علاء خالد برأيي من الكتاب القلائل الذين لا “يؤلفون“، أي الذين يكتبون عن عالمهم حتى وهم يكتبون عن آخرين. بعد قراءة أكثر من عمل لعلاء كنت أتنبه إلى تقنية تتكرر كثيرا. فللوهلة الأولى يهيأ إليك أن عين علاء خالد موجهة إلى الخارج، لكن واقع الأمر، بالنسبة لي طبعا، أنها تبحث في هذا الخارج عن ما يشبهها، يبحث عن برهان جديد لإيمان خاص. باختصار: ما يكتبه علاء هو تأكيد ودفاع متصل ودؤوب عن اختيارات فعلية، عن أثمان دفعت ومعارك خيضت وأخرى أرجئت.
في منتصف التسعينات كتبت عن علاء خالد كواحد من أهم أبناء الجيل. كان يمكن لقصيدة علاء أو نصه أن يعتبرا متمردا بمقياس اللحظة، لكن التمرد قيمة لا تختزله. تحت غطاء الكلمات المتمردة كانت رغبة ما في التصالح، مع الأب ربما، مع القيم البرجوازية، أو بالأدق قيم الطبقة المتوسطة في عائلة مصرية. ولذلك لم يكن كتاب علاء السردي “ألم خفيف..” مفاجأ تماما، لقد كان يصافح اليد الممدودة في نص سردي آخر يبدو أكثر قلقا وتوترا هو “خطوط الضعف”. كانت هناك رغبة في التصالح، في الاعتراف بأن “هذه هي حدودنا”. الكتاب الثاني (وهو الأول زمنيا) كانت رحلة إلى سيوة، نوعا من اختبار كل الأفكار الصراعية، لكن وسط أكثر وضوحا من المدينة، بحث عن نموذج تخطيطي للحياة، عن استعارة لفهم واقع أكثر تعقيدا. هناك مشاهد في هذا الكتاب لا أنساها أبدا.. منها نظرة الراوي إلى جواز سفر فتاة أجنبية، شعوره باتساع العالم الذي لدى مجتمعات منتحت مواطنيها قدرة الخروج والتجربة، الأختام على جواز السفر كانت تمثل مقارنة شاملة بين تاريخين وجغرافيتين. يلخص الكتاب برأيي فكرة هامة : المجتمعات المغلقة هي مجتمعات مأساوية، وكمثل سيوة لا تزيدها الصحراء المحيطة الا هشاشة، والكتمان يجعلها معرضة أكثر لخراب داخلي.
أعطاني علاء خالد مسودة هذا الكتاب في قطار كان متوجها بنا إلى القاهرة. كانت رحلة فارقة بالنسبة لي، حيث كانت علاقتي بزوجتي الراحلة أروى صالح تقف عند خط النهاية. كنت مرتبكا وضائعا، لكن هناك نوعا من الضياع ليس سلبيا على الاطلاق، فمن خلاله يمكنك اعادة اكتشاف من أنت. حدث هذا و”خطوط الضعف” في يدي.
ظلت علاقتي بعلاء لسنوات تسير بوتيرة هادئة وبلقاءات ليست كثيرة، لكنها غنية جدا، لدرجة أنني كنت أشعر بعدها بنوع من الارهاق لأنني أريد أن أفند حصيلتها على مهل. نلتقي في عيدة مرة أو والي مرة أو الفردوس مع بيرة ومزة من الترمس، وهناك الوطنية أيضا. كان علاء يتحرك أثناء حواره كثيرا متسائلا وممتحنا لفكرتك إلى حدودها القصوى.
