عن زهرة الحُبّ والخيول المهاجرة.. وقصيدتان أُخْريان

روبير ديسنوس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

روبير ديسنوس

 ترجمة وتقديم: مبارك وساط

* في سنةَ 1924، ظهر للشّاعر الفرنسيّ روبير ديسنوس (1900-1945) Robert Desnos أوّل كتاب جدير بالاهتمام: «حِـداد مُقابِل حِداد». وفي سنة 1927، قُدِّم للمحاكمة بتهمة “الإخلال بالحياء” إثر نشرهِ قصيدتَهُ: «الحُرّية أو الحُبّ». وقد ارتبط بصداقات مع شعراء الدّادائية، وانتمى إلى السّوريالية، وفي 1930، كان ضمن المنشقّين عنْها. شارك، كجنديّ، في الحرب العالمية الثانية، وأسره الألمان سنة 1939 ثمّ أخلوا سبيله. وانضمّ إلى المقاومة واعتقلته الغِسْتابو في فبراير 1944. وفي 8 يونيو 1945، تُوفي روبير ديسنوس بالتّيفوس بِمُعسكر الاعتقال “تِريزِين” بتشيكوسلوفاسكيا،-بعد أن فرّ  الجنود الألمان مِن ذلك المُعَسكر- وكان قد أصيب بذلك المرض خلال فترة اعتقاله.

من أعماله الشّعرية: «جسد وأملاك»، «ثروات»، «مجال عامّ»؛ وله رواية واحدة: «الخمرةُ قد صُبّتْ».

القصائد:

عن زهرة الحُبّ والخُيولِ المهاجرة

  

