عفاريت الراديو

عفاريت الراديو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد خير

لم تكن الغارة تعني لي سوى عدد هائل من الشموع فوق الطاولة الخشبية التي تتوسط الصالة، كنت ألهو وقتها مقتربًا ومبتعدًا عن الطاولة، أقترب منها فيكبر خيالي على الحائط ويصغر عندما أبتعد، يجمعنا أبي حوله كأنه يحمينا، وبينما أختاي تقاومان النعاس كنت أراقب الظلام في الشارع حتى ينهرني أبي فأبتعد عن الشباك، بعد دقائق يستغرقون جميعًا في النوم حتى قبل انطلاق صافرة الأمان، وإذ أسمع تنويعات شخيرهم أقترب بهدوء من الراديو الروسي الكبير المستقر بجلال فوق الطاولة، يبدو كأنه قطعة من ظلام أشد دكنة، بالكاد أستطيع أن أطاله، أشبّ رافعًا يدي بينما تغوص أصابع قدمي في شبشب أبي العملاق، الراديو الثقيل جدًا يستجيب لجذبي إياه بصعوبة، أحمله على كتفي محاذرًا أن يسقط على رأسي فيسحقها، أدخل به إلى غرفتي وأجلس بجواره أرضًا وأحرك المفتاح فتنبعث الأصوات في العتمة، وتشتعل لمبة حمراء صغيرة تضيء مؤشر المحطات، أبحث حتى أجد أي أغنية، فألصق عيني باللمبة حتى يبدأ بصري بالزوغان، ورغم أنهم كانوا يتأخرون أحيانًا، إلا أنني لم أشك لحظة في مجيئهم، العازفون يسيرون ببطء وكبرياء أمامي داخل الراديو، حجمهم صغير جدًا يتقدمون من مقاعدهم ويجلسون، سلسلة من النغمات النشاز تنطلق بينما كل منهم يضبط آلته الموسيقية، ثوان ويظهر المطرب في حجم النمل الأبيض الكبير الذي كان يهاجم أثاثنا كل صيف، ينحني قليلاً ليضبط الميكروفون ويبدأ الغناء دون أن ينظر لي، أما الجمهور فلم أستطع رؤيته أبدًا لأنه كان يرقد بأقصى باطن الراديو بين الأسلاك والمسامير، فلا يصلني منه سوى التصفيق وهتافات الاستحسان .

هكذا كنت أظل راقدًا طوال الليل اتنقل بين أغنية وأخرى ومطرب وسواه، ممدد على بلاط الحجرة مستمتعًا ببرودته في قيظ الصيف .

وعدت من يومي الأول في المدرسة فوجدت أجزاء الراديو مفككة على الأرض، وهمست أختى لي بأن أبي حطمه في ثورة غضب على نشرة الأخبار، وبين التروس المبعثرة عثرت على الميكروفون الصغير جدًا ودسسته في جيبي، لكنه ضاع مني خلال مشاجرة مع فصل تانية تالت.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب