د. شاكر عبد الحميد
في مجموعته القصصية الجديدة “عطر الليل” يقدم لنا عمار علي حسن عددا كبيرا من القصص القصيرة جدا، هي أشبه، إذا استخدمنا لغة ابن عربي، “بعالم صغير فيه انطوى العالم الأكبر”، وإنه لعالم يمتح من مصادر عدة، لعل من بينها: قصيدة الهايكو اليابانية، وقصيدة النثر الحديثة، وكتابات المتصوفة وبلاغتهم؛ النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم، وكذلك من عالم القصة القصيرة لدى همنجواي وآلان روب جرييه وغيرهما، إنها كتابة تجمع بين كثافة الشعر وحرية اللعب وكذلك القدرة على التجريد.
يقترب هذا النوع من السرد، إلى حد، من ذلك النوع من التشكيل المسمى الفن المفاهيمي Conceptual art الذي يعبر من خلاله الفنان من خلال كلمات أو خطوط بسيطة قليلة عن مفاهيم أو تصورات يراها كبيرة، كما فعل كوسوث مثلا. وفي حدود معلوماتي هناك أسماء أسهمت بدور واضح في الكتابة المتميزة في هذا النوع، منهم: عاطف عبيد ومنير عتيبة وعمار علي حسن وغيرهم، كل ما أخشاه على من يكتب هذا النوع من الكتابة أن يقع في براثن التجريد والحكمة ولحظة التنوير التقليدية والمباشرة، فالاكتناز قد يحمل نقيضه ألا وهو التجريد، ومن ثم قد يفقد السرد حيويته وتدفقه وسعة أفقه.
هذه المجموعة متنوعة من حيث مساحتها، طولا وقصرا، فمشاهد وكلمات عالم هذه المجموعة أشبه بعالم كبير زاخر بالمكونات والعناصر والأدوار الخاصة بالبشر، والحيوانات، والطيور، والأشياء، والحالات النفسية، والتفاعلات الإنسانية.. وغيرها، وهناك مهن وأدوار كتلك الخاصة بالمذيعات، والقضاة، والمعلمين، والفلاحين، والراقصات، ولاعبي الكرة، والكتاب.. وغيرهم.
وهناك أيضا تلك الأماكن المتنوعة، كالحقول، وقاعات المحاكم، والبيوت، والأسواق، والشوارع، والمقاهي، والمكتبات، وأماكن عقد الندوات الأدبية.. وغيرها، وكذلك: الطيور، والحيوانات، والأطعمة، والجبال، والبحار.. وغيرها، وحالات نفسية مثل: الحب والكراهية والخوف والأمل والبهجة والأسى والسخرية.. وغيرها. ولأنه يصعب أن نحيط بكل ما تحتوي عليه هذه المجموعة من عوالم ومكونات، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى عدد قليل منها، وعلى النحو التالي:
أولا: الإرجاء وعدم الاكتمال: فهنا، وفي قصص عدة، تتداخل الأزمنة ومن ثم تتداخل الأحداث معها، فالأفعال التي كان ينبغي أن تحدث مبكرا، تحدث متأخرة، والتي كان ينبغي أن تحدث متأخرا تحدث مبكرا، ومن ثم فإن كل شيء يحدث في غير أوانه، ولذلك فإنه يفقد طعمه وجدواه ومعناه، فالذي كان ينبغي أن يتصوف في شيخوخته، تصوف في طفولته، والذي كان ينبغي أن يسعد برغباته ويحققها في مراهقته ورشده، أبطلها وقمعها وأماتها، وهكذا فإنه “حين اشتعل رأسه شيبا، وملأت التجاعيد صفحة وجهه، كان يقف أمام مدارس المراهقات، يوزع ولهه على من يسخرون من عواطفه المشبوبة” (قصة: مشوار).
وهذا الإرجاء الزمني للأفعال قد يكون إراديا وقد يكون قسريا، ويتجلى ذلك في قصص مثل: “موعد”، “اللقاء المنتظر”، “قزم ونخلة”، “موت الحارس” وغيرها من القصص التي تجسد حالات لم يكتب لها الاكتمال من الحب والسعادة والوعد أو النجاح. وفي حين أن علاقات البشر وحياتهم لا تكون مكتملة، فإن الأشياء تكون لها مكتملة، كما في قصص مثل: “حديد ودم”، “ساعة”، “باب” وغيرها، حيث الأشياء لها حياتها المفعمة بالأحلام والصور والمشاهد والألم والوعي والأسى على نحو يفوق ما لدى البشر من فهم أو إدراك.
