتها-أو عموما في وصفه لمديرة عمله- إلى صورة ساخرة تهون فيها كل الشعارات وتصبح مطاطية لا معنى لها، وبالمثل في رجال غسان كنفاني للكاتب عمرو العادلي حين نرى حديث مروان عن كمية من الشال الفلسطيني مكوم عنده، وهذه رمزية سخرية من المتاجرة بالقضية ذاتها.
—مقاييس نداء المغامرة
من تفسير آخر لسخرية بهلول وجبريل فرضية أخرى لجوزيف كامبيل من نفس الكتاب عن نداء المغامرة، حيث نرى المثال الأول “وجود ضفدع يعرض على الأميرة عرضا بسيطا” ومنه نرى استخفاف الأميرة الصغيرة به حتى إن حقق ما أرادت نسيت شأنه وعرضه، ومنه نسأل سؤالا؟ هل لو كانت الأميرة تعرف ما وراء الضفدع أو كان في صورة أبهى جمالا ستلتفت؟
-في شخصية جبريل إجابة جلية، ففي الوقت الذي ينتشر فيه المحللون والمنظرون، استطاع هو أن يجد مكانا في عقل مراد، بضجته وعباراته المريبة، والتي تمثل نداءً لمن يجازف ويريد معرفة طبيعة العصر، أو التاريخ عموما، وفي بهلول أيضا، فلولا جنونه وانتقال الناس من الامتهان إلى الحيرة ما كان بقيت سيرته
-يعني ذلك، أن المغامرة الكبيرة ربما تصبح بلا قيمة إن كان النداء من صوت نبيل أو عاديا مثلهم، إذ أن طبيعة البشر لا تكترث إن كان المنادي شخصا عاديا أو مميزا، بل تلتصق أكثر بمن هم أقل نتيجة حيرة شديدة عن حوزه الحكمة رغم مآله، فيستجيبون فضولا لاستزادة، وإلا لما استجابت الأميرة للضفدع وما استزاد هارون الرشيد من بهلول الوعظ