“عم نتحدث حين نتحدث عن الصداقة” لبلال علاء.. الحكي كطريقة للحياة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دينا شحاتة

أول شعور ينتابك عند قراءة نص “عمَّ نتحدث حين نتحدث عن الصداقة ” لبلال علاء، الصادر أخيراً عن دار وزير بالقاهرة، أنه صعب التصنيف، هل هو كتاب أم رواية؟، ثمة مداخلات كثيرة لكتب وأفكار وشعر وفلسفة، وتشظ كبير في الحكي، مع صعوبة بالغة في تتبع أسماء الشخصيات الذي لا تلبث في منتصف الكتاب ألا تعيرها اهتماما وتكمل القراءة.

نحن إزاء نص تصعب الكتابة عنه وتصنيفه وتفكيك ما جاء فيه من أفكار وفلسفة تحوم حول الصداقة واللغة والوحدة وغيرها، لكن؛ ما أعجبني حقًا، أشياء دقيقة جدًا في تكنيك الكتابة. لا يعني ذلك بالضرورة عدم إعجابي بغيرها، فلقد ظللت الكثير من الفقرات للعودة لقراءتها مجددا.

تنقسم الرواية/ الكتاب إلى مائة مقطع قصير، راوي الحكاية الذي لا نعرف اسمه له عدة أصدقاء، لكن ثمة صديق يدعى سعيد، تتمحور حوله كل الأفكار. حتى لتشعر أن سعيد هو بطلها وليس الراوي، وغالبا ما يبدأ بالقول: “يخبرني سعيد”، أما البطل نفسه فيعاني من وسواس قهري وحاول الانتحار، ليس كمحاولة متعمدة لكن ليكثف الالم الجسدي على ألمه الشخصي، الأمر الذي تطلّب منه أن يمسك بكمي قميصه حتى لا يرى يديه أحد، الأمر الذي اكتشف أن صديقه سعيد كان يفعله قبل أن يفقده.

في إحدى فقرات الكتاب يذكر الراوي قصة “منتصف” للكاتب الألماني ذي الأصل التركي أركان ميريت، وهي عن شاب يبلغه خبر وفاة أمه وأبيه في رسالة على الهاتف، وهو جالس مع أصدقائه يحكي لهم قصة انفصاله عن حبيبته فيروزة.

يحكي الشاب لأصدقائه أنه وهو مازال في حضرة فيروزة في لقائهما الأخير كان عليه ألا يتوقف عن الحكي، ففي اللحظة التي يتوقف فيها عن الحكي مع فيروزة ستصبح غريبة تماما، وفي اللحظة التي يتوقف فيها الشاب عن الحكي لأصدقائه عن حكاياته لفيروزة يصبح موت أبيه وأمه نهائيا.

وعندما سألوا الكاتب على أن الرواية إعادة صياغة لألف ليلة وليلة يقول إن ذلك صحيح وخاطي تماما، صحيح لأنه صحيح، وخاطئ لأن ألف ليلة وليلة هي جزء من الطبيعة البشرية التي تخاف أن تتوقف الحكاية لأن هذا يعني موتا ما.

لذا وبالتبعية، لا يتوقف الراوي عن حكاياته المتشعبة ليشوش على موت أقرب أصدقائه “سعيد”. وكأن كل تلك الرواية، كل ذلك التشظي، كي لا تتوقف الحكاية، حتى لا يصبح موت سعيد نهائيا. وكأنها إعادة لقصص ألف ليلة وليلة بشكل حداثي.

لذا يمكن القول إن ذلك التشظي ـ الذي انزعج منه البعض عبر تقييمات الجودريدز ـ في رأيي الشخصي، تكنيك بديع، يليق بشخصية الراوي ورغبته في الهرب عما يخفيه.

من الاشياء اللافتة أيضا أن الراوي غالبا ينهي حواره مع سعيد بأنه ” يضحك” … ظلّلت تلك الكلمة كثيرا. لا يريد الراوي أن يرى صديقه في آخر المشاهد كلها سوى وجهه المبتسم وكأنه يشفّر أيضا حزنه المختبئ إلا في مشاهد قليلة جدًا.

لم أعدد كلمة يضحك التي جاءت في نهاية معظم الحوارات. لكنها مراوغة لأكثر من سبب، سعيد الضاحك والراوي/ صديقه الذي يحب أن يتذكر ضحكه.. بينما الاثنان يغرقان، فكما يرى سعيد في الرواية “أن اللغة مربكة لأنها تقوم بالإيضاح والتشفير في الوقت نفسه، ولذلك حين تسمع شخصا ما، يجب أن تنصت له لفترة طويلة جدًا، حتى تفهم ما كان يقصده في بداية حديثه”، لذا ربما… كل تلك الرواية على لسان الراوي وصديقه سعيد الذي يأتي دوما في مقدمته حديثه، هي إيضاح وتشفير في الوقت ذاته، أنه رغم الضحك الواضح في نهاية كل حديث بينهما، يشفر فيه وحدته وكآبته ورحيل صديقه المقرب.

 في الفقرة (50) بالضبط، ذكر الراوي أول مرة يري فيها سعيد، حركة ذكية جدًا من راو يعاني من وسواس قهري أن يذكر أول لقاء بصديقه المقرب في منتصف الحكاية تماما. كدلالة أن سعيد هو لُب القصة، قصة الراوي وحيرته وقصة موت صديقه كما في رواية “المنتصف” وكأنه إن توقف عن الحكي عن إحداهما هلك.

 

مقالات من نفس القسم