الآن، الآن فقط أقول: لا ، لم تكن فكرة التصالح هي ما يحرك علاء، بل الحذر من الخديعة. للوهلة الأولى كان ذلك يبدو مجهدا لمحاوره، وتسأل “هل يشكك في؟” لكنك تفهم حتى إن كان هذا صحيحا المعنى المتضمن فيه، أعني فيما تظنه تشكيكا. فعلاء لا يعتبر الكلمات “كلمات” وراء كل كلمة باب حياة، وحين يغادر عابرا شارع الكورنيش محاذيا السور الحجري وعائدا إلى بيته سيرا على الأقدام، تعرف أنه يغني بطريقته، أعني يبحث عن لحظة انسجام معك ربما لن يظهرها لك أبدا. سيحاول دائما أن يبدو محايدا وعمليا حتى وهو يعبر عن تضامن ما. لن أنسى أنه عرض علي يوما ما أن يساهم في إصدار ديواني الأول (وكان قد تأخر صدوره عن هيئة الكتاب.. حيث صدر فعلا فيما بعد). كان يفعل ذلك وكأنه يقوم بالواجب الطبيعي الذي لا يلزمك بعاطفة زائدة. ولكن لا أعرف لماذا كان ينتابني شعور أن علاء هو كذلك وأكثر، وأنه ربما يمنع نفسه بصعوبة من التضحية لأنه لا يريد أن يبتذلها.. لا يريد هذا الحنان المفرط والمورط.. تعرف ماذا يعني أن يقدم لك أحد يده وهو يتحاشى النظر إليك؟
رومانسي بطريقة مضادة للرومانسية، لأنها رومانسية مشغولة بالذات بنفي نفسها، أو تحييد ذاتها.
أتفهم الآن، الآن فقط، أن قصيدة علاء خالد رغم أنها تبدو مثل كثير من قصائد “التفاصيل” إلا إنها عند علاء تكتسب معنى آخر هو عدم التورط، العالم في الخارج، العالم هو ما نراه، وعلينا ألا نتدخل أبعد من ذلك، أقصد: يمكنك أن ترى، لكن ليس أن تتدخل. كل شخص هو بطل بكيفية ما، لكنه يحمل بذرة ضعفه، وحدود مأساته. ما يعني أن كلا منا عالم غير قابل للتعديل بشكل كبير. في “ألم خفيف..” مثله مثل فصائد علاء خالد يتخلص الأشخاص في استعارات أو ما يشبه الاستعارات، في موقف ملخص، مثلا : الأب الذي يخفي صورة مذيعة تلفزيونية في دولابه ولا تكتشف إلا بعد وفاته. سوف تجد دائما ملمحا ما وجها مجدورا ، خطوة مائلة، ضحكة ، إشارة، هي ليست بوابة عالم بل هي ملخصه، أو مقابله الفلسفي، أو خطابه إذا صح التعبير.
وهنا يمكن أن ترى علاء ضمن سياق أيضا، تماما مثلما نحن حتى وإن كنا غير قادرين على رؤية أنفسنا. نحن الجيل الذي عاصر انتصارا مساخا، ولم يصل إلى حدود مراهتقته إلا ليجد مجتمعا شرسا يخون قيمه المتآكلة بالذات لكنه يدافع عنها بالهمة نفسها التي يخونها بها. لا سياق عام لمجتمع، لا قانون ولا مؤسسات، الفرد هنا يعيد خلق نفسه، ويتحمل مسؤولية ذاته، رغم أن هذا ليس صحيحا تماما. وهنا بالذات تكمن المأساة.
مرة قال علاء بشكل عارض وكنا ربما في أواسط التسعينات: إن الأدب القادم سيكون أدب رسائل. وأعجبتني الفكرة جدا. للأسف كانت عبارة مثل هذه تؤخذ بحرفيتها، فتجد من يسرع ليجمع رسائل حقيقية، وربما تطورت المسألة إلى حدود كشف فضائح. لا أعتقد أن هذا كان مضمون “أدب الرسائل” بل كان برأيي هبوطا باللغة الشعرية من لغة تخاطب ذاتا كلية، لغة بلا محاور حقيقي، إلى لغة أرضية، لغة تفترض النقص لأن هناك من سيكمل من الجهة الأخرى عبارتك. تفترض الرسالة، أي رسالة، ثغرات، هي مساحات التواطؤ بينك وبين من “تراسله” أعني مساحات الذكرى، ومساحات ما يجب أن يقال أيضا. أدب الرسائل يفترض مسافة دائما، إنه ليس تواصلا بالمعنى الفعلي، انما تحية عن بعد، تقدير لحياة لا محاكمتها، ولكن احترامها على مسافة الحذر، مسافة عدم التورط، في مدينة لا ترحم المتورطين.