حاوره: مازن حلمي
“عصام أبو زيد” اسم بازغ الحضور في المشهد الشعرى المصري والعربي، من شعراء قصيدة النثر المغايرين. تمتاز تجربة “أبو زيد” بالبساطة الماكرة، والخيال الجامح، فهي قريبة جدًا للقارئ، عصيّة جدًا للمبدع. يمتلك لغة طازجة، وعالمًا سرياليًا، محببًا في الآن ذاته. مثل كبار الموهوبين أعلن عن شعريته باكرًا. إذ صدر ديوانه الأول “النبوءة” 1990 وهو في التاسعة عشر بمقدمة احتفائيّة للروائي الكبير “خيري شلبي” بعنوان “سارق النار من أدونيس”. بدأ بقصيدة النثر والقصيدة الموزونة التفعيليّة، نشر قصائده الأولى في مجلة “القاهرة” ومجلة “إبداع ” ثم اتجه بشكل كامل لكتابة قصيدة نثر رائقة في ديوانه الثاني “ضلوع ناقصة” 1996. جاءت قصائده قصيرة، مكثفة كلدغات النحل، شهيّة كمذاق العسل. فيما بعد اختفى فترة طويلة شعريًا، وجغرافيًا، حيث كان يقيم ويعمل في “السعودية” مديرًا لتحرير مجلة “سيسرا” وفي عام 2011 عاد إلى الشعر مثل وحش جائع. تقريبًا كل عام أو أكثر قليلًا هناك ديوان مطبوع له.. على النقيض من مجايليه لم تستغرقه قصيدة التفاصيل اليومية السائدة، ولا كتابة الجسد، أو الوقوع في أسر النموذج اللبناني، أو الغربي. كانت الذات ومعاناتها، والأجواء الريفيّة محور اهتماماته مع مسحة فلسفيّة تغلف الكتابة في المرحلة الأولى. بعد ديوانه الثالث “كيف تصنع ديوانًا يحقق أعلى المبيعات” 2012 ضبط بوصلة الشعريّة في اتجاه المرأة، ووجد خلاصه بين يدي محبوبته. بمناسبة ديوانه الجديد “أفلام قصيرة عن حياة العصافير” 2024 وهو الحادي عشر في رحلته الإبداعيّة، كان لنا هذا اللقاء معه؛ لنتعرف عن قرب على ملامح تجربته الإبداعيّة.
* في البداية نود أن نعرف ما هي مصادرك الشعريّة، والفنون الأقرب لذائقتك؟
– أنا رسّام قبل أن أكون شاعرا. جاء الشعر بعد الرسم. وأذكر هنا مقولة للفيلسوف اليوناني “بلوتارخ”: “الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلّم”. هل أقول لك سراً؟ هوايتي الأثيرة استكشاف الموسيقى عبر العالم وخصوصاً موسيقى الشعوب البعيدة عن دائرة الضوء. وإليكَ هذه المقولة التي تحمل اسمي: “لا شيء يحدث خارج الموسيقى”. وعموماً ستلاحظ أن لا إجابات دقيقة على أسئلتك؛ هذا لأنّي لا أعرف الجواب الحتمي عن الكتابة. الشعر هو ما لا تختاره، يأتيك دون وعيك او إدراكك، يأتي في لحظات تشبه الغيبوبة. ينسل داخل رأسك على غفلة منك. متسللاً، متألقاً، متألماً هادئاً غاضباً عاشقاً… يأتي على غفلة منك فيدخل روتينك اليومي وغرفة نومك وطعامك ولوحاتك وموسيقاك واشتياقك ماضيك وحاضرك أحلامك وصورك القديمة وحبيباتك الخرافيّات. لا شكل لما يجتاح رأسك. وبعد انقضاء هذا الاستلاب تعي بأنّك على وشك كتابة القصيدة فنسميها شعرا… أعتقد بأن شكل ومضمون القصيدة ليسا إراديّين تماماً مهما حاولنا، صحيح بأن كثرة التجارب والتمرس يبلور قدرتنا على الكتابة. لكنّه ليس الشعر نفسه. هو الأسلوب أو القالب الذي نضع فيه قصائدنا.
* في قصيدتك تصنع مناخات عجائبيّة، وأجواء خرافيّة متخيّلة غاية في الدهشة والبهجة… هل تعتبر نفسك شاعراً سورياليّاً؟
– مشروعي الوحيد هو التسلية وأتمنّى أن أنجح في تحقيقه؛ أن يتحوّل الشِعر إلى تسلية لطيفة ومنعشة… مثل الذهاب إلى مدينة الملاهي قبل غروب الشمس والبقاء هناك حتى وقت متأخر من الليل، ثم العودة في سيّارة تتعطّل كلّ خمس دقائق فنضحك ونهبط إلى الشارع وندفعها بأيدينا، ومع ضوء لامع لسيّارة أخرى قادمة من بعيد؛ نكتشف أنّنا هبطنا من مركبة فضائيّة فوق هذا الكوكب، وأنّنا جميعاً نتحرّك في هيئة أطفال ونفعل كلّ شيء… حتى الحب نمارسه كلعبة طفوليّة: اللقاء والعراك والفراق. هل تعلم أن عمر الحب يوم واحد وينتهي؛ لأنّه – وسأستعير هنا تعبيرك الوارد في سؤالك – مناخات عجائبيّة، وأجواء خرافيّة متخيّلة غاية في الدهشة والبهجة. ولكن، وفي اليوم التالي تتجدّد الأرواح ويولد يوم جديد من عمر الحب.
* تكتب قصيدة واحدة طويلة في عشق المرأة حتى أن بعض الدواوين كانت بلا عناوين، مرقمة فقط… كيف ترى هذا الأمر؟ ألا تخشى الوقوع في التكرار؟
– المرأة في قصائدي هي اللغة نفسها، أليست اللغة أنثى؟ أبدأ وأنتهي بها. ليست المرأة النمطيّة أو الصنميّة، هي امرأة البداية والنهاية والمنتصف، هي أمنا الأرض التي ستغمرنا في ترابها، في النهاية هي الأم التي تكونّا في رحمها وأرضعتنا الحياة، هي الحبيبة المنشودة. نعيش ببحث مستمر ودائم ولا نجدها. هي القصيدة والشجرة والماء، هي الملهمة والساحرة ومجرى الأنوثة في القصائد. ولا أخاف من التكرار لأنّنا لن نصل إليها فنكتب فقدنا وأحلامنا المهدورة في البحث عن المستحيل… أنا أكتب بلسانها وأكتب عنها. وأقتلها لأحييها لأخلق في كلّ مرة امرأة مختلفة لقصيدة مختلفة.
* رغم أنك تنطلق من أفكار شعريّة مجنونة، فإن لغتك سهلة، وجميلة، لا تشبه لغة الترجمات ولا لغة المعاجم… كيف عملت عليها، وسويتها بهذا الشكل؟ هل تعتقد أن اللغة أداة توصيليّة أم من صميم التجربة الشعريّة؟
– أعتقد بأن أمر اللغة متروك للذائقة الشخصيّة دون افتعال. هي كذائقتي في سماع ما أحب من موسيقى وأغنيات، وألوان ثيابي، ما أحب تناوله من طعام وشراب، وأوقات نومي، وعزلتي، ورقصي البدائي سراً في غرفتي، وخيالاتي. اللغة هي حواراتي مع الكائنات، هي لغة أحلامي نائماً أو يقظاً، هي لغة الباعة والشوارع والذكريات. هي كل ما نحن عليه هي عشقنا وحزننا وفرحنا. لأنني أكتب للتسلية بعيداً عن الأفكار الكبيرة والأثقال التي تعلّق على كاهل الكتابة، والتنظيرات الفضفاضة. ولو فكرت باختيار اللغة لاخترتها تشبه لغة الأطفال أو أغنيتي المفضلة او محادثة بين حبيبين أو شخبطاتي في الرسم. أما الفكرة هي ما تبني عليه اللغة بنيانها فيتشاركان الجنون. هي حبة الفاصوليا العملاقة مثلاً، أو قيادة سيّارة من الأناناس، أو الحبيبة النائمة داخل قطرة ماء… ومن المؤكد بأن هناك الكثير من الأفكار العامة التي نتشاركها بقوالب مختلفة.
* اشتعل نجمك الشعرى باكرًا ثم اختفيت، وغصت في عزلتك. بعد ذلك عدت للكتابة بنفَس جديد وروح متألقة… نريد أن نعرف أسباب الغياب، ومحفزات العودة للكتابة اليوميّة؟
– بدأتُ باكراً حينما باغتتني الكتابة. صحيح كتبتُ ونشرتُ في سن مبكّرة وتنامى وتصاعد نجمي كما تقول في سنوات الدراسة بالجامعة وكانت فترة غنية مليئة بالتجارب والتنوع. لكن دائماً كنتُ أبحث عن شيء لا زال ناقصاً أو حالة لم تأت بعد… هذا الشوق لشغف خفي، جعلني أفكّر أنّني لا أريد الكتابة ولماذا أكتب؟ وكنتُ أقول دائماً بأن الكتابة ليست حبّي الأوّل واعتقدت بأنّي لا أحبها أيضاً؛ فتوقفت. أعتقد بأنه ليس قرارك كما ذكرتُ في إجابة سابقة. هو الشعر نفسه يبتعد عنّا إن لم نعترف له بحبنا. ابتعدتُ لوقت طويل فعلاً وانشغلتُ بالعمل والسفر وأفرغتُ حياتي من الكتابة وعوضت ذلك بشغفي الأوّل بالرسم والموسيقى كما أن مشاغل الحياة أخذتني في طريقها، وبعد عودتي من السفر كأنّني عدتُ إلى مسرحي وعادت الكتابة إليّ محمّلة بسنوات وأحداث غادرتها وابتعدت عنها. ربما هي حالة التخمّر تحتاج لكلّ هذا الوقت.
* لست ضمن جماعة أو شلة أدبيّة، كما إنك قليل الحضور والتواجد في الفاعليات الثقافية، في رأيك ماذا يحتاج الشاعر كي يكتب غرفة فقط، أم عناق العالم؟
– ابتعدت بشكل كامل عن الحياة الثقافيّة وكان قراري صائبا. لا تستهويني الحياة الثقافيّة ولا الشللية وليست غايتي. بنيت عالماً خاصاً داخل غرفتي. أعيش فيها الحياة كما أحبها: أستحضر أصدقائي، وملهماتي ومدني ورسوماتي. أجيء بالمكان إليها بدل الذهاب إليه. أستمع للموسيقى التي طالما أحببتها دون أن يعكر عليّ أحد هذا الصفاء، عزلتي تضج بما أحب وأتمنّى، ليس بالمعنى المادي طبعاً، مع الاختراعات الهائلة التي وهبنا الله: المخيلة، الذاكرة، والأحلام. كما أنّني أكتب وأرسم أحياناً وأستمع للموسيقى دائماً. وأحب، وأمارس الرياضة، وأغفو، وأحلم، في غرفة واحدة، وكأنّها عالم شاسع.
* تمارس الكتابة كلُعبة مفضّلة وهواية تحرص عليها دون أفكار كبيرة كالخلود وتغيير العالم.. ماذا يمثّل لك الشعر؟ هل يستحق الشعر أن يفنى الشاعر حياته من أجله؟
– الكتابة حالة جماليّة ولا أحب التنظير والفلسفة بأن الشعر سيغير العالم وهو سلاح تغييري.. إلخ. الشاعر لا يستطيع تغيير نفسه أساساً. الشعر حالة جماليّة من لغة وصور. لسنا بصدد تشريح الشعر بنيويا. هو إطار للحظات الوحي أو الإلهام أو الحدس أو الوهم… التمنيات أو الرغبة نقطفها بلا وعينا ونكتبها. القصيدة ليست بمهمة حياتيّة أو نضاليّة. القصيدة تصنع نفسها وتؤدي مبتغاها دون شرط. تتلبسني فأكتبها. الشعر هو الوهم الجميل الذي نلجأ إليه عندما نحب ونحزن ونبكي ونفرح ونشتاق ونفقد. إذن هو بمعنى ما يجسد حالاتنا البشريّة بوجدانيّة لا نملكها أحياناً كما القصيدة. إذن أنا أكتب لسبب لا أعرفه. ولن أحمّل الشعر أكثر أو أبعد من شاعريته. أما ما تضمن سؤالك هل يستحق الشعر أن يفنى الشاعر من أجله؟ أعتقد بأنّها مبالغة، الشاعر لا يفنى من أجل الشعر بل يغنى أو يثرى، لأنّه سيبقي أثرك طويلاً طويلا إن كنتَ شاعراً.
* المكاشفة، والبوح، وتعرية الذات أحد خياراتك الجمالية في كتابة القصيدة، إذ تلجأ إلى استخدام ضمير المتكلم، وتقنية الحوار بكثرة. وضّح ذلك؟
– من ناحية تعرية الذات، أجمل ما في القصيدة أن تكونها وتكون ما تكتب عنه. نعم تتعرّى في القصيدة وتمارس الحب أيضاً تتألم وتصرخ وتحتج تلقي خجلك في المساحات الضيقة لتتخفف من الأعباء والمحاذير. في القصيدة تكون أنت وسواك. في القصيدة تكون العاشق والمعشوق وتكون كلّ الأشياء واللاشيء. ألا يحق للشاعر ما لا يحق لغيره (هذا ما قيل).
* يمكن القول إنك من شعراء الفضاء الأزق “الفيس بوك” ماذا يمثّل لك هذا الوسيط الجديد؟ ألا ترى خطورة على مستوى الشعر من هذا الكم الهائل من النصوص، فقد صار الجميع شعراء بضغطة زر؟
– هذا الفضاء الأزرق “الفيس بوك” هو من ساهم بنسبة كبيرة في عودتي إلى الكتابة بعد انقطاع طويل، هذا الفضاء المستجد الذي جعل العالم أصغر، والذي أوجدنا به قرّاء من كل أصقاع العالم، جعلنا نعبر كلّ الحدود لنقيم هنا وهناك نزور البلدان ونتعرّف على عاداتهم وثقافاتهم وطعامهم ورقصهم وعاداتهم ولغاتهم. هو التماس والمشاركة مع الآخر، والتفاعل الصادق مع القارئ أو المتابع لأنّه غير مجبر على المجاملة إذا استثنينا البعض الذين تربطنا بهم علاقات إنسانيّة أو اجتماعيّة. هذا الفضاء الأزرق أتاح للجميع التعبير عن نفسه دون خوف أو قيد وهذا ليس سيئاً على الإطلاق. فالكتابة ليست حكراً على أحد. وهذا لا يعني بأن كلّ من كتب الشعر هو شاعر، وليست مهمة الفيس بوك تقييم الكاتب وتصنيفه، بل مهمته فتح مداه الأزرق للتجارب، للتعارف، للالتقاء، للاطلاع، والتواصل وتقريب المسافات. هو المسرح المفتوح على هذا الكوكب، والمعرض التشكيلي والموسيقى اللامحدود والأمسيات الشعريّة. هذا الفضاء الافتراضي اقترب من الواقع فكاد يكونه أو كانهُ… هذا الفضاء المفتوح فتح ذراعيه لكل احتمال. من شعر وحب وصداقة إلى ما لا نهاية الاحتمالات.
* لك تجربة وحيدة في كتابة الرواية وهى “يوميات ناقل أسرار”2011 حدثنا عن هذه التجربة؟
– لا يعلم الكثيرون أنني بدأت بكتابة القصة القصيرة جنباً إلى جنب مع كتابة القصيدة، ولكن القصيدة خطفتني واستمر الحال لسنوات طويلة، ثم رغبت أن أكتب شيئاً من سيرتي الذاتيّة في قالب روائي فجاءت روايتي “يوميات ناقل أسرار – سيرة ذاتيّة متخيّلة” وهي رواية قصيرة وجدت نفسي خلالها أحطم الشكل الروائي وأسخر منه. ولعلمك سينجح الشعر في الاستيلاء على الرواية قريباً، ولا يعني ذلك أننا سنشهد رواية شعريّة أو شعراً روائيّاً، بل سيصبح الشعر هو الرواية، وكل ما نكتبه الآن تحت مظلة الشعر يندفع بقوة إلى هذا المصير.