كانت في الغابة زهرة جسيمة تُوشِك أنْ تُميتَ

من الحُبّ كُلَّ الأشجار

كلّ الأشجار كانت تُحِبّها

كانت أشجار السّنديان نحو منتصف الليل تَنقلب زواحف وتدبّ

حتّى تبلغ ساقَها

وكانت أشجار الدّردار والحَور تنحني نحو تُوَيْجها

ونباتات السّرخس تصفرُّ في تُربتها

وكانت باهرةً أكثر من العشق الليليّ بين البحر والقَمر

وشاحبةً أكثر من البراكين الكبيرة الخامدة على هذا الكوكب

وأشدَّ حزناً وحنيناً من الرّمل 

الذي يجِفّ ويبتلّ بمشيئة الأمواج

أتحدّث عن زهرة الغابة لا عن الأبراج

أتحدّث عن زهرة الغابة لا عن حُبّي

وإن كانت شديدة الشّحوب عارمة الحنين وباهرةً

تُحبها الأشجار ونباتات السّرخس

وتُبقي نَفَسي حبيس شَفَتيّ

فلأنّنا من نفس الجوهر

وقد التقيتُها ذات يوم

أتحدّث عن الزّهرة لا عن الأشجار

في الغابة المرتعشة من حيثُ كنتُ أَمُرّ

أحيّيكِ يا فراشةً في تُويج الزّهرة قَضتْ نحبها

وأنتِ أيتها السّرخسة المتفسّخة التي هي قلبي

وأنتما يا عينيّ السّرخستين يا من أنتما

تقريباً فحمٌ لهيبٌ مَوجٌ

عبثاً أحكي عن الزّهرة لكنْ عن نفسي

السّرخسات اصفرّت على الثّرى الذي صار مماثلاً للقمر

في زمن محدّد شبيه باحتضار نحلة

ضائعة بين نبتةِ تُرُنْجان ووردةٍ وحتّى لؤلؤة

ليست السماء منغلقة إلى هذا الحدّ

يظهر فجأة رجل يَنطق باسمه فتنفتح أمامه الأبواب

عنده أقحوانة في عُروته

عن الزّهرة الثّابتة أتحدّث لا عن مرافئ المُغامرة والوَحدة

واحدةً واحدةً ماتتِ الأشجار حول الزّهرة

التي كانت تتغذّى على موتهنّ العَفِن

لِذا فإنّ السّهلَ أصبح مثل لُبّ الفواكه

ولذا انبثقتِ المُدن

نَهرٌ عند قدميّ يتلوّى ويَبقى تحت رَحمتي حَبْلاً

لتحيّة الصّور

قلبٌ في مكان ما يتوقّف عن الخفقان وتنتصب الزّهرة

إنّها الزّهرة التي تنتصر رائحتُها على الزّمن

الزّهرة التي من تلقاء نفسها كشفتْ عن وجودها للسّهول العارية

الشّبيهة بالقمر بالبحر وبالقحولة المهيمنة على القلوب المتألّمة

مِخلبُ جرادةِ بَحر شديد الحُمرة يَبقى جَنب طنجرة

الشّمسُ تَطرح على الأرض ظِلَّ الشّمعة وظِلَّ الشُّعلة

تنتصبُ الزّهرة بكبرياء في سماء خُرافيّة

أظافركنّ صديقاتي شبيهة ببتلاتها وورديّةٌ مثلها

والغابة الهامسة في الأسفل ينبسط مداها

قلب يتوقّف مثلما نبع ناضب

فات أوان الحُبّ فات الأوان يا عابرين في الطّريق

زهرة الغابة التي أروي حكايتها هي أقحوانة

لقد ماتت الأشجار واخضَرّت الحقول وظهرت المدن

الخُيول الكبيرة المهاجرة في إسطبلاتها البعيدة

تدقّ الأرض بحوافرها

قريباً ستنطلق الخيول المهاجرة الكبيرة

ترى المدنُ قطيعَها يمرّ في الشّوارع

التي يطنّ بلاطُ أرصفتِها إذ تَقرعهُ بحوافرها

ومنه ينبعث أحياناً شرار

ينقلب حال الحقولُ إثرَ مرورها

وهي تجرّ ذيولها وسط الغبار نافثةً من مناخرها الدّخان

تمرّ أمام الزّهرة

تُصبح ظلالُها وظلّ الزّهرة امتداداً لبعضها البعض

لكنْ ماذا حَصل للخيول المهاجرة

التي كانت أكفالُها المُرَقّطة نذيرَ آفة

أحياناً نعثر على أُحفور غريب إذ نُنقّب في الأرض

إنّه إحدى حَدواتها

الزّهرة التي رأتهنّ تزداد نضارتُها بلا شائبة ولا ضعف

الأوراق تتنامى على ساقها

السّرخسات يلتهبن وينحنين من نوافذ المنازل

لكن ما الذي أصبحت عليه الأشجار

ولماذا تُزهر الزّهرة

يا براكين! يا براكين!

السّماء تهوي

أفكّر في أبعد ما في أعماقي

الأزمنة المُنصرمة هي مثل أظفار انكسرت على الأبواب المُغلَقة

حين يمضي فلّاح في قرية ليموت

مُحاطاً بفواكه ناضجة من نهاية الخريف

بطقطقة الجَليد الذي يتصدّع على زجاج النّوافذ وبالضّجر

حين يمضي ذاوياً ذابلاً مثل زهرة تُرُنْجان في مَرج

تظهر الخيول المهاجرة

حين يتيه مسافر بين وميض مياهِ مستنقعاتٍ

وَسْط فَجوات أكثرَ من تلك التي توجد على جباه الشّيوخ

ويستلقي فوق الأرضيّة غير المستقرّة

تظهر الخيول المهاجرة

حين ترقد فتاة صغيرة عارية تحت شجرة بَتولا وتنتظر

تنبثق الخيول المهاجرة

تظهر ولِرَكْضها أصواتُ قواريرَ تتكسّر وخزاناتٍ تَصِرّ

ثمّ تختفي في مَهْوىً

ما من سروج أرهقتْ ظهورَها

وأكفالُها الوضّاءة تعكس السّماء

تَمرّ فتنقدف من وَقْع سنابِكها لُطَخٌ

على حيطان حديثةِ التّكليس

والجليدُ الذي يتصدّع والثمار النّاضجة

والأزهارُ التي سقطتْ عنها أوراقها

والماءُ الآسِن والأرضُ الرّخوةُ

حيثُ تتشكّل المستنقعات ببطء

كلّها ترى الخيولَ المهاجرة تَمُرّ

الخيول المهاجرة

الخيول المهاجرة

الخيول المهاجرة

الخيول المهاجرة

 

أقوالُ صخورٍ

 

مَلِكة اللازورد ومَجنونُ الفراغ يمرّان في سيّارة

على حافَّات النّوافذ تَرتفقُ شُعورٌ

وتقول الشُّعور: «إلى وقت قريب!»

