عاطف محمد عبد المجيد
على الرغم من أنه يمتلك كل الوسائل التي تجعله يُعاملك بكل ”تناكة “ وكِبْر، إلا أنه يتصرف معك ببساطة الريفي الراقي الجميل، الذي حرقت حرارة الشمس جسده وهو يعمل مع والده في الحقل، وتَسَاوى كل ما في الحياة لديه، لا فرق عنده بين تبْر وتراب، يتصرف ببساطة لأنه يمتلك عقلًا وفكرًا يُعْلي من شأن الإنسان، بعيدًا عن أصله ومنصبه وماله.حين تقابله، للمرة الأولى، يُشْعرك بدفء أَخويّ، وكأنه يعرفكَ منذ عشرات السنين، مستخدمًا معك كل المفردات التي تشير إلى أنك تتحدث مع ”حَدّ ابن أصول فعلًا“.
إنه إنسان بسيط للغاية، يئن جسده تحت ثقل أحلامه، كما يقول عن نفسه، وهو دائمًا مشغول بأن يهش تجّار السياسة عن الوطن، وتجار الدين عن الورع، والأدعياء عن الجلوس فوق رؤوس الموهوبين.مشروبه المفضل هو الشاي ويُسميه “ويسكي الغلابة الحلال”، مثلما يُقدس الباذنجان في كل حالاته. ويتمنى أن تحقق الثورة المصرية كل أهدافها من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية والكفاية، ويرى الحياة مجرد رحلة، السعيدُ فيها مَن لا يظلم أحدًا، ويترك عليها علامة.
في قرية الإسماعيلية العزلاء المنسية، كما يسميها، النائمة في أحضان عروس الصعيد محافظة المنيا، ولد وعاش حياةَ الفلاحين البسطاء، الحياة التي منحته، بعد ذلك، إرادة أنْ يتفوق في تعليمه ليدخل بعد ذلك كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم يُكمل دراسته العليا، ليحصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية.تُرى هل كانت أمه التي تعلّم منها السماح، وأبوه ذلك الفلاح البسيط، الذي علّمه الزهد والمثابرة، والمُغرم بسيرة بني هلال، يدريان وقتذاك، أن ابنهما هذا سيصبح ذات يوم نجمًا في سماء الأدب والسياسة والإعلام؟..أم كان يرسم له حياة تشبه حياته هو، كفلاح يحصل على قوت يومه من العمل في الحقول؟ وهل كان مُدرسه للغة العربية في المرحلة الاعدادية، والذي كان يريد أن يعاقبه على موضوع تعبير كتبه هو، وظن المدرس أن عمّار نقله من أحد الكتب، يتصور أن يصبح رصيد تلميذه هذا، بعد عدة سنوات، أكثر من أربعة وثلاثين كتابًا، ما بين رواية ومجموعة قصصية وكتاب فكري سياسي، إلى جانب اثنيْ عشر جائزة وتكريم من جهات شتى؟
نهم القراءة
حكى لي صديقي عنه قائلًا إنه عندما انتقل إلى شقته الجديدة، وكانت كتبه مرصوصة في كراتين، دق صباح أول يوم له فيها، على باب الشقة المجاورة قائلًا لأصحابها: هل لديكم شيء أقرأه؟..إنه عمار علي حسن الروائي والكاتب السياسي الذي يحب القراءة حبه للحياة، ويقول إنه بلا قراءة وكتابة سيموت، إنه يُوْليهما أهمية لا تصل إليها أهمية شيء آخر بالنسبة له، ويرى أنه من دون كتابته ما كان ليكون هذا الذي يراه الناس، وربما ظلَّ فلاحًا أجيرًا أو عاملَ تراحيل يلتقط رزْقه من فوق خرائط الغُربة، أو موظفًا بائسًا يدفن رأسه بين أكداس الملفات المتربة، أو عضوًا تائهًا في جماعة دينية متطرفة.حينما يريد أن يكتب يغوص في نفسه ليصنع بهجته العابرة وسط حزنه المقيم، سواء بالتأمل أو الاستماع للموسيقي أو مشاكسة الحياة.عمار علي حسن يسكن مع مكتبته وتسكن هي معه، ولا يبخل بأي كتاب منها على صديق أو تلميذ إن أراده في مهمة علمية، في الوقت الذي ربما يضن هو في رد كتاب حصل عليه من شخص ما، وهناك بعض الكتب التي يُعيد قراءتها أكثر من مرة، منها أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، الأيام لطه حسين، نهج البلاغة للإمام علي، أرخص ليال ليوسف إدريس، والأعمال الكاملة لعلاء الديب، السيرتان الذاتيتان لغاندي ومانديلا، هكذا تحدث زرادشت لنيتشه، الأبطال لكارليل.لقد قرأ عمار كل أعمال نجيب محفوظ، كل المجموعات القصصية ليوسف إدريس وكذلك رواياته وبعض مسرحياته وكثير من أعمال بهاء طاهر وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان، والأعمال الكاملة للطيب صالح ومحمد المخزنجي، وأغلب كتب الفيلسوف الكبير زكي نجيب محفوظ، وكتب المفكر الجزائري مالك بن نبي، وأغلب كتب الشيخ محمد الغزالي، وكثير من كتب نصر حامد أبو زيد، وأغلب كتب جمال البنا وجلال أمين وعلى الوردي وحامد ربيع وحسن حنفي ورضوان السيد، والأعمال الكاملة لأمل دنقل ومحمود درويش.عمار ينصح بقراءة الكتب التي لا تزيد من المعلومات، بل التي توسُّع المدارك وتمنح قارئها نهجًا في التفكير، وتُثري خياله.
بدايات شعرية
عمار علي حسن الذي بدأ حياته بكتابة الشعر، وأصدر مؤخرًا ديوانه الأول الذي يجمع فيه قصائد البدايات، وجد في لحظة ما أنَّ بداخله كَمًّا لا نهائيًّا من الحكايات, كان لابد من أن يكتب, فإذا به ينطلق في عالم كتابة السرد حتى صار اليوم روائيًّا وكاتبًا كبيرًا، له العديد من الروايات والكتب، أقربها إلى نفسه روايتيْ ” شجرة العابد ” و” جبل الطير ” ومجموعتيْ ” أحلام منسية ” و”حكايات الحب الأول “، وكُتبه ” فرسان العشق الإلهي ” و” التنشئة السياسية للطرق الصوفية ” و” التغيير الآمن ” و” النص والسلطة والمجتمع “.عمار علي حسن يرى أن الرواية جاذبة، ليس فقط لأنها الجنس الأدبي الذي يُقْبل عليه القراء الآن، وبالتالي تتحمس دور النشر له، لكنْ لأن بوسع الرواية أن تضم في ثناياها وحناياها الأنواعَ الأدبية كافة: دفقة القصة القصيرة، مفارقة الشعر وبلاغته وصوره الفاتنة، حوار المسرح وحجيته، علاوة على التفاصيل التي تحتفي بها الرواية، ويرى أنه لا يكذب حين يقول إن الرواية باتت تُغْني عند بعض القراء عن قراءة كتب في علوم إنسانية وعلمية عدة، وذلك في حال الرواية المعرفية أو الفلسفية أو السياسية أو التاريخية، وكذلك أدب الخيال العلمي.ورغم حصوله على جوائز عديدة إلا أنه يقول إن الجوائر لا تصنع كاتبًا من عدم، لكنها تعطي، من دون شك، دفْعةً للكاتب، لأنها تقول له ببساطة: هناك مَن يتابعك ويقدر ما تفعل، لكن تبقى الجائزة الأكبر والأهم والأرسخ وهي رأي الناس فيما يُكتب.عمار علي حسن يرى أنه لا يُضني الكاتب أن يكتب رواية طويلة أو قصيرة، لكن يضنيه أن يكتب عملًا ويشعر أنه ناقص، أو كان يحتاج إلى مزيد من التجويد، ولذا لا يجب عليه أن يكف عن إعْمال قلمه في نصَّه، حتى يشعر برضاء عنه إلى حد ما، لكنه عليه ألا يفقد الطموح في كتابة نص أفضل، وأن يجعل الخط البياني لإبداعه يسير في اتجاه متصاعد، ففي الكتابة لا تنفع القناعة ولا الزهد كما هو الحال في الثروات والجاه والشهوات.
