عن بابا

مريم حسين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مريم حسين

عام وتسعة أشهر تحاملت فيهم كل صباح على نفسي لشُرب فنجان قهوة في الصباح الباكر، قبل الذهاب لعملي، لعلي أجد الورقة الطويلة الملفوفة بشكل اسطواني في انتظاري ليلة بطولها بجوار برطمان المربى الذي صار برطمان قهوة.

عادة في الصباح أشرب ماءً دافئاً بالليمون، نادراً ما كنت أشرب قهوة. كيف كنت تعلم أنني في الصباح سوف أقرر تغيير الروتين وأشرب قهوة فتضع لي اللفافة بجوارها أم تراني كنت وبشكل لا إرادي عندما أجد اللفافة أتنهد مستدعية عقلي من نوم طويل وبشكل تلقائي أصنع كوب قهوة.       

أشرب القهوة في هدوء “ع الواقف” وأنا أقرأ للمرة الثالثة أو الرابعة حروفك الكبيرة المتشبعة تماما بمعانيها مكونة قصة قصيرة. أقلب آخر صفحة وأكتب ملحوظاتي بلون قلم مخالف للون المكتوب به النَصّ. أترك لك اللفافة في الظلام على منضدة بجوار سريرك وأجرى خارج المنزل.         

أو / أخطف بسرعة وفي الظلام أيضاً ورقة مربعة – تركتها لك مقلوبة على ظهرها  قبل مجيئك من المكتب – وقد هربت بالنوم قبل حضورك ليلاً – أخطفها وأجري خارج المنزل، أجلس على أول سلّمة،  تقابلني أقرأ ملحوظاتك التي كتبتها خلف آخر صفحة بلون مخالف للون قصّتي القصيرة. هكذا كنا.. علاقة يغرقها الصمت والخجل، الخجل من إظهار الحب والإعجاب، استطاع أن يفلت من خجلنا الفرح والهزار والمبالغة في مديح طهيك وسبّ طهيي. وقلت أيضا نقاشنا السريع المقتضب فيما يخص رواياتك أو أي عمل فني. فقط نطمئن أننا على وفاق أو خلاف بسيط  أو تحتد المناقشة فتشيح بيدك غير مبال وتذهب. ذلك الصمت في علاقتنا استدعي مني لأني الأصغر سناً والأقل خبرة استخدام كل حواسي للفهم بل وللتعبير أيضا واستقبال أي إشارة منك تخص شيئاَ ما، استخدام كل حواسي فيما عدا الكلام واستقبال كل إشارة منك فيما عدا الكلام… لكن.. مع بدء ظهور مشاكلي الحقيقية الأكبر من شكوى من مدرّسة أو ضرب الناظر ارتبكت رغماً عني، أخطأت حواسي في الاستقبال والإرسال وقطع لساني للأبد. وتمسّكت أنت بخجلك وكانت النتيجة سوء فهم وصمت وتراكمات لإشارات خاطئة من كلانا. ولكن ذلك لم يمنع أبدا أن تنظر لي بطرف عين في أيام الإجازات في العاشرة صباحاً لتسألني: جاي في طعمية سخنة.

بالطبع حزنت عندما طُلبت مني الشهادة تلك، شهادة تُكتب عنك.. ذلك يعني أنك لست موجودا..

لكم تمنيت ضرب الأصدقاء الغاليين وهم يستخدمون كلمة رحل أو مات أو موته أو “اللي خلّف مامتش” أو “تعيشي وتفتكري”، بالضبط كما تمنيت ضرب كل من سوّلت له نفسه بإعلان خبر عدم وجودك في الدنيا على الفيس بوك. حتى ولو كان الأمر رسالة ومكالمة عزاء ممن أحب.

بداخلي غضب شديد ومستمر لا يسمح لي بأخذ هدنة، غضب يدفعني لفرم قوالب الطوب الأحمر بين أسناني بسهولة فرم مربعات السكر. بالطبع ليس لأنك  “تركتني وحدي”، لم تظل معي للنهاية كما وعدتني، خنت العهد ورحلت، تركتني أواجه قسوة الحياة وحدي “وكل هذا الكلام” .

ففي خضمّ حزن وصدمة كتلك كيف لي أن أفكر في حالي!! في وضعي!! إنها أنانية مفرطة .. حينها أردد “ما أغور أنا”.

كل يوم أفكر ليلاً وأنا أتجول في الشقة في كامل غضبي ممتعضة الوجه بحاجبين مضمومين بشكل تلقائي أسأل نفسي: “لِمَ تقفز أمامي كفرقع لوز طوال الوقت تفاصيل معينة لو كنت انتبهت لها أو تأنيت قليلا أو شككت في كلام أحد الدكاترة أو أجبرتك على الذهاب لطبيب آخر وعدم انتظار طبيبك لكنت موجوداً الآن. كل تفصيلة أو خطأ غير مقصود له سؤال وكل سؤال حتى الآن لا أجد له إجابة. لكن أقسم أقسم أن تلك التفاصيل لم تظهر حينها كما تظهر الآن.. كأنني كنت عمياء..

