عند منتصف النهار تفرض الشمس سطوتها على الكون , يعزف الشارع ضجيجه بألات الضوضاء , أبواق السيارات , هتافات الباعة الجائلين التى تشبه صرخات حيوانات مذعورة , يخرج العيال من المدارس , يقذفون الطوب بعبث فى كل الاتجاهات , يشكلون سحابة من غبار , لا تتحمل أعصابه هذ ه المقطوعة الصاخبة ينسحب إلى الداخل : ستديو على بابا للفتوغرافيا الحديثة . يعد كوبا من الشاى على سخان كهربائى , يرتشف بهدوء صوت المنشاوى , أم كلثوم , يغلق المذياع بعد نشرة الأخبار , يمدد ساقيه على مكتبه الخشبى المتهالك وهو يتألم من خشونة ركبتيه , ينظر إلى الصور القديمة المعلقة على جدران الاستديو , بعضها يكسوه التراب تماما , والبعض بهتت ألوانه , غزل العنكبوت خيوطه باطمئنان تام فى زوايا الأطر الخشبية والمعدنية … , يغفو قليلا حتى قبل العصر , يحدث ذلك كل يوم , لكن ما حدث عقب عصر هذا اليوم لم يجد له تفسيراً, كان يتناول شاى العصارى , يتلصص على حركة الشارع من خلف الواجهه الزجاجية , فتاة تعبث بأنامل فتى متكاسل عن الحب بينما يعبث الهواء بذيل فستانها , نهدان يتقافزان على حبل الغسيل فى بناية مقابلة , ضرير يضرب بعصاه الأرض متلمسا طريقه , رجل يتمطع ليحمل حقيبة ثقيلة , سيارة عابرة بها سيدة تنفخ دخان سيجارتها بعصبية زائدة …. فجأة ضربت عاصفة صامتة الجميع , ساد الصورة سكون مخيف , حل جمود قاتم على كل شىء , , توقفت السيارات , عصا الضرير صارت معلقة فى الهواء , بقى ظهر الرجل مقوصا تحت عبء الحقيبة الثقيل , بدا النهدان كقطين جامدين من المرمر, تخشبت يد الفتاة قابضة على يد الولد , ذيل الفستان توقف عن الرقص كاشفا عن أسرار لذيذة , أصبح الجميع تماثيل باردة , ظل دخان السيجارة عالقا مشكلا خيطا رفيعا , سكن الهواء الذى ينفذ من تحت أعتاب الباب , بيييييييييييييييييبببب طويلة لا تنقطع , صوت عبد الباسط فى المذياع كان جليا فى امتداده المستمر ……. والسماااااااااء , لم يستوعب , حرك أصابعه , هز رأسه , تحرك حركات مضطربة داخل الاستديو , اطمأن إلى أن يد الجمود لم تلمسه , أخذ يتطلع ثانية إلى الصورة , كأن أحد رش الجميع بعطر السكون , تمنى أن يصعد إلى السطوح ليشاهد بانوراما الصمت فى كل أنحاء المدينة , تراجع عن قراره , لا يحتمل أن يبقى تمثالا , حاول أن يتغلب على قلقه ’ أخذ ينظف زجاج الواجهه الزجاجية , بدأ الزجاج يلمع , تجلت صلعته على سطح الزجاج , لم يفعل ذلك منذ زمن طويل , لا زبائن تأتى , يفضلون الألات والكاميرات الحديثة وخدع الكمبيوتر التى تجعل ولدا يقبل فتاة على سطح القمر , كان يرى ذلك مسخا باهتا للواقع , رفض أوامر أبناءه فى إغلاق الاستديو …… حياتى كلها هنا
تناول منفضة من الريش , لم تتفهم العنكبوت وهى تجرى هذه الحركة المفاجئة , أخذ يزيل الغبار عن الشخصيات الجبيسة داخل الأطر والبراويز , يكنس التراب من على وجوهها , تتضح معالمها تدريجيا , هذه الشفاه المكتنزه لسيدة يونانية , هذا الغليون لسفير على ما يذكر , الشارب الكثيف لصعيدى أصيل , … نعم هذا العريس الذى طلق زوجته على باب الأستديو أثناء الزفة , لم تعد سيارات الزفة تصطف أمام الباب , أخذ يلمع أكثر , يعيد إلى الألوان نضارتها , تستعيد الشخصيات عافيتها , امسك صورة كبيرة بدت لفتاة , رش منظف الزجاج , دعك بقطعة من الأسفنج , اتضحت المعالم, فستان من الدانتيلا , حذاء بكعب عالى , دعك الأسفنجة أكثر , يبدو أنها كانت تتراقص , حاول أن ينفض الغبار عن ذاكرته , لم يتذكر , عندما استدار سمع صوت طقطقة البرواز الخشبى , قفزت الفتاة من الصورة , ترقص , تتمايل , تلف على قدم واحدة , يتطاير فستانها , يحلق , اضاء مصباح غرفة التصوير , يمسح التراب عن العدسة , اشعل الكاميرا , يشد بفرح خلفية بلون البحر , فلاش , الفتاة تقفز من مكان إلى مكان , من وضع إلى وضع , يلهث وراءها , فلاش , يشعر بإرهاق لذيذ مع ألم الروماتيد , تقف الفتاة على أطراف أصابعها, يلهث , فلاش , تجرى ناحية الباب , يصرخ ,. يطلب منها أن تتراجع , تتنحى فى دلال , تنفذ إلى الخارج , ترقص بنشوة وسط السكون , يتابعها من خلف الواجهه الزجاجية بحسرة , ككرة مطاطية يعاود النهدان القفز على حبل الغسيل , صدح الصوت :
(اااااااااء وما بناها ) جلس مستسلما على كرسيه الحشبى