عصافير الجنة

ناصر الحلواني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

بأصابع وردية دقيقة، نحمل كراساتنا القديمة إلى شرفتنا، نفك أوراقها المسوَدّة بما خططناه فيها، في العام المنتهي، نشرع في تمزيقها إلى شرائح صغيرة، غير عابئين بانتظام أشكالها، فتنمو أمامنا كومة من العصافير الشغوفة، مثلنا، بالخلاص من تعلقنا بالأرض، والطيران.

نأخذها بين أيدينا الصبية، ونطلقها، أفراخا وليدة، إلى فضائها الأول، أسراب من القطع الورقية، تتراقص كأرواحنا في الهواء، كلٌ منها إلى سبيل، وجميعها تصعد، تملأ السماء فيما بين الشرفة والعالم من حولها، نرقبها بمتعة صائحين: “عصافير الجنة”.

لا أذكر أن أحدا علمنا أن نفعل ذلك، أو أن أحدا دلَّنا على اسم اللعبة، ذلك الاسم السحري الغامض، لم نكن نفكر في الأمر، كأنها خبرة فطرية وُلِدنا بها، أو ربما لقننا إياها ذلك المَلَكُ الذي يهبط بأرواحنا، ونحن بعد في أرحام أمهاتنا، ببساطة، صارت اللعبة في حياتنا كحياتنا نفسها.

لم نكن نتساءل لماذا هي عصافير، ولماذا الجَنَّة، فما كان ذلك يناسب طفولتنا، ولكننا كنَّا نراها عصافير، تلك القطع الورقية المسطَّرة بأعمالنا، وواجباتنا المنزلية، ورسومنا الساذجة، عندما كانت تحوِّمُ في فضائها بحرية، وتسبح في بحرها غير المرئي، تلتف حول نفسها بسرعة، تتخبط أو تتباعد. كنَّا نراها من الجنَّة، أو ربما هي راحلة إليها، أو لعلنا كنَّا نشعر بتلك المتعة النقية الصافية، فنحسبها، بمعارف طفولتنا الأولية، متعة الوجود في الجنة.

كانت الكراسات لا تنفد، وكذا أعمالنا، لكني أذكر، مع كل عام، بحلول الصيف، حين يحلو لنا أن نتخلص منها، أن عصافيرنا كانت تهوي بنحو أسرع من العام الفائت، لم يكن السبب واضحا برغم ما كان من نمو مداركنا، ورؤوسنا التي تزداد ابتعادا عن الأرض، واقترابا من حرارة لمبات حجراتنا الصغيرة، ولكنَّا ما نزال في عمر يلهو بالأوراق الممزقة.

لعلنا كنَّا نفهم لماذا تهبط أغلفة الكراسات أسرع من غيرها، فلونها القاتم، وخشونتها البادية، كافيان لأن يضيفا إليها ثقلا ليس لغيرها، أما الأوراق …!

لم تعد العصافير بالخفة ذاتها، كل صيف أثقل من سابقه.

في حومانها، كان للأوراق وميض، نورها المطلوق فرحا بحريتها، بخلاصها من أسر الأغلفة السخيفة، وجروح الدبابيس المعدنية، المغروزة في قلبها، والتي تؤلمها ولا شك، حتى أننا كنَّا ننزعها من قلوبها ببطء وحرص شديدين.

ولكنَّا كنَّا نوقن أن تمزيقها يُسعدها، ألم يكن يخلصها من هيئتها المفروضة عليها، ومن تكدسها المزعج، ليعيدها فرادى، إلى حالها الطبيعي، تشكيلات رائعة وغير منتظمة، أشبه بأوراق شجرة تمر بخريف مبهج، فينضو الموت عنها، وبتمزيقنا لها، كانت أوراقنا تحلِّق إلى مسافات أعلى، لأزمان أطول، تهيم فيها قبل أن تبدأ عودتها النهائية إلى الأرض.

حينها، أشبه بأفراخ طيور كنَّا، يكسو الزغب الخفيف أرواحنا، ومعارفنا التي ولدنا بها، وخيال مثل لعبة فطرية، نصنع به بيوتا بسيطة، ونزرع زهورا تحيطنا بأريجها، ونوجد فراشات شفافة ملونة، وربما أرانب وردية، وأشجاراً تثمر ألعابا، وملائكة ترافقنا، تسكن أكتافنا الصغيرة، تنير لنا أمسياتنا المظلمة، وترعانا، نلمسها كلما رغبنا في تحقق أمنية، فنجوب البلاد البعيدة، نتأرجح على أطراف أهلة، نمتطي طيورا أسطورية، وأحصنة مجنحة، وبُسُطاً سحرية، نستحيل أمراء، تمنحنا التعاويذ المطمورة الجمال والقوة، تحبنا الأميرات، نحل لهن ألغازهن، ومهورنا إليهن فرس من ذهب، أو ريشة عنقاء، أو قنينة من ماء المحاياة.

كانت أحلامنا هي جنتنا الأولى، يرافقنا فيها ملائكتنا، وتهب عصافيرنا الخفيفة لتصعد إلى أقصى السماء.

كنَّا ندرك، وهي تملأ الفضاء بألق تخبطها وحومانها، أنها عائدة إلى الأرض لا محالة، لم نكن نهتم بذلك حين نطلقها من بين أكفنا، فقط نستمتع بوجودها هناك، نراها في جنتها المؤقتة، مثل زهرات ليلك شقية، تلهو على سطح بحيرة نائمة، أما هي، فكانت تَرِفُّ وفي نسيجها يكمن يقينها بنهايتها المؤلمة، كانت تُدَوِّمُ حول نفسها بسرعة، كأنما تقاوم تيارا حاسما يجرفها، تحاول الإفلات منه، تدفع نفسها لأعلى، أو تتعلق بموجة هواء حارة صاعدة، لا تلبث تلك أن تزيحها إلى أخرى باردة، تنحدر بها إلى تراب الطريق.

ربما لو استطاعت أن تنفض المكتوب عليها، تلك الخطوط الساذجة، غبار معارفنا الأولى، ولعلها فعلت، لكنها ما كانت لتقدر أن تتخفف من قشرة أعمالنا، التي امتزجت بنسائلها الواهنة، لا تملك أن تقصيها عنها، كالخبرة المحفورة في ذاكرتها، لا مناص من ثقلها.

الآن، إلى شرفتي أخرج، محملا بالعمر، وخيالات طفولة، وصور أوراق تتهادى بين النسائم، شرفات أخرى تطير إليها عصافيري، أطفال آخرون يلقفونها كالحلوى اللذيذة، وشوارع تهبط فيها على العابرين، تلمس أكتافهم المهمومة، فتلتفت ملائكتها، للحظات.

وإلى شرفتي، الآن، آخذ بعض أوراقي القديمة، أجلس على الأرض الباردة، أستعيد ذكرى صبي، وأمزقها إلى قطع أصغر مما اعتدت حين طفولتي، أُخادع بمنحها خفة أكبر، يصير أمامي الكوم الهائل، أحفنه بيدَيّ الكبيرتين، أقوم إلى فضائي، أقذف بها عاليا، فلا تصعد إلا بقدر ما كان من دفعي لها، ثم تَهوي الأوراق سريعا، تنجذب بأثقالها، أراوح بكفٍ فزعة بين كتفي، أبحث عن ملاكٍ رفيق، فيما تظل في انحدارها الكثيف، فأغمض عينيَّ، وفي هدوء كهل، أسمع رنين  اصطدامها  بالأرض.

 

مقالات من نفس القسم