سيدة الحافلة
ورغم مقولة إننا في زمن الرواية، إلا أن عمار ما زال يتعامل مع فن القصة القصيرة بولع وتقدير، معلنًا أنه لن يكف عن كتابة القصة حتى نهاية مشواره الإبداعي، وعن تجربته في كتابة الرواية يقول إنه في كل مرة يبدأ كتابة رواية جديدة يَرِدُ على ذهنه شخصان، أبوه وهو في حقله، وسيدة الحافلة.الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نَهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهي الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقًا إلى البذور لينبت الزرع البهي.ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن العدم إلى الوجود، أو على الأقل من اليباب إلى العمار. أما السيدة فهي تلك التي رآها ذات يوم في حافلة ركبها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير، كان طالب دراسات عليا يعدّ أطروحته للماجستير، وقد جمع مادته العلمية حتى وصل إلى حد التشبع، لكنْ أصابه كسل فتوانَى أسابيع عن البدء في الكتابة، إلى أن رآها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطًّا منسوجًا بإحكام.وقف يتابع دأبها في شغف عميق، وتعلّم منها أن تراكُم القليل يصبح كثيرًا، وتتَابُع الصغير يجعله كبيرًا، وقال لنفسه وهو واقف أمامها مشدوهًا: حرْف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير فصلًا، وفصول تتتابع تخلق كتابًا.ومن يومها كلما بدأ في كتابة رواية تأتيه صورة هذه السيدة، ممتزجة بصورة أبيه مع فأسه أمام الأرض اليباب.
عمار يقول دومًا: لو أن الأدب يكفي ما أتعيش به حتى عند حد الكفاف ما كتبت غيره، لكنه منح كتابتي السياسية والعلمية حيوية وخصوبة، ومنح كتابتي الأدبية أفقًا وعمقًا لا أنكره، لأنه ساهم كثيرًا في فهمي للمجتمع والعالم، ولا يجب أن ننسى ما قاله نجيب محفوظ: ” لا يوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسي في ثوب فني ” أو كلام توني موريسون: ” السياسة كامنة في كل نصوصنا شئنا أم أبينا “، ولا يجب أن ننسى أن يوسا البيروفي الحائز على جائزة نوبل يعرّف نفسه بأنه ” ناشط سياسي وصحفي وأديب “، وقد ترشح للرئاسة في بلاده وخسر، وفاتسلاف هافيل المسرحي التشيكي صار رئيس جمهورية في تشيكيا.لا أحتاج إلى الأدب لأختبئ فيه وأبث آرائي السياسية، إذ أكتبها وأقولها جهارًا نهارًا، ولم أتهيب أو أتحسب يومًا، ومقالاتي أيام مبارك والإخوان شاهدة على ذلك.ظني أن الأدب هو الأبقى، لذا أنحاز إليه بكل كياني، وأعطيه من وقتي الكثير والكثير، دون أن أتخلى عن دوري في الحياة العامة، رغم أنه يُحْدث جلبة تثير غبارًا كثيفًا يُغطي أمام أعين البعض على كتاباتي الأدبية أو هكذا يريدون، ويجلب أحيانًا عليَّ متاعب من كتاب ونقاد يختلفون معي في توجهي السياسي، فيعاقبونني بهذا في حديثهم أو تقييمهم لأعمالي الروائية والقصصية، سواء أفصحوا عن ذلك أو كتموه، وإن كنت لا أعدم كثيرين من العدول الذي يحتفون بأعمالي الإبداعية، فيتحدثون ويكتبون عنها، وهم غاية في الاقتناع والامتنان.الأدب كان خياري الأول، وهو خياري الأخير، وما بين البداية والنهاية هناك أشياء كثيرة أتمنى ألا تذهب سدى، وتروح بلا جدوى.الكتابة عندي هي الحياة، ولو مر وقت طويل دون أن أكتب نصًّا أدبيًّا أشعر بتوتر شديد، ولذا فهي أيضًا الشفاء.
عمار يرى أن هناك تنوعًا في اهتماماته الأدبية، وأن قضية ” الإسلام السياسي ” لم تظهر بكثافة سوى في روايته ” السلفي ” وهناك فقط شخصية من تنظيم ” الجماعة الإسلامية ” في روايته ” جدران المدى “.
