الشاب معذور في استفساراته لأنهن كن ثلاث ظبيات , أي نساء في ذلك الزمان الثمانيني من القرن العشرين , الأولى مستعربة أسبانية , والثانية رائدة تعاطي النرجيلة (الشيشة) في المقاه الشعبية انطلاقا من إخلاصها لحركات تحرير المرأة , أما الثالثة أصغرهن فهي الظبية الريفية لكونها كانت وافدة للقاهرة حديثاً وقتذاك , وهي التي قصدها الكهل لأنه طالعها في حلمه على ما يبدو.
أما الأوركسترا البستاني فالكهل “العائش في سيناريوهات” قصد به ذلكم المقهى الشعبي الذي تحول إلى موضة “الكافيهات” بعد احتجابه عن الجلوس إليه من عقد تقريباً , والكائن خلف الإرستقراطي الشهير مقهى ريش , الذي كبقية اخوانه فيما يُعرف بمقاهي الأدباء والمثقفين بوسط القاهرة صادح دوما بصنوف من معزوفات الكلام .. والكلام .. والكلام لا غير , وربما دعاه الكهل بالأوركسترا على سبيل التفكه , لأنه كان واحدا من العازفين المهرة في ذلك الأوركسترا , أي واحدا من كبار صغار صعاليك الثقافة والأدب والفن في نهايات سبعينات القرن الماضي , وربما دعاه كذلك أيضاً لشعوره بالخيبة , لكون غالبية عازفيه أصبحوا الآن من المحظوظين , أي من أعمدة المحافل الثقافية الفنية والأدبية الرسمية وغير الرسمية بالتبعية , أما هو فمن غير المحظوظين بالطبع.
– حضرتي معدوم الحظ من يومه مع كبير المأدبة السكندرية الأنفوشية , نجلس سوياً في الأوركسترا..
• هذا تخريف !.
– علام احتجاجك , أليست الثقافة غذاء للعقل , إذن تعبير المأدبة جائز بالنسبة لقصر ثقافة الأنفوشي , والنقلة من السبعينات إلى الثمانينات حيث بدايات ترددي على الأوركسترا القاهري منطقية مع غرائبية وفجائية النقلات في الأحلام.
• ثم هاأنت أخيرا بمفردك والظبية الريفية تمشط شعرها في كامل عريها كما ولدتها أمها , نزولا على فجائية منطق الأحلام !, أنه شيء رائع أن يجد المرء تعويضا عن واقعة المحبط في أحلامه!.
ها هو الكهل يؤنب الشاب على نبرته الساخرة مندهشاً في ذات الوقت من أن ما ذكره ورد بالفعل لكن في نهاية الحلم , وهنا يتعين علي بوصفي (..) , كما خمنتم – الراو – أن أشير في نبذة إلى ظاهرة الظبيات اللائي كن قلة يتدروش في فلكهن جمهرة من المعجبين , زمن السبعينات والثمانينات , قد اندثرت منذ التسعينات الفائتة مع زوال الشعبية عن جملة من مقاهي منطقة وسط القاهرة وتحولها إلى (كافيهات) , ومن وقتها شاع تردد وجلوس الفتيات والستات على الأخيرة , كما تشاهدونهن الآن أزواجا وزرافات بصحبة شباب ورجال بجميع الطاولات في كل الأوركسترات , أعنى (الكافيهات) , ومن ثم فالظبية الريفية على سبيل المثال – لا الحصر – تدروش في فلكها حشد من المعجبين , تشكيلي خمسيني وشاعر عشريني , وبين العمرين كثر منهم مستبسل الأناقة حتى لو كانت جيوبه خاوية من ثمن تذكرة الباص , وخارق المحاورة والمداورة بنرد الطاولة القاص وهاوي التصوير الفوتوغرافي لاحقا , ومتصعلك ثقافي راهن على حزمة أدوار جمة من بينها باحث سياسي وناقد سينمائي , إلا أن امتيازه الحقيقي أنه محدث وسامر موهوب , سيريالي المزاح في كثرة من الأحايين ومن آي ذلك تعليقه ذات مرة على معرض للتشكيلي الخمسيني المذكور حوى تشكيلات جمالية لزهور بأنها اسقاطات وتنويعات تجريدية على عضو حساس للظبية الريفية , ومنهم كذلك روائي مبتدئ وقتذاك.
معذرة الشاب والكهل يشيران إلى بأن الروائي كان من دراويش الظبية الكبرى رائدة تعاطي (الشيشة) في المقاه زمان.
عموماً هذا الروائي الآن ملء السمع والأبصار بوصول إحدى رواياته للتصفيات النهائية بواحدة من الجوائز الأدبية المستحدثة مؤخرا على صعيد الساحة الثقافية.
وأخيراً من دراويش الريفية كذلك “متألق الرزانة” الذي شرع الشاب والكهل في التجادل حوله الآن.
• بلى , أنا أموه , هل تبغي انضمامي لغير المحظوظين مثلك!.
– أعلم , لأنه غدا من سنوات من خاصة الخاصة لدى أحد كبراء المآدب.
• الخلاصة أنه ليس أكاديميا , لكنه بالتأكيد واحدا من الشعراء أو القصاصين الموهوبين.
عفوا نسيت إخباركم أن “متألق الرزانة” موجود وغير موجود في الأوركسترا البستاني , ذلكم أنه معظم الأوقات يظل صامتا رزينا متعاليا , منطويا على انتشاء قد يجود خلاله في بعض الأحايين بممازحة أحدهم , كأن يصيح في الكهل “العائش في سيناريوهات” على سبيل المثال يا “فيلليني” , وهو مخرج ايطالي راحل كان شهيرا في أوساطنا الثقافية العربية زمن السبعينات والثمانينات , فيجاوبه الكهل بأحسن منها صائحا يا “ماركيز” أو يا “بابلو” قاصدا بابلو نيرودا الشاعر لابيكاسو الرسام , وهلم جرا , أي بالجملة هو موجود وغير موجود في الأوركسترا , لأنه عادة يأتي إليه بعد مرور خاطف على ما يعرف في أوساطنا بـ “المخزن” أي بار “ستيلا” الكائن على مبعدة خطوات من الأوركسترا.
– كان هذا سنوات الصعلكة .
• ومن أعلمك !, ألم تنقطع عن الأوركسترا من زمن ؟.
– المهم أن “متألق الرزانة” في نهاية الحلم تسلل إلى مكمن يستشرف منه مخدع الظبية الريفية , وكانت عندئذ تشرب قهوتها الصباحية وهي تمشط شعرها في كامل دسم عريها الفتان , فبادرته بوعيد وتهديد , ماذا تريد يا (فلان)!.
• فجاوبها بمتألق رزانة يليق بأكاديمي عتيد وهو يسحب كتابا سميك: لا شيء ديوان المتنبي فقط ثم شرع في الإنسحاب حاملا الكتاب في استكانة منكس الرأس والرزانة , أنت تغش أيها الكهل , هذا ليس بحلم , بل عين ما حكاه أحدهم عن الظبية الريفية وواحد من الدراويش زمان.
– لكن “متألق الرزانة” نباتيا كما تعلم !.
وانخرطا من جديد في نقاشات ومجادلات عن : هل كانت الظبية الريفية مشروع مبدعة لم يقدر له النجاح والإستمرار ؟ , أم أن إبداعها الحقيقي الذي تفوقت فيه بنجاح منقطع النظير هو إشعاعها الأنثوي وحضورها الإنساني ؟ اللذين إلهما الكثيرين ليس في الأوركسترا البستاني فقط بل في جملة أوركسترات الأدباء والمثقفين بوسط القاهرة , الشيء الكثير من القصص والروايات والأشعار , وهل كان “متألق الرزانة” نباتياً بالفعل؟.
ولعل من واجبي هنا احاطتكم علما بأن الشخص النباتي كان يعني في عرف الأوركسترا البستاني , العضو الذي يجمع الكل على أنه لم يضبط ولا لمرة واحدة متلبسا بمغازلة أي من الحريم العابرات في الطريق قبالة المقهى , علاوة على تكتمه الشديد على غرامياته , لكن الحق أقول لكم لقد أضجرني جدالهما حتى أنني سرحت بفكري إلى حوار آخر يوجز ببراعة واحدة من السمات التي كان عليها شباب الكهل , أي نفر غير قليل من شباب الجيل السبعيني , وكان الحوار كذلك بين كهل وشاب , لكن الكهل هنا أستاذ في علوم التراث والشاب صحافيا تحت التمرين , ها أنا أختتم به هذه السطور على مسئولية الذائقة الخاصة لحضرة جنابنا الراو.
” – ثمة أسئلة تلح علي بخصوص جيلكم , فهل أنت على استعداد للإجابة بصراحة !؟
• طبعا.
– ما موقفكم من الحب ؟ … ألا زال للحب عندكم قيمة أم أصبح الجنس كل شيء؟
• الجنس مسيطر …
……….
………
– ربما لم تخل حياتك من سرور ؟
• لقمة سائغة , فيلم جيد , علاقة جنسية بريئة.
– بريئة ؟ !
• أي ليست استدراجا لزواج ” .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـسطور هذا المقطع الحواري الختامي المكتوبة بخط مائل مأخوذة من رائعة نجيب محفوظ “المرايا” , شخصية صبري جاد , طبعة مكتبة مصر , سعيد جودة السحار وشركاه , الطبعة غير مثبت بها تاريخ الصدور.