عن الذي فقد أجزاء من عقله

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سماء سالم *

كان فى انتظار هذه اللحظة ، غير أنه سرعان ما تراجع كعادته المتخاذلة عن كل شئ ، وقد قوبل خذلانه للآخر بجمود وتبلد ثم إهمال وتخلي ورحيل .

قالت له بينما يجلس مرتاحاً على كرسي القهوة ذات صباح
"الحياة تحدث هناك خلف ذاك الباب ، فإما أن تظل ها هنا تشاهدها ، أو تمسك بيدي لنخرج وننساب فيها معاً"





لكن العزيز كان أضعف من أن يمسك بيدها ، وإن كان للقلب الاكثر إنسانية أن ينبض بالحب فما كان أرحب من قلبها ليستوعب كل شئ ، وما كان قلبه أرحب من أن يستقبل كل الألم فى صمت .

إن كنا بصدد اختيار الراوى الأفضل فبالتأكيد سيكون هو ذلك الكرسي ، كرسي العزيز لعامين متتاليين صباحاً ومساءاً متجنباً كل شئ فيما عدا ذلك الفراغ الذى ابتلع أجزاء من عقله

كل الفراغ الذي يشغله عزيزي فلان الفلانى وكل الفجوات التى تسكن روحه اتحمّلها أنا لعاميين متتاليين ، انا كرسي السيد الذي يجلس هنا اثنى عشرة ساعة ويفقد كل يوم جزء من عقله ، أنا كرسيه ذو العلامة السوداء التى وضعها على حافتى اليمنى بالأسفل كي لا يخسرنى ، كي لا أفر منه

إن جاء القهوجى ليعيد ترتيبنا نحن كراسي ساحة نزلاء الضجر والخذلان ، جاء صاحبي يبحث عنى حتى يركبنى من جديد كل يوم هكذا دون ملل منه ودون بالطبع معارضة منى .

السيد الذي يجلس هنا اثني عشرة ساعة ويفقد جزء من عقله كل يوم ،بالامس القريب فقد هوايته الأهم وهى لعب الدمينو ، حيث يلاحظ ضعف تركيزه يوم بعد آخر ، فى البدء كانت طقوسه تبدأ بقهوة سادة وموسيقى “تشيكوفسكى” وتحديق فى السقف ، ثم حل الكلمات المتقاطعة فى جرائد “الاهرام” “المصري اليوم” “الجمهورية” “اخبار اليوم ” ، ثم تحديق كثير فى السقف ، ثم أفلام برجمان وفيلليني وتروفو .. ، سجائر وتحديق كثير جدا فى السقف ، قراءة كتب نيتشه وسيوران شعر رامبو وبيسوا ، ثم موسيقى كلاسيك من جديد حيث المساء يشترى حاجات البيت ثم يحين وقت النوم .

القهوة بجوار البيت ، فى العصافرة بحري يسكن الشاب العزيز الذى ينعزل منذ قرابة العامين الآن ، لكن الروتين اليومي لم يصمد أمامه -على ما يبدو- عقله خاصة حينما توقف عن القراءة .

وصاحبي الذى يعتلينى الآن ، قد شاهد ما يقرب من الخمسة آلاف فيلماً ، وانقطعت صلته بأصدقائه فيما عدا اثنين الاول يأتى يجلس بجواره صامتأ ثم يرحل ، والثاني يتصل به مراراً ينهره فى عتاب محبب له على إنعزاله ، يغيب عني يومان ثم لا يلبث ان يعود مجدداً لروتينه الذى يقتل ذهنه

والفتاة التى تنبض بالحياة والالوان ، هالة قوس قزح التى رأيتها منذ شهر تقف بجواره هنا تحاول ان تمسك بيديه وتجره كما طفل فى الخامسة من عمره ليتخلى عن مرافقتى ، ليخرج بعيداً عن حدود بيته والقهوة ، فقط كي تراه ، كي يظهر إلى الوجود والعالم ، وكي يستجيب عقله لإشاراتها ومحادثاتها ، ظلت هنا تأتى كل يوم تتحدث ساعة ساعتين ثلاث ساعات ، فى أحيان أخرى تجلس صامتة أو تجلس تقرأ له ، أو تحاول التصلص على أحد الافلام بينما يشاهدها وحده