نحو التنوير
وعن رأيه في قضية تجديد الخطاب الديني يقول إنه لا يمكن أن نسير، ولو خطوات قليلة، نحو التنوير من دون أن نُقرّ بخمسة أمور أساسية، أولها الإيمان مسألة فردية: وهذا يعني عدم وجود أي وسيط بين العبد وربه، وألا يحق لأحد أن يحكم على إيمان أحد، أو يتحكم فيه، أو يتدخل من أجل تحديده إلا بتذكير ووعظ لا تتبعه وصاية ولا سيطرة ولا إجبار لإنسان على إعلان الإيمان، وهذا التصور فضلًا عن أنه يتطابق مع مضمون ” النص القرآني ” فإنه يتوافق مع العقل الطبيعي، وأي تصرف عكس هذا يُفسد حقيقة الإيمان، ويحوّل الدين إلى مصدر للشقاء، وينشر النفاق، ويفتح بابًا لقلّةٍ أن ترتزق أو تحوز مكانة أو تنحت لنفسها دورًا حياتيًّا عبر استغلال الدين استغلالًا بشعًا.ثانيها أن العقل يكمل مسيرة الوحي: فالأطروحات الدينية التقليدية تتعامل مع العقل إما بوصفه خصمًا للوحي، أو ساعيًا إلى الافتئات والجور عليه، أو تنظر إليه بوصفه قاصرًا عن فهم الوحي، أو ليس عليه سوى أن يتبع ما أوحى به كالأعمى، مرة تحت لافتة ” لا اجتهاد مع نص صريح” خاصة إن كان هذا النص ” قطعي الثبوت وقطعي الدلالة ” ومرة تحت تصور أن الأولين كانوا أكثر فهمًا للدين من الآخرين.وثالثها أن الوعي الأخلاقي، والذي تعاني الرؤى الدينية المطروحة من فقر شديد فيه، رغم أن الانشغال به، والسؤال عنه، قديم في الثقافة العربية الإسلامية، فما جرى من غلبة الفقه على الفلسفة، والشريعة على الأخلاق والضمير الإنساني المستقل، والتدين على الدين، لم تسعف في انبثاق علم أخلاق إسلامي يتصف بالانضباط والاتساق الذاتي، وقابلية التعميم.فغياب الجانب الأخلاقي، المرتبط إلى حد عميق وبعيد بالروحانيات ويقظة الضمير، حوّل العبادات إلى مجموعة من الطقوس الجوفاء، وجعل المعاملات تقوم على النفعية سواء بتحصيل مكاسب دنيوية عاجلة أو السعي إلى الفوز بمكاسب آخروية آجلة عبر جمع الحسنات في عملية حسابية جافة، يظن صاحبها أن بوسعه أن يربح إن تعاملَ مع عدل الله وليس رحمته وفضله، تطبيقًا لفقه وتفاسير تتحدث له في هذا الاتجاه الذي يميل إلى ظاهر النصوص.ورابعها التمييز بين الدين والسلطة السياسية: فالربط بينهما حوَّل الدين إلى أيديولوجيا أو إطار يبشر بالسلطة باعتبارها غاية، أو يبرر لها مسلكها بعد تحصيلها وحيازتها، أو يجند لها الأنصار والأتباع ليقوي شوكتها، ويسعى إلى تثبيت أركانها بتحريم الخروج عليها، أو يرد عنها معارضيها بتكفيرهم وتجهيلهم، من الجاهلية، ونعتهم بالبغي.وخبرة التاريخ تبين لنا أن السعي إلى السلطة السياسية كان الخنجر المسموم الذي طعن كل الأديان، من دون استثناء، ولذا فإن مصلحة الدين تقتضي التمييز بينه وبينها قبل مصلحة الساسة، وكل من يطرح الدين باعتباره مشروعًا للسلطة، أو يتذرع بأن الوصول إلى السلطة ضروري لحراسة الدين ونشره، هو في حقيقة الأمر يتلاعب بالدين، ويوظفه بلا ورع ولا تحسب في سبيل منفعة دنيوية، طالما ارتبطت بالمخاتلة والزيف والخداع والمكر والمراوغة. وخامسها تحديث المجتمع، فقد ظن كثيرون أن ضآلة جهود العقلانيين واضطهاد التنويرين هي التي منعت وجود تنوير وإصلاح ديني حقيقي لدى العرب المحدثين والمعاصرين، لكن هذا يمثل جانبًا من المعضلة وليس كلها، وهو جانب أخف وزنًا وأقل وطأة إنْ قِيسَ بجانب آخر يتمثل في ضرورة تحقيق التحديث بشتى أبعاده.