على الضفة الأخرى

ART
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد المنعم رمضان

استيقظت صباح اليوم ولم أجد أمى فى سريرها، مررت بحجرات البيت، دققت على الأبواب، ناديت عليها، وتفحصت الشرفات دون جدوى، لا أثر لها فى أى مكان، فى المطبخ وجدت أبى يُعد الإفطار على غير عادته، يقف شاردا أمام رغيف خبز يحترق، ابتسم وقال لى “صباح الخير”، بدا أنه بذل مجهودا استثنائيا لرسم تلك الابتسامة، قلت “صباح النور”، دُرت بنظرى فى المكان وسألته أين ذهبت أمى، تجهم ونظر إلىّ طويلا ثم أشاح بوجهه ولم يجب، طلب منى أن أسبقه وأنتظره على سفرة الطعام.
أمى لا تخرج فى هذا الوقت من اليوم إلا لأمر جلل، زيارة طبيب أو مريض، ودائما ما تخبرنى قبيل خروجها كى لا يربكنى غيابها، اتصلت برقمها ولكنى تلقيت رسالة تفيد بأنها غير متاحة الآن، ما الذى دفعها لهذا الاختفاء المفاجئ؟ جلست إلى مائدة الطعام، أرشف من مشروبى ببطء بينما أنظر إلى والدى الذى جلس فى مواجهتى وظل ملتزما الصمت، انتظرت حتى انتهى من إفطاره وأعدت سؤالى مرة أخرى؛ أين ذهبت أمى، بدا مرتبكا، نظر إلىّ متشككا، بلع ريقه ثم ضمنى إلى صدره وقال ” ألا تذكر ما حدث من شهرين؟” ما الذى حدث؟ لا أعلم عن ماذا يتكلم، حركت كتفى بإيماءة تشير إلى عدم فهمى، تمتم بشئ ما لم ألتقطه.
أذكر جيدا أنى كنت معها بالأمس، دخلتُ إلى حجرة نومها مساء وكانت مستلقية على سريرها تشاهد أحد المسلسلات العربية ثم تحولت بعده إلى البرامج السياسية، تابعتْ كليهما بانتباه، بينما جلستُ إلى طرف السرير بجوار قدمها وسخرتُ من الممثلة المفتعلة والمذيع الكاذب وأدائه المتشنج ثم اقتربت منها، أمسكتها من أنفها مداعبا وخطفت الريموت من جوارها، أدرت القناة إلى أخرى تذيع فيلما عربيا قديما، بادلتنى السخرية وتهكمت على اختياراتى العتيقة ثم قالت لى أن الوقت تأخر، “اطفى التليفزيون، أنا هانام، تصبح على خير.”
قبلها كنا نجتمع حول مائدة الطعام، جلست إلى يمينى ومدت يدها إلى طبقى لتضع المزيد من ملاعق السلطة، أنهت طعامها قبلنا وقامت لتصنع أكواب الشاى، كانت الساعة تشير إلى الخامسة، أدرتُ مؤشر الراديو إلى إذاعة الأغانى لتلحق بفقرة مطربها المفضل فريد الأطرش، رددتْ معه “دايما معاك دايما، واتبع خطاك دايما”، فاتحتنى فى أمر الزواج مرة أخرى وألحت أكثر من المعتاد، ظلت تكرر طلبها وهى تشرب الشاى باللبن وتضع الجريدة أمامها ممسكة بقلم رصاص وممحاة لتحل الكلمات المتقاطعة.
عندما أدرك أبى عدم تصديقى للأمر فتح الدولاب وأتى بورقة صفراء تحمل اسمها، أعطانى إياها وانزوى بعيدا إلا أن صوت نهنهاته وصلنى، وفى أثناء التفاتى إليه لمحت حقيبة أمى بجوار سريرها، مكتظة بأغراضها كما عهدتها، وأمى لا تتحرك دون حقيبتها قط، لابد أنها موجودة فى مكان ما، ثمة خطأ لا أستطيع تبينه، فبيننا اتفاق أن نذهب لتناول الغداء بأحد المراكب الراسية على شاطئ النيل خلال أيام، وأمى لا تخلف مواعيدها.
اتصلت بخالى وخالتى، لم أجرؤ على مواجهتهما بالسؤال الذى يدور فى ذهنى، خفت من اتهامى بالجنون، كما أن لسانى لم يطعنى، راوغتهما فى الأسئلة وعملت على استدراجهما حتى سمعت كلمات المواساة والدعاء بالرحمة، كل منهما قالها على حدة، طرقتْ كلماتهما أذنى بعنف وتوقف سمعى بعدها. لابد أن خللا ما قد أصاب عقلى، لوثة، أو فقدانا جزئيا للذاكرة، أو ربما أنه مجرد كابوس، نعم لابد أنه كابوس ثقيل ومزعج وسينتهى آجلا أو عاجلا، صفعت وجهى بقوة ولعدد من المرات، لكمته كى أفيق ولكن دون فائدة، فقط احمرت وجنتاى، كل شئ يبدو حقيقيا إلا أنه غير قابل للتصديق.
هل أذّن المغرب؟ ستقوم الآن من سريرها وترتدى ملابس الصلاة، ستضع غطاء الرأس وتغلق باب الحجرة لتمنع ضجيجنا من تشتيتها، ستمسك بورقة الأدعية وتردد أدعيتها لنا ولوالديها، سترفع يدها وتتمتم بصوت خافت، هل أذّن المغرب؟ هل حل المساء؟
فى المساء غافلتُ أبى الذى جلس فى الصالون مع صديقه القديم دوستويفسكى مستغرقا فى حوار ممتد، واتجهت إلى غرفة نومها، خططت للتسلل إلى حجرتها والجلوس على سريرها منتظرا إياها أن تعود، أو ربما سأفتح دولاب ملابسها لأشم رائحتها تفيض منه وتغمرتى فتضمنى إليها، ولكن قوة ما أوقفتنى عند باب الحجرة، بدت الغرفة حالكة السواد، لا أرى شيئا داخلها ولكن شعورا غامضا تسرب إلىّ أنها بداخلها، تقضى فترة القيلولة، بل كنت متأكدا من وجودها، أشم عبيرها، أشعر بنفسها يلمس جلدى، فناديتها بصوت خافت، متحشرج ومتخوف؛ “ماما”، ردت علىّ سريعا وكأنها تنتظرنى، ردت بنعومة وحنان اعتدتهما “أيوه يا حبيبي”، اقشعر بدنى ورن صوتها داخل جسدى، تقدمتُ خطوة إلى الأمام ولكنى لم أقو على دخول الغرفة، استندت إلى بابها وسألتها ماذا تفعل بالداخل، أجابتنى بعفوية “باتكلم مع جدك”، تعثرت الكلمات فى حلقى ولم أنطق، لكنها ردت على سؤالى الذى لم أسأله “ماهو معايا هنا يا حبيبي”. ارتعدتُ للوهلة الأولى، سرت فى جسدى رعشة مباغتة، تراجعت الخطوة التى تقدمتها وعدت إلى أبى الذى ترك دوستويفسكى وحيدا وانهمك فى البحث عن شئ بين أغراض أمى، كدت أقول له أنها بالداخل، فى حجرتها، يمكنه أن يسألها عما يريد وستخبره عن مكان أى شئ كما اعتادت أن تفعل، فهى تعرف أماكن كل الأشياء، ولكنى تركته منغمسا بين حاجياتها وتوجهت إلى حجرتى، ارتميت على كرسى ونظرت إلى صورتها الموجودة على مكتبى، تأملت ملامحها التى لم تتبدل عبر السنين، داخلتنى راحة كانت قد فارقتنى منذ الصباح، انسابت من عينى دمعة وخالطتها ابتسامة خافتة، أطفأت الأنوار واستلقيت على سريرى، رنت جملها الأخيرة فى أذنى، وبت أفكر فيما ستقوله لى غدا عندما ألقاها من جديد.
………………
*عن أخبار الأدب

مقالات من نفس القسم