«إلى وقت قريب!»، تقول المِيدوزات

«إلى وقت قريب!»، تقول أنسجةُ حرير

تقول الأصداف تقول اللآلئ تقول الألماسات

في وقت قريب ليلةٌ ليالٍ بلا قمر ولا نجم

ليلةُ كلِّ السّواحل وكلّ الغابات

ليلةُ الحبّ كلِّه ليلةٌ من أبعد الأزمان

زجاجةٌ تَنشَقّ في النافذة المُترصَّدة

قماشٌ يصطفق فوق الرّيف المأساوي

ستكون وحيداً

بين شظايا الأصداف والألماسات المتفحّمة

الألماسات الميّتة

وحيداً بين قطع حرير كانت فساتين

أُفْرِغَتْ حين اقتربْتَ

بين آثار الميدوزات التي فرّتْ

حين رفعتَ عينيك

وَحدها الشُّعور ربّما لَن تَفرّ

ستُطيعك تَتَثنّى بين أصابعك

كإدانات لا مردّ لها

شُعورٌ قصيرة لفتيات أحببْنني

شعور طويلة لنساء أحببْنني

ولم أُحِبِبهُنّ

اِبْقين طويلاً في النّوافذ يَا شُعور!

ليلةٌ من كلّ ليالي السّاحل

ليلةُ نَجَفةٍ ومأتمٍ

دَرَجٌ ينبسط تحت خطاي والليلُ والنّهار

لا يخصّان مصيري سوى بظُلمات وإخفاقات

عَمود الرخام الهائلُ الشّكُّ

يَسْنُد وحده السّماء فوق رأسي

القناني الفارغة التي أهشّم زجاجها شظايا مقرقعة

عِطرُ الفلّين الذي خلّفه البَحر

شِباكُ السّفن المُتخيَّلة من طرف الفتيات الصغيرات

نُثارُ الصَّدف الذي يُسحق في أناة

مساءٌ مِن كلّ أَمسية الحبّ والخلود

اللانهائيُّ العميقُ ألمٌ رغبةٌ حبٌٌّ رُؤيا

معجزةٌ ثورةٌ اللانهائيُّ العميق

يَلفّني بظلمات ثرثارة

اللانهاياتُ الأبديّة تتحطّم قِطعَ زجاج يا أيتها الشُّعور!

كانت ليلةً ستكون ليلةً لياليَ بِلا قمر بلا لؤلؤة

بِلا حتّى قنانٍ مُهشّمة.

 

احتفال عجيب

 

آخِرُ قطرات الخَمر تَشتعل في قَعر الكأس،

حيثُ للتّوّ ظهَرَ حِصْن.

أشجارُ جانبَيّ الطَّريق، العَجْراء،

تنحني صَوْبَ المُسافِر.

إنّه قادِمٌ من الدَّسكرة القريبة،

إنَّه قادِمٌ من المدينة البعيدة،

إنّه يَمُرّ فحسبُ أسفلَ أبْراج النـّواقيس.

يَلْمَحُ في النّافذة نجمةً حمراءَ تتحرّك،

تَهْبِط، تتنزّه مُتَرَنِّحَة

على الطَّريق البيضاء، في الرّيف الأسود.

تتَّجِه نحو المُسافِر الذي يراها قادِمة.

لِلَحْظة تلتمعُ في كُلٍّ من عينيه،

تسْتَقِرُّ على جبهته.

يُدْهِشُه الوميض البارد الذي يُضِيئُه،

فَيَمسحُ جبينه.

بإصبعه تَعْلِقُ قطْرَةُ خمر.

الآن يَبْتعِد الرّجل ويتضاءل في ظلمة الليل.

لقد مرّ بِقرب ذاك النّبع حيثُ تفِـدُونَ صباحا

لتقطفوا نباتَات الحُرْفِ الطّريّة،

لقدْ مرّ بِقُرْبِ البيتِ المهجور.

إنّه الرّجل ذو قطرة الخَمر على الجبين.

في هذه اللحظة، هو يرقص

في قاعة مترامية الأطراف،

قاعةٍ باهرة الأنوار،

أرضيَّتُها المُلمَّعة تُشَعشع

عميقةً مثلما مِرآة.

إنَّه وحيد مع راقصته

في هذه القاعة الشّاسعة، حيثُ يَرقُص

على عزف أوركسترا من مسحوق الزُّجاج.

الكائناتُ الليلية

تُنعم النّظر في هذين الاِثْـنَـيـن المُتَوحّدين

اللذين يرقصان.

الأجمل من بين كائنات الليل

تلقائيّاً تمسحُ عن جبينها قطرةَ خمر،

تودِعُها كأساً،

فيستيقظ النائم،

ويرى القطرة تلتمع كما ألْف ياقوتة في الكأس

التي كانتْ فارغة حين أغفى.

يتأمَّـلُـها.

يَتَرجَّحُ الكَوْنُ خلال دَقيقة صَمْت

ثُمَّ يستعيدُ النّومُ سُلطانَه،

ويعود الكون إلى مسارِه

عبر آلاف الطّرق البيضاء التي رسمها العالَم

في أرجاء الأرياف المظلمة.

مقالات من نفس القسم