أول شيء فعلته حينما عرفنا خبر أنك دخلت في مرحلة غسيل الكلى، أخفَيت من المكتبة كتاب صديقك أسامة الدناصوري “كلبي الهرم كلبي الحبيب”، دعوت الله أن تنساه وطبعا سألت عنه، ورددت أنا بلامبالاة كأني لا أعلم ما في الكتاب: لا أعلم أين هو..

ومع ذلك أفاجأ في روايتك “الروائح المراوغة” تتحدث بكل سلاسة وهدوء أن صديقك أسامة بالغ بشدة في وصف الأمر، “ما الأزمة في أن تجلس أربع ساعات على سرير تقرأ كتاباً بينما ينقى دمك”. ومع ذلك أيقنت في المرات القليلة التي انتظرتك فيها لإنهاء جلستك مدى خبث غسيل الكلي فهو أسوأ من السرطان، مضطر أن تبني عناصر جسدك بدقة متناهية وأنت تعلم أن كل ذلك سيتم محوه غداً، تبني لكي تهدم وتهدم لكي تبني، لا أملاً في التحسن ولا طمعاَ في استقرار الوضع.

أغضب أيضاً لأني لا أجد إجابة على سؤالي: لِمَ؟ لِمَ كل ذلك الألم والبهدلة لعدة سنين، لِمَ لم ينتهى الأمر حتى بمجرد حادث مفاجئ. لم تستحق هذا على الإطلاق، ليس بعد كل سنين الظلم والشقاء تلك. كتبت في مرّة قصة قصيرة جدا عنا أنا وأنت، أنا طفلة صغيرة جداً ذهبت أمي للسوق بينما تصنّعت أنت الموت وظللت أوقظك وبدأت أبكي فانفجرت ضاحكاً وضحكت أنا أيضا.

هل سمعت توسلاتي لك وأنت في الرعاية أن تنهض ويكفي هذا؟ أتمنى ألا تكون سمعت لأنك إذا سمعت ولم تقدر على الرد ولا حتى بحركة فهذا موت آخر.

أحب أن أطمئنك، في درجة حرارة أربعين شمّرت أكمامي ودخلت مكتب المحاماة الخاص، أخذت آخر أنفاسك ورائحتك في رئتي بك بعد أن اتخذت قرار تسليمه لصاحب المنزل وأخذ كل شيء إلى منزلنا. وحقا أتساءل كيف تعايشت مع “سوسو” البرص الذي تربّيه منذ عشر سنين في الحمام، ضربة ذيله على الصينية تصل إلى أذني في غرفة المكتب، وكلما كنت أشعر بخوف أردد نفس الشتيمة بنفس تون الصوت “إخرس يا خو…”  فيصمت! كان مطيعا وتركني أنظف كل أغراضك وأنا أشغّل أحب أغانيك “وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان”، وقد صنعت الدموع مع التراب عجيناً لزجاً على وجهي، لم أترك قشّة تخصّك، أعرف أن قطتك جمل، ولحسن حظي، وجدت آخر فنجان قهوة شربته والبن متحجر في القاع وميّزت طبعاً أعقاب سجائرك السوبر وشعرت بمعجزة أني وجدت لبانة سمارة كنت قد أخذتها مني، وجدتها ممضوغة وموضوعة على المكتب ومحفور بها أثر ضروسك النموذجية. لحقني جيرانك كما كانوا يلحقوك بماء مثلّج وشاي. ولمحت كم فرح كبير حين رددت لهم الواجب في المرة التالية، ليس فرحاً من أجل الرد، بل فرح أنهم اكتشفوا فجأة أن جزءاً منك حيّ فعلا أمامهم.

لا تقلق بشأن الأحفاد، أشغل لهم الفيديوهات الخاصة بك باستمرار كى تظل في أذهانهم، وركّبت في أسناني تقويم حسب اتفاقنا، سالمة ونعمة بخير معظم الوقت، وتعلمت أنا وأمي أنه يمكن أن نحيا معاً متجنبين الشجار نصف الوقت، المكتبة في الحفظ والصون، ولنا معاً خناقة على اختفاء ثلاثة أجزاء من ألف ليلة. بالطبع فعلتها دون علمي.

حاليا ومنذ عدة أشهر أضحك بشدة كلما أتخيّلك ممدداً أمامي على سريرك تشاهد إعادة فيلم “الأب الروحي” الجزء الأول ثم أجيء أنا بكل خجل وخيبة مضطره للحديث في موضوع شائك،  أسأل بسرعة كمن يرمي بنبلة: هي الرواية بتتكتب إزاي؟!!!

بالطبع تنظر لي بقرف وتأخذ نفساً من سيجارتك وتحرك يدك بتعجب: يعني إيه بتتكتب إزاي! بتتكتب زي أي حاجة مابتتكتب، ده اسمه كلام ده !! زيّتي المصدّي “يقصد عقلي”.

وأواصل الضحك وأنا أفسح بين فناجين القهوة مكاناً يكفي لورقة طويلة ملفوفة.

 

 

          عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم