علاء خالد.. هل من مزيد

علاء خالد.. هل من مزيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بلال فضل

في مصر الآن رواية ساحرة جميلة، ممتعة ومُعَذِّبة، مثيرة للأسى والضحك، رواية كبيرة بكل المقاييس، كتبها شاعر سكندريّ إسمه علاء خالد، ظل لسنين قادرا على إدهاشنا بقصائده البديعة ونثره المختلف ومشروعه الثقافي الإبداعي الذي ولد عملاقا وزادته الأيام تعملقا وإبداعا،  أعني مجلة أمكنة التي لن أقول أنها حفرت لنفسها مكانا في ذاكرة الثقافة المصرية فهو تعبير مقبض لا أدري لماذا أدمن الناس إستخدامه، ولكن أقول باتت ظلا ظليلا في بستان الثقافة المصرية الذي تعيش هذه البلاد على حسه.

منذ اللحظة الأولى ستسأل نفسك عن سر هذا الإسم الطويل الذي اختاره علاء خالد لروايته الأخاذة “ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر”، إثم الإستعجال قد يدفعك للظن بأن وراء الحكاية نزوة شاعر ليس إلا، لكنك ستكتشف مع السطر الأخير من الرواية أن كل شيئ مدروس، خصوصا إذا كان الشاعر في الأساس متخرجا من كلية العلوم، وأن أي إسم آخر أيا كانت عظمته وروعته لم يكن ليليق بجمال هذه الرواية. أنا آسف لأنني أبدو الآن أقرب إلى “نوبتشية” الأفراح المبالغين في الحماس بشكل يدعو للشك في نواياهم، لكن عزائي أن الفرح فرحي، وأن هذه الرواية التي لم ألتق بكاتبها إلا ساعة من نهار، تخصني كما تخص كل سكندري أو محب لإسكندرية الثمانينات التي عاش علاء فيها عز فتوته وذل شبابه، وعشت فيها هناء صباي وشقوة مراهقتي، لا أريد أن أختزل الرواية في كونها “سكندرية”، لكن إرتباكي النابع من محبتي لها ورّطني في ذلك، لا أريد أن أتورط أكثر فأقول أن الرواية بكائية خالدة على مصر التي تشوهت ملامحها بفعل الفساد والتطرف، فالواقع أن الرواية كشأن كل الأعمال العظيمة تصلح لأن تكون مرثية وملهاة في ذات الوقت، وفوق كل ذلك جدارية فاتنة  الجمال أينما حللت بركن منها حصلت لك البركة، أو لنقل “مطرح مايسري يمري” بلغة الأكيلة الذين تفنن أحد فصول الرواية في التعبير عن غوايتهم كما لم يفعل من قبل سوى فيلم (خرج ولم يعد) للعملاق محمد خان.

بفضل هذه الرواية أصبحت أحمل لعلاء خالد دينا لن أسدده أبدا، فقد وفّر علي الكثير من العناء الذي كنت حالفا أن أتجشمه يوما ما أكتب فيه عن وجه إسكندرية “المستريّحة” كما كان يتبدّى في (بولكلي) التي كان يسكنها بعض أقاربي الذين كنا نحن أهل إسكندرية الشقيانة ننظر إليهم على أساس إنهم “عَدّوا خلاص”، ثم وَحّد الرئيس محمد حسني مبارك وحكوماته ومحافظوه ومحلياته وجماعات أيامه المتطرفة بين الإسكندرانية، فصاروا جميعا “على رجاء القيامة” أو “على ما تفرج”. لازلت على حلفاني أن أكتب تلك الرواية، سأكتبها وأنا أعلم أنها لن تكون أبدا بجمال ما كتبه علاء، لكنني فقط سأشعر بالرضا (بالقليل منه على الأقل) لو جاء أجلي قبل أوان إنتهائي منها، لأن هناك رواية ساحرة سبق وأن خلّدت تلك “الأمكنة” التي عشت فيها بعضا من أجمل أيام عمري، ثم سُرقت مني ومن كل محبيها، ليس في غفلة من الزمن للأسف، بل على عينك يا تاجر. 

أعترف أن إنحيازي لرواية علاء خالد دفعني للتفكير في إرتكاب جريمة إقتطاع أجزاء مشوقة وممتعة منها لكي أثير شهيتك لقراءتها، فمن أمراضي التي لا أحب أن أُشفى منها، أنني إذا أحببت رواية أو أغنية أو كتابا أو فيلما تتلبسني روح عضو مخلص في جماعة التبليغ والدعوة كان يعمل في حياة سابقة مسئولا ثقافيا روسيا خلال الحقبة الستالينية، وبفعل هذا الخليط من الإخلاص والغتاتة الشمولية لا أترك أحدا أحبه إلا وسعيت لأن أشركه معي طوعا أو قسرا في محبة ذلك العمل الأدبي أو الفني، آه، بما أنني لا أستطيع أن أدعي محبتك الآن وأنا لا أعرفك أساسا، فها أنا ذا أكتشف أنني مصاب بهذا المرض في المطلق، أبتلي به من أحب ومن لا يحبني.

سأمسك نفسي بالعافية عن ممارسة طقوس الفكهانية بإختيار عينات من وش قفص الرواية للتأكيد على سلامة ذائقتي الأدبية، سأكتفي بمقطع وحيد سيصحبني طويلا في حياتي، ربما لأنه سيجعلني أشعر بالعزاء إذا فشلت في كتابته بطريقتي، فقد كتبه علاء خالد كأجمل مايكون مختتما به روايته “حب سهى لي كان طريق النجاة الذي جعلني أنظر للمستقبل ولعلاقتي مع نفسي، ومع الله، ومع الناس، وحتى مع الموت، بنظرة هادئة ملؤها الشفقة والقبول، إذا كانت الغاية من حياتنا أن نحب الآخرين ونفهمهم، فالله أيضا يحتاج منا أن نحبه ونفهمه… الحب كان الخط الفاصل بين حياة وحياة، لذا لم أعد أطلب الكثير من نفسي أو من حياتي، وقانع بما منحته لي الحياة، وبالحب الذي خصني به الله”. 

علاء خالد، هل من مزيد.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم