الشخصُ نفسه يطلب عبر الهاتف صديقاً قريباً إلى قلبه يقطن مدينةً ليست بعيدةً مواصلاً حديثه الحماسي عن الكتابةِ، وعن الرجلِ الألماني ذي العكازين وقد نقش على راحته، لشدّة تعلّقه بالآثار، حرفاً مسمارياً يشبه طيراً صغيراً بلا رأس ولا ذيل، إنه المستر فريدريك، هكذا يسمّونه في أوقات الراحة، عندما يخلع صديقُنا المترجمُ نظارته التي تسرح على أنفه كلّما استبدَّ به الانفعال، في تلك الأوقات يغفو السيد فريدريك دقائق متنفساً بصعوبة، وقد ألقى برأسه على مسند كرسي في الجهة المعتمة من القاعة فكتورية الطابع، يتحرّك الطيرُ على راحته، ويتخففُ المترجمُ من انفعاله فتُصبح لثغته واضحةً أكثرَ من ذي قبل. لثغة لا تُعنى بالكتابة، ولا تعبأ بالدرس، والتقنية، ولا تلتفت لمعنى الجسورِ الممتدةِ بين جبالٍ كثيرةٍ، إنها المناهج، نعم أيها السيد، المناهجُ التي تدخلُ القاعةَ مثل عجائزَ وقورين تكتم حركاتهم ذعراً طويلاً، وجوههم العظميّةُ الصبورةُ تُلخّص حياةً مهنيّةً حافلةً بالمفاجآت. عليك، دائماً، أن تفكّر بما سيأتي، بما ينتظرك مع الخطوة القادمة، وتتهيأ لما يترصّدك من مفاجآت. الحوادثُ غيرُ المحسوبة تختبئ دائماً تحت الطاولة ـ ملاحظة التاريخ الأكثر وهماً وضراوة ـ مثل جرذانٍ مفزوعةٍ تترقّب الوقتَ الذي ستكون فيه، بقفزةٍ خفيفةٍ، على الطاولة، ذيولُها تتلاعبُ مثلَ حبالٍ مفتولةٍ، خرزاتُ عيونها البُنيّةُ الدقيقةُ تبرق في الضوء الشاحب. السيد فريدريك يشخر بصوتٍ عالٍ، يا لصعوبة تنفسه، وقد طالت رقدتُه هذه المرّة. الطيرُ، ليس ثمة طيرٌ على راحته، الصديقُ المترجمُ يفتح يديه تحت الضوء كما لو كانتا جناحين، يُحلّق في القاعة الفكتوريّة المطلّة على الشارع. حديثُ الهاتفِ الحماسي ما زال موصولاً.
على مثلِ هيأته يرتسمُ الكائنُ، في لجّة الحياةِ التي تبدو حياته يسيرُ أو ينام.
الحكّاء
كان ما يفعله سونج لنج بو، الحكّاء العظيم، بسيطاً جداً، إنه يحكي حكايته على طريقته كما لو كان يطارد شبحاً في مرآة، ولم يكن من الصعب على حكّاء مثله أن يتحوّل إلى نبعٍ عندما ينام، يسمع أرواح الناس المخبوءة في الأصداف، ويرى ثيراناً تتقافز بين يديه، وأيائل تتخاطف في أحلام الصيادين، إنه يتسلل إلى أحلامهم كي يداعبهم قليلاً قبل الصحو. في حكاياته حيث يجلس على كرسي بلا ظهر، محرّكاً قدميه جرياً على عادة قديمة، ومن ورائه، في الفضاء الفسيح، تواصل رائحة روث هبوبها، تُشرق الشمسُ أيضاً، وتتحرّك عقارب الساعة مثل حركتها كلَّ يوم، لكنها تُشير لوقتٍ آخر يُحيط بالأشياء مثل هواء مغبر ويتسلل إلى أعماقها. الرجل الذي يتهاوى من أعلى مخازن الخشب وقد زلّت قدمه على سقف شديد الانحدار، لن يسقط على كومة أحجار مرميّة على الجانب، سيهوّم طويلاً مثل نسرٍ فتي في حكاية سونج لنج بو، من عامٍ إلى عامٍ تأخذ الحكايةُ النسرَ فيمرّ على أرض جديدة كلَّ عامٍ. الحكّاء سيكون هناك، على كلِّ ارض، يواصل حكاية النسر الذي هوّم من أعلى مخازن الخشب، عند نقطة محدّدة يتوقّف كي يسمع خفق جناحيه ويلتقط صرخته.
في القارب
الرجلُ في القارب منذ سنوات، لم يبرح الماءَ في ليلٍ أونهار. يأخذه القاربُ في رحلة إلى حياته، حيث نزلَ مرّةً على الشاطئ، وسارَ على الرمل، ورأى جنوداً منكسرين. كان شاباً وقتها، سعيداً بالرمل الذي يعلُق بقدميه، حاولَ أن يُحدّث الجنودَ عن سنواتهِ على القارب، لكن أحداً منهم لم يسمع أو يُجيد الكلام، كانوا قد خسروا اللغة، لا ريب، مع زخّات الرصاص. منذ وقتٍ لم ير طيراً ولم يسمع زقزقةً أو نعيباً، إنه يواصل حياته ممدّداً على السطح، ناظراً للسماء. صامتٌ كلُّ شيء من حوله، حتى الماء الذي يدفعُ القاربَ، يدفعه بلا صوت. عند هذه النقطةِ من النهار يسحبُ كتاباً من بطن القارب، يقرأه على مهل، يُطيل الوقوفَ أمام كلّماتهِ التي لم يُبق الماءُ منها غيرَ الظلال، كلُّ ظلٍ غيمةٌ عابرة. من صفحةٍ إلى صفحةٍ يواصلُ القراءةَ حتى يغلبه النوم.
خاص الكتابة