لم يكن لديه من القوة ما يكفي لأن يقول لا ، والحق أن العزيز الذى يفقد كل يوم جزءا من عقله ، لم يرفض وجودها بل كان محبباً إلى قلبه ، أنا كرسيه المفضل وأنا أعرفه جيداً ، لم أراه أبداً يبتسم تلك الابتسامة كل هذه الفترة ، وان كانت بالطبع هى ابتسامة ضيئلة للغاية ، وإن شئنا أن يكون الوصف دقيق فهى نصف ابتسامة أو هى تقوس لشفتيه جهة الشمال قليلاً .

غير أن ثقل خيباته منذ أن مات والده وتعرى أمام هشاشته وعدم توازنه الذى لا يسمح حتى بأن يمسك بيدها ببساطة يشاركها لحظة وجودها .

وأن اقتربنا أكثر من ملامح العزيز ستبرز من الصورة عظام ملامحه ، الجاكت الاسود الذى يغطى جسده المنكمش الضعيف وصمام القلب الذى فقده منذ عام ، عينيه برموش طويلة محددة ، عينيه المغمضة من ساعات النوم والوحدة ، فمه وشفاهه المصمتة ، فكل الحكايات تهرب أمام رفضه لخوض أية مغامرة ، حتى ولو كانت أن يشاهد فيلماً صامتاً مع تلك الجميلة التى تجلس محدقةً به ، بينما يحدق هو فى سقف القهوة او فى فيلم او كتاب غيرها .

ولما كان جميع زملائي هنا من الكراسي تغويهم الحكايات والثرثرة المنتشية بدخان الشيشة وحجر المعسل ، كان ضجري يزداد من صاحبي الصامت ، فقد كانت تفشل كل محاولاتى للهرب منه ، وإلى الان أود لو فقط أوجه سؤالي لتلك التي تجلب له طاقة الحب على الكرسي الذي بجاوره والتى وجهت له عباراتها ثم ذهبت وقد أصاب هالتها بالكثير من الحزن وثقل الفراغ والخيبة ، فلان الفلانى الذى يتلكأ لسانه الآن لو أراد أن يتكلم ، كانت جمله قد أصابها الوهن ، فقدت ترابطها كما فقد هو ترابطه بالعالم ، وثمة شئ وحيد يستطيع أن يحدث تغييراً فى ذلك المشهد الذي يكرره السيد الذى فقد أجزاء من عقله ، ثمة ثورة وحيدة عليّ أنا أن أتخذ قراراي للقيام بها .

فى الصباح الذى غادرت فيه الفتاة التي هالتها كمثل قوس قزج ، اتخذت قراري ، فككت كل الترابط وفقدت إدراكي الكلي للأشياء فى سبيل أن أحدث ذلك التغيير ، كل شئ كان يبدو طبيعياً وفى مكانه لكن اللحظة التى حاول فيها أن يركبني من جديد كعادته اليومية ، كانت هى لحظة انهياري ، إذ كان علي أن أنهار تماماً وتتهشم كل أجزائي نظراً لخفة وزنه التى لن تقوى أيضاً على كسري مهما طال به الوقت ، بالطبع الخيار الأصعب لي هو تهشمي حيث أنزوي الآن وحيداً فى ركن قصي من القهوة أشاهد حركات الآخرين بينما أنا فى حالة سكون دائم منتظراً قراراً آخر باصلاحي وربطي من جديد ، غير أن ما آلمني حقاً هو رؤيتي لصاحبي يجلس مرتاحاً بعينين ثابتين ، كانت رؤيتي له تشعرني بخذلان التغيير الوحيد الذى كان بإمكاني حقاً فعله من أجله.

  • قاصة مصرية
  • القصة من المجموعة الفائزة في المسابقة المركزية “الجنتلمان الذي يغني للجميلات”


مقالات من نفس القسم