وهكذا فإننا نجد هنا أن التواصل الإنساني لا يحدث في وقته المناسب، بينما لا شيء ينتظر “ولا شيء يبقى سوى التيه والخلاء”، وهذا ينقلنا إلى المحور الثاني.
ثانيا: تتجلى حالات حضور الأشياء وأنسنتها بقوة تفوق حضور البشر في قصص مثل: هاتف، ممحاة، مصعد، كرة، شاحنة، حجر، قزم ونخلة، خولي الأنفار، سلام، شجرة، نعش، حقيبة، وغيرها. ويرتبط ذلك أيضا بما يحدث في القصص من “الأنسنة للأشياء”، فنجد الهواتف والأحجار والعصي وكرات اللعب والأزياء والأشجار والحقائب وغيرها تتحدث بلغة البشر، تحكي حكاياتهم، وتسرد حياتهم؛ أفعالهم وتفاعلاتهم وآمالهم وطموحاتهم ودوافعهم وإحباطاتهم، صراعاتهم وفشلهم، وكذلك ترصد لذلك الزمن الذي مر عليهم معها، مع هذه الأشياء.
ويرتبط بهذا الأمر ما يحدث من تحول للحي إلى ميت وللميت إلى حي، وكأن من لا يمتلك روحا يمتلكها هنا، بينما من يمتلك تلك الروح يفقدها هنا، هنا الأشياء أكثر حياة وحيوية وذاكرة ووعيا ورصدا للأحداث من البشر، وهنا البشر أكثر غيابا وغفلة وموتا من الأشياء، وهنا نوع من النزعة الإحيائية Animism وكذلك نوع من الإضفاء لوحدة الوجود على الكون والبشر والأشياء، وكأن الروح قد حلت هنا في كل شيء ولم تفارق أي شيء، لكن حلولها يكون بمقادير متفاوتة وبمواضع متناقضة، فالحي غير حي، فقد روحه وأصبح غريبا في هذا العالم، بينما الميت الجامد أصبح حيا وصار يتحدث عن الوجود بلسانه واسمه، هكذا نجد نوعا من الأنسنة أو الإحيائية للأشياء، وكذلك نوعا من التجسيد الفيتيشي لها، حيث الجزء يحل هنا محل الكل، وعلى نحو دالٍّ وغريب.
الأمر الثالث المهم في هذه المجموعة هو تلك القدرة على تكثيف العالم الأكبر وتلخصيه في عالم أو شكل أصغر، أي على تصوير حياة الإنسان بكل ما جرى فيها من أحداث، وما اعتورها من تغيرات، وما طرأ عليها من تبدلات من خلال عدد قليل من الكلمات، من خلال مشهد واحد يضم بين جنباته مشاهد الحياة كلها، هكذا يتم سرد حياة الراوي/ السارد منذ انتقاله من ريف مصر إلى القاهرة، ثم التحاقه بالجامعة ومشاهدته لرجل “في أواسط العمر يقف على جانب ميدان طلعت حرب وفي يده دفتر باسم جمعية خيرية يجمع تبرعات لبناء مسجد”، ثم يحكي هذا السارد كيف تطورت حياته بعد ذلك، فتخرج من الجامعة، وارتقت حياته من العيش في غرفة صغيرة في البداية، إلى شقة واسعة، كما أنه تزوج وأنجب وأصبح ابنه الأكبر على أبواب الجامعة، ثم دخل مرحلة المشيب وبدأت صحته تعتل، لكنه بعد تلك السنوات كلها، مر من هناك، عبر ميدان طلعت حرب ونظر إلى ذلك المكان القديم، فوجد ذلك الرجل لم يزل موجودا يمسك بدفتره يدعو الناس للتبرع، صحيح أن العمر قد تقدم به، لكنه لم يزل على حاله لم يتبدل أو يغير موضعه، هنا تأكيد على ذلك الثبات الجوهري الملازم للشخصية، المكان والفعل، على الرغم من تبدل الزمن ومروره، وهنا إيحاء بأن التغير الذي يطرأ على المكان وعلى الشخصية في مصر، تغير ظاهري، غير فعال ولا ملحوظ، وذلك لأن الجوهر ثابت، والعقل ثابت، والمكان ثابت، والثبات هنا أيضا قرين الموت، الثبات ليس شيئا إيجابيا دائما، الثبات قد يكون إيحاء بوجود مومياوات تنتمي إلى الماضي تمشي في الشوارع في هذا الحاضر، تدعو الناس للتبرع من أجل دفنها من جديد في المستقبل.
يحدث الأمر نفسه في قصة “تغيير”، والقصة تحوي دلالات تناقض عنوانها، فهي تجسد حياة رجل يعيش في قرية ما، يبدأ في هدم بيته القديم الذي تم بناؤه بالطين، ويحوله بعد ذلك عبر مراحل متتابعة إلى بيت حديث يقوم على أعمدة الحديد والأسمنت، يتغير شكل البيت من الخارج عبر الزمن، لكن ساكنه، صاحبه، يظل كما هو يلقي بالقمامة أمام منزله، ولا يسلم الناس من بذاءة لسانه ولا من روائح كريهة تتصاعد منبعثة من طعامه الرديء الذي يقوم بطهوه، لقد تغيرت حياته ماديا وظاهريا، لكن روحه وأفعاله ظلت كما هي، سيئة كما هي، بليدة كما هي، وكأنه هنا، أيضا ميت في صورة حي، مومياء تبني مقبرة حديثة في قرية مهجورة كي تدفن فيها، إنه أيضا مثل صاحبه ذلك الذي كان يجمع التبرعات في شارع طلعت حرب في قلب القاهرة.
وتتجسد حالات استغراق الناس في الماديات والغرائز وشهوة الامتلاك بينما تكون حياتهم أقرب إلى حياة البهائم والمسوخ. في قصة “ربطة عنق” نجد رجلا غارقا في الإشباعات الحسية، المتعلقة بالطعام والجنس، لكنه عندما يتهيأ للخروج ويلف ربطة العنق حول رقبته مغمض العينين، يجد نفسه، عندما يفتح هاتين العينين، مسخا غريبا هجينا ميتا. يحدث الأمر نفسه في قصة “ساعة”، فالساعة القديمة تظل حية تعمل كما هي على الرغم من مرور الزمن، بينما صاحبها أصبح معطوبا عاطلا بعد أن تقدم به العمر، وأصبح هو الذي في حاجة إلى إصلاح.
رابعا: الأمر الرابع الجدير هنا هو ذلك الولع بعالم الأحلام والكوابيس، ذلك التداخل بين عوالم الصحو والنوم، ونجد ذلك، تمثيلا لا حصرا، في قصص مثل: “جمال”، و”عش”، و”نوم”، حيث تحتوي الأحلام دائما على صور ومشاهد قريبة من عوالم الفراديس والجنان، حيث الطيور والأشجار والأنهار والفراديس والتحرر من العناء الأرضي والرغبات الضاغطة، حيث كذلك الأحلام تنقل رسائل كان ينبغي على أصحابها أن ينتبهوا إليها عندما استيقظوا، كما في قصة “نوم” مثلا.
ومع أحلام النوم هناك أيضا ذلك الحضور للصور الشبحية للأشياء والذاكرة والأشخاص والأفعال، كما في قصص “رقص” و”ذاكرة” و”دمينو” وغيرها، حيث يظل الأثر المتبقي من الرقص واللعب والتحديق في الجدران موجودا كما هو، ومع أحلام النوم هناك أحلام اليقظة التي تتجلى لدى شخصيات عدة في هذه المجموعة، ومنها مثلا ما يظهر في قصة “صور” حيث ذلك الطفل الفقير الذي يصعد فوق إحدى البنايات ويحدق في أطباق الفضائيات اللاقطة المبعثرة هنا وهناك، فيرى صور الأفلام ومباريات كرة القدم وقصص الجد، وأفلام الكرتون وأفلام الحيوانات، وعرائس الماريونيت، والأنهار الجارية، والأسود التي تهاجم الوعول، وغير ذلك من الأمور التي كان يحلم برؤيتها، يراها كلها تنساب أمامه خارجة من تلك الأطباق، لكنه ما يلبث أن يعود إلى حياته العادية البائسة.
هذه المجموعة، وهي السادسة لكاتبها إلى جانب عشر روايات وعدد من الكتب في التصوف وعلم الاجتماع السياسي والنقد الأدبي، فيرصد ويلتقط برهافة، يتوالى فيها السرد الممتع في عوالم كبيرة متعددة متنوعة، وقد تجسدت في كلمات وصور ومشاهد وقصص صغيرة، لكنها، هنا، قصص أشبه بعالم أصغر فيه انطوى العالم الأكبر.