حسني حسن
(1)
دائماً دائماً، كان يأتينا الخبر عصر يوم “سبت النور”. تلبس أمي السواد، ويُهمل أبي كل أشغاله، ويتحركان، مسرعين، وأنا في ذيلهما، إلى بيت “جدي عبود” الكائن بإحدى الحواري الضيقة الواصلة بين “شارع الحلو” و”كفرة على أغا”، بحسب نطقنا العامي الشائع لها. البيت عتيق، كصاحبه، على ثلاثة طوابق حجرية شاهقة. تظل درجات السلم تصعد بك حتى يُخيل إليك أنها بلا نهاية. وفي الطابق الثالث، ينفتح باب الشقة، مباشرة، على صالة فسيحة، قليلة الأثاث، تكسو أرضيتها بلاطات مزركشة على أشكال نباتات، تلتف حول بعضها البعض، بألوان زاهية خضراء وحمراء، زرقاء وصفراء. نعبر ثلاثتنا الصالة، على عجلٍ، قاصدين الحجرة الكبيرة التي يرقد بها الجد المُحتَضر، لنراه مكوماً، وكما في العام السابق، فوق فراشه، وتحت أغطيته، بحيث لا يكاد يبين منه شئ، ومن حوله يتحلق الجميع، بصمت ذاهل، كما يجدر بالناس في حضرة الموت. أُطيل النظر إلى سرير الجد النحاسي العريض العالي، متابعاً حركات الطبيب، الذي تم استدعاؤه قبل قليل، وهو يضع سماعته الطبية على صدر العجوز، فتبدو الحيرة على وجهه، ثم يأمر بإخلاء الغرفة من كل ذلك الحشد المتحلق حول الجسد المتيبس، صارخاً فينا:
– هواء، دعوه يتنفس.
يأمر خالي، ابن أخ المُحتَضر وزوج ابنته الوحيدة، الحضور بمغادرة الحجرة، ويقودنا خارجاً باتجاه الصالة، لنبقى هناك قرابة الساعة بانتظار طلوع “الدكتور فاروق” علينا بالخبر الأليم، بين لحظة وأخرى، وهو ما لم يحدث بالمرة، حيث أنه، وعوضاً عن تعازي الطبيب للأهل، ألمحه يغادر البيت مرتبكاً، كأنه غير فاهم لما يجري من حوله، متمتماً ببعض كلمات، متعثرة ومبتورة، بالكاد يفهم منها الحاضرون أن الجد بخير، وأنه بحاجة إلى الراحة وبعض حساء الدجاج الساخن. دقائق أخرى، لا غير، ويأتينا صوت العجوز نفسه طالباً شربة ماء، فتهرع زوجته الأخيرة، التي كانت قد جهزت “صرة هدومها” مستعدة للرحيل عن البيت في أية لحظة، لتناوله كأس ماءٍ بارد من الدورق، الزجاجي الشفاف، الموضوع فوق صينية نحاسية، منقوشة الأطراف والأركان، على الطاولة الخشبية الملاصقة للسرير.
أرجع، بصحبة الوالدين، إلى بيتنا “بكفرة اسكاروس”، عاجزاً عن كتمان حيرتي، ملاحظاً ظل ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتي أبي وهو يقول لأمي متهكماً:
– عمك عملها فينا مرة أخرى.
ثم يردف، جاداً جداً هذه المرة:
– أُراهن أنه سيدفننا، جميعنا، قبل أن يموت.
وبشكلٍ ما، كنتُ قادراً على تمييز الطعم المر لكلمات أبي في رهانه، الخاسر على أية حال، وفي رفضه المضمر لذاك التلاعب، ولتلك الأحجية التي تجبهنا بها الحياة، إزاء ميلاد الموت وموت كل مولود.
(2)
بطبيعة الحال، لم يكن الصبي، ابن السادسة على أكثر تقدير، يعرف حينها شيئاً لا عن “سبت النور”، ولا عن ” الجمعة الحزينة” أو “خميس العهد” من قبله، ولا عن “أحد القيامة” من بعده، ولعل أكثر ما كان يدركه عن تلك الأيام لهو فرحه وابتهاجه بقدوم “شم النسيم” يوم الإثنين، وكيف لا، و”شم النسيم” هو يوم البيض الملون والفسيخ والملانة الخضراء والخروج إلى الحدائق؟ وهو ،قبل ذلك كله، سهرة يوم الأحد أمام شاشة التليفزيون، مع اللب والفول السوداني والترمس والحلبة الخضراء المستنبتة، حتى الساعات الأولى من الصباح، لمتابعة حفل “حليم”، ومحاولة كتابة كلمات أغنيته الجديدة أثناء الغناء، والمكافحة المستميتة لظل النعاس الثقيل وهو يفرد جناحيه، رغماً عنه، فوق صفحة السهر والإثارة العائلية الاستثنائية؟.
كان على الصبي أن ينتظر، لسنوات طوال قادمات، كي يلتقط بضع إشارات تتعلق بالمعاني والأفكار المركوزة، عميقاً، تحت تلك التواريخ وشواهد الأيام. كان عليه أن يتعلم الكيفية التي يصنع بها الإنسان أيامه، ويصيغ عبرها البشر فهمهم لمعنى الزمن وتقلباته وأحواله. وكان عليه، وقبل أي شئ آخر، أن يستوعب، وبجلاء فادح الألم، درس عرضية وجودنا على ظهر هذه الأرض، وحقيقة عبورنا السريع من المجهول إلى المجهول، فوق طين لحمنا، أو على صهوة حلم صلصالي لا يعرف كيف يتواضع ويحني الهامة من قبل أن تأتيه، بقسوتها ،الحتمية، العلامة.
لسبب لم أفهمه أبداً، عنَ لأخي الكبير أن يهديني شريطاً أصلياً لأغاني “فيروز”. لم يكن يحبها، لكنه يعرف عشقي لصوتها. ولمَا كان قد أراد مكافأتي على تفوقي الدراسي، فقد غامر وأقتنى لي شيئاً ما أحبه أنا، حتى ولو كان هو لا يطيقه. لكن الأكثر إثارة للدهشة والغرابة كان الشريط الذي وقع اختياره عليه؛ تراتيل “الجمعة الحزينة”، وبمصادفة قدرية أخرى، حدث ذلك خلال أسبوع الآلام المسيحي!
كلما تذكرت تلك المصادفات، أيقنت أن ثمة شيئاً ما يشتغل، في مكان بعيد ما، وعبر آليات خفية بالغة التعقيد والتشابك، على نسج هذه المصادفات القدرية، ربما لتحقيق معنى ما، برهان ما، أو حتى عبث وسخرية ما من كل معنى أو برهان. مع صوت “فيروز”، وترتيلها الموجع، كابدت، شاباً، عذابات غرس حراب المعنى، نصال اليقين، في جنب التفاهة والغثاثة والابتذال والعادية، وآلام الرفع على صليب التوق لكمال النشدان الروحي، أو لعله التوهم، وغواية العلو.
بعد ذلك، كان مقدراً لي أن ألتقيها: “نجوى بشارة”، أن تلتقط من داخلي رجع نداءٍ ما، فترد عليه ببشارة. هي بسمرتها الصعيدية الخفيفة، وبروحها الطلقة التي تريد أن تأخذ من الحياة كل ما تقدر على أن تعطيه هذه الحياة، لاشئ أكثر، لا شئ أقل. حذرتني مراراً:
– لا تأخذ كل شئ على محمل الجد هكذا.
لكني لم أفهم، وواصلت التمرغ في مستنقع الجدية التافهة تلك، متذرعاً بمسؤولية أخلاقية تليق بكرامة الإنسان، محققاً، وببراعة تامة، الإخفاق تلو الإخفاق؛ الإخفاق في تغيير العالم الذي لا يتغير، الإخفاق في ري الظمأ للحب، الإخفاق في توطين إله بذاك القلب العنيد الجاحد، وحتى الإخفاق في إدراك عمق انغراس الإخفاق بحمأة الروح. وهكذا، ولما كنت عاجزاً عن فهم تحذيرات أصحاب البشارات، فقد ألفيت نفسي أغوص، رويداً رويداً، في مستنقع تلك الجدية حتى فطست.
قبل أن ترحل، مرة واحدة ونهائية، أهدتني نسختها من كتاب “العهد الجديد والمزامير”. سألتني:
– هل تعرف معنى مصطلح “العهد الجديد”؟
– أهو العصر الجديد؟
– لا، بالمرَة، ليس مفهوماً زمنياً، بل تعاقدياً. إنه التعهد الذي سيؤسسه الإنسان مع السماء على قاعدتي الإيمان والمحبة، في مقابل التعهد القديم المقام على قاعدتي الإيمان والعدالة. هل يعني ذلك أي شئ خاص، بالنسبة لك؟
الحب بديلاً عن العدل، يا له من تطور مثير!
لهذا كان على “يسوع” قبول التضحية بذاته فوق الصليب، فالحب الكبير يستوجب التضحيات الكبيرة، وأكبرها، على الإطلاق، الغفران حتى لمن آذوك وعذبوك، أمَا عاقبتها فلا أقل من وعد القيامة.
نعم يا نجوى، قد يعني لي ذلك شيئاً ما، أنا المسكون بضلالات الرجاء.
(3)
ليومين متصلين، رحنا نفتش عنها في كل الأماكن. انتشرنا على هيئة فرق صغيرة، من فردين، أخذت تمسح أرجاء “طنطا” وأنحائها. بحثنا في الأسواق والشوارع والخرائب والمزارع الطرفية. جبنا المستشفيات والجوامع والمدارس المنعزلة، وحتى المقابر، وما عثرنا لها على أثر. كانت كحبة رملٍ ضئيلة اختفت بين عشرات، مئات، الألوف من حبات الرمل المثيلة.
الحقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي تختفي فيها الجدة العجوز على هذا النحو الغامض، غير أنها، بالمرات السابقة، ما كانت لتغيب كل تلك المدة، وما كانت لا تترك من ورائها أثراً يقودنا إليها، على هذا النحو أو ذاك. بالطبع، كان من الخطأ تركها تهيم على وجهها هكذا، لكن لابد من الإقرار بفشلنا في السيطرة عليها ومنعها من الرحيل. كانت إصابتها بالزهايمر، في سنينها الأخيرة، قد أحالتها كائناً آخر غير تلك الحمامة الوديعة التي اعتادت على مجالستنا، نحن الجيل الثاني من أحفادها، لتشاركنا الاستماع إلى حواديت ابنتها الكبرى جدتي لأبي. وعوضاً عن تزجية وقتها، كله، على عتبة البيت الكبير للاستمتاع بأشعة الشمس الدافئة، أو على سطوحه لنثر الحبوب للفراخ وللبط ، وللعب معها، والغناء لها، شرعت الجدة العجوز في اختلاس كل ما يقع تحت يدها، من نقود أو طعام أو حلي، أو ما شابه من الأشياء، الثمينة والرخيصة على السواء، ودسها، عميقاً، في جيب جلبابها التحتاني، ثم اغتنام أي سهو عنها، من جانبنا، لتنسل خارجة، حيث تغيب ليلة أو اثنتين، وربما ثلاث، قبل أن نجدها راجعة، من تلقاء ذاتها، بعد أن يعيينا التعب خلال محاولاتنا تقصي أثرها. وفي محاولة، فضائحية نوعاً ما، لمساعدة أنفسنا بتلك المهمة السخيفة المتكررة، قامت أمي بخياطة رقعة من القماش الأبيض، مكتوب عليها الإسم وعنوان البيت، فوق ظهر جلبابها الأسود، وهو التكتيك الذي أظهر فاعلية، وحقق نجاحاً ملحوظاً، بالعديد من المرات، حيث بات من العادي أن نلمحها عائدة للبيت، رفقة أحد الرجال الطيبين من معارف أبي، أو إحدى النسوة العجائز من المتسولات اللائي تجالسهن أمام المقام الأحمدي، أو حتى واحد من صبية المدارس، الذي يصادفها وهي تضع سمكات البلطي “الخنيني” لعصابات قطط الشوارع وتطعمها بيديها، تلك السمكات التي ابتاعتها بالنقود التي اختلستها من البيت قبل هربها، أو من القروش، القليلة، التي ربما جاد بها عليها المحسنون في الطرقات.
لكنها تبخرت، تماماً ونهائياً، هذه المرة!
أمَا أبي، فقد يأس أخيراً من العثور على أي أثرٍ لها، واكتفى، بعد شهورٍ عديدة، من السؤال والبحث والتنقيب في كل محافظات مصر، بالإقرار أنها ربما تكون قد توفيت، أو حتى قُتلت، وتم دفنها بمكانٍ مجهولٍ ما، وأمَا أمه، فقد استمسكت، حتى وفاتها، بالادعاء أن أمها حية، لا تزال، في مكانٍ ما، تغني لفراخها، وتطعم السمكات للقطط الضالة، وشيئاً فشيئاً، شرعت تدخلها في نسيج الحواديت التي تحكيها لنا عند النوم، فنحلم معها برجعة الجدة الطيبة من عوالم الظلال والنسيان.
(4)
في تمرينٍ قبلي، صادم وغرائبي، قدم “يسوع”، للحواريين والتلاميذ وعموم الشعب اليهودي، عربون برهان ألوهيته، بتجلية قدرته على اجتراح معجزة إقامة “إليعازر” من الموت. لكن البرهان الأكثر أهمية، والأبقى ، فيظل تمرين قيامته، هو شخصياً، من بين الأموات في اليوم الثالث.
عن مثل تلك “العجائبيات” وغيرها، يكتب المؤرخ الإنجليزي الشهير “إدوارد جيبون”، ملاحظاً بتهكم غير قابل للإنكار:
“إن قوانين الطبيعة كانت كثيراً ما تُهجر، وتُطرح جانباً، لصالح الكنيسة”.
والسؤال هنا ليس لماذا؟ بل كيف؟
وللإجابة عن سؤالنا هذا، ربما لاح ضرورياً قراءة تلك السطور التي يوردها “كولن ولسون” في كتابه المثير “الإنسان وقواه الخفية”. يقول “ولسون”:
“حينما تُدرس تلك الوثائق المرتبطة بالمراحل الأولى من تاريخ المسيحية، سيكون من الصعب ألا نشعر بنفس إحساس جيبون. لقد كانت المسيحية وباءً أكثر منها ديناً. لقد اعتمدت على الخوف والهيستريا والجهل. وقد انتشرت في العالم الغربي ليس لأنها حق، وإنما لأن البشر سذج يسهل انخداعهم مؤمنون بالخرافات”.
ليست وحدها المسيحية، بطبيعة الحال، وإنما كل اعتقاد يبيع، للجماهير، وهم الخلاص والعود بدراهم الذعر والجهل. غير أنه في المسيحية خاصة، وبسبب من لاهوت “بولس الرسول” بالذات، تبدو الجريمة مكتملة الأركان، كاملة الأوصاف، مرصعة باعتراف الجاني، والاعتراف، كما نعلم جميعاً، سيد الأدلة.
وفي تحفته الروائية الفلسفية “عالم صوفي”، يكتب النرويجي “جوستاين غاردر” عن القضية:
“يمكننا القول إن الكنيسة المسيحية بدأت صباح أحد القيامة، بشائعات القيامة، ذاك ما يلخصه بولس بقوله: إذا لم يكن المسيح قد قام فإن رسالتنا باطلة، وإيماننا باطل. منذها أصبح بإمكان كل الناس أن يأملوا بقيامة الجسد، ذاك أن المسيح صلب لأجلنا”.
هل من مزيد؟
لا حاجة، أبداً، لمزيد.
قد قِيل ما يكفي، ويزيد.
(5)
خسر أبي رهانه الممرور، بشأن تلاعب عم أمي بالموت، وبهم. خسره، لكن ليس على إطلاقه، فقد عاين، مراراً، زلزلة تلك اللحظات، الرجراجة الهشة، في تأرجحها، العابث، ما بين مولد الموت، وموت كل مولود. ليست القضية، بأي حالٍ من الأحوال، قضية سابقٍ وتالٍ، وإنما قضية حتم ومنظور؛ أمَا الحتم فمن يجهله؟! من يمكنه الادعاء أنه ليس على الطريق إليه، خطوة بخطوة، ودقيقة بعد أخرى؟!، وأمَا المنظور فتلك قصة أخرى؛ قصة اعتقاد، أو بالأحرى، رعدة أو طمع أو جهل.
في عربة الترام شبه الخالية، وفي تلك الأمسية الربيعية الباردة، جلست بمواجهتي فتاة شابة لا تكاد تبلغ العشرين من عمرها. اتكأت بمرفقها على إفريز النافذة، وشخصت ببصرها نحو الخارج، وراحت تحلم. أخذت أتأملها بحذر وأنا أنصت، عبر سماعة الأذن، للموسيقى الإسبانية التي تنبعث من “النوت”، وأحلم مثلها. ملابسها عصرية وشبابية ورخيصة الثمن، جسدها قوي مشدود ومتين، عنقها أبيض حليبي موصول بكتفين رائعتين كاملتي الاستدارة، لكن العينين المزججتين المكحولتين تنضحان بحزن غامض فتان. ولثوانٍ معدودات، استبدت بي، أنا الشيخ الستيني، رغبات كنت أحسبها قد قُبرت، وعصفت بي ريح عاتية لا تبقي ولا تذر.
يُحيي رميم العظام؟!
لا، لقد ولَت أزمنة المعجزات، فدع الشباب لشبابهم، وادفن موتاك قبل أن يُميتك موتٌ لا يرحم، ولا يٌقيم.
ألملم بقاياي، وأنهض. أفكر بالنزول للحاق بلجنتي الانتخابية، قبل إغلاقها، لأقول “لا” على تعديلات دستورية يتوهم واضعوها أنهم مُخَلدون. أتوجه، مباشرة، للبيت، مُقرراً الاكتفاء بالمقاطعة.
هل نعود إلى هنا يوماً ما؟
لكن، هل ثمة